07 نوفمبر, 2019

كلمة فضيلـة الإمـام الأكبــر أ.د/أحــمَد الطَّـيِّــب شَـيْخُ الأزهــر الشَّــريف بمناسبة "الاحتفــال بالمولـد النبـوي الشريف"1441هـ -2019م

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمدُ للهِ رب العالمين، وصلى الله تعالى على سَــيدِنا ومولانا محمد وعلى آله وصَحْبِه. 
سيادة الرئيس/ عبد الفتاح السيسي – رَئيسَ جمهوريَّةِ مصر العربيَّة              حفظه الله ورعاه 
الحَفْـلُ الكَـريم!
السَّلامُ عَـلَـيْكُم وَرَحـْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.. وبعد؛

فرغم مرور ألف وأربعمائة وتسعة وأربعين عامًا، على مولد خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد ﷺ، لا تزال الإنسانية حتى هذه اللحظة، ترنو نحو هذا الإشراق الإلهي الذي انبعث شعاعه حول البيت الحرام في مكَّة المكرَّمة، كلما تعثَّرت خطاها وادْلَـهمّ ليلها، وتاه دليلها في ظُلُمات المادَّة ودنس الشهوات، وسعار التسلط، وغطرسة القوَّة. 
وما كان لرسالة هذا النبي الكريم أن تكون ملهمة الحضارات على اختلاف توجهاتها لولا هذا البُعد الفوقي العجيب الذي تميَّزت به، وأعني به بُعدَ «الآداب الإنسانيَّة العالية»، العابرة لحدود الزمان والمكان والأفراد والجماعات، وهو بُعدٌ اعترف به، وعجب له كثيرون، حتى من مؤرخي الغرب المنصفين، ممن رزقوا حظًّا من استقامة الشعور، ويقظة الضمير في فهم معاني القرآن الكريم، وبلاغة السُّنَّة المشرفة، ووضعوا أيديهم على مبدأ «الإخوة الإنسانية الجامعة»، المتغلغل في أطواء هذه الرسالة الخالدة: عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا.. حتى قال قائلهم: «إنَّ محمدًا ﷺ نبيَّ العرب لهو من أكبر محبِّي الخير للإنسانيَّة، وإن ظهوره للعالمِ أجمَع لهو أثرُ إرادةٍ عُليا، ولِقارة آسيا أن تفتخر بهذا الرجل العظيم» ( ). وحتى قالت الموسوعة البريطانية: «إن محمدًا اجتهد في سبيل الإنسانية جمعاء» وما أجمل ما قاله محمد هذا المعلم العظيم: «الخلق كلهم عيالُ الله، وتحت كنفه، فأحبُّ الخلق إلى الله مَنْ أحسنَ إلى عياله» ( ).
ولا يحتاج المتابع لسيرته العطرة إلى كبير عناء ليكتتف هذه الواشجة، وهذه الرحِمَ المشتبكة في فلسفة هذا الدِّين، بين خلق الله جميعًا: مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، وها هي مراجع السُّنَّة تروي لنا أنَّه ﷺ كان يقول عقب كل صلاة:
«اللهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ الرَّبُّ، وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» 
«اللهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ»
«اللهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمُ إخْوَةٌ» ( ) 
وإذن فهي شهادات ثلاث: شهادة بالألوهية، وبالنبوة، وبالأُخوَّة الإنسانيَّة، وهي ذاتها شهادة على أن الإسلام إذا كان هو دينُ التوحيد الخالص فهو بالقَدْرِ نفسه دينُ الإنسانية كلها ودينُ المساواة بين الناس، ثم هو دينُ عصمة الدِّماء والأموال والأعراض، ومقاصدَ خُلقيَّة أخرى أوجزها في خطبة حجة الوداع التي خاطب فيها الإنسانية كلها ممثلة في حشد من المسلمين بلغ مائة ألف وأكثر.. وقد توفَّر لهذه الخطبة من دقَّة التوثيق والتأريخ من حيث عددُ المسلمين ومن حيث الزمانُ والمكانَ والكلماتُ وأسماء المبلِّغين، ما لم يتوفَّر لغيرها.. كانت هذه الخطبة يوم الجمعة التاسع من ذي الحجة من العام العاشر للهجرة، بعد أن وصل عرفة، وضُربت له قبة من شَعْرٍ في مكان اسمه: نمرة، استراح فيه إلى أن زالت الشمس فأمر بناقته «القصواء» فرُحِلت له فأتى بطن الوادي وخطب في هذا الجمع المتلاطم الأمواج، الذي لم يسجل التاريخ أن أحدًا قبل محمد ﷺ جُمع له مثل هذا الحشد ليخطب فيه .. وكان مما قاله ﷺ في هذا اليوم.  
أيها الناس! 
اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبدًا.
أيها الناس! 
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألُكم عن أعمالكم. ألا هل بلَّغتُ. اللهم فاشهد. واعلموا أن الصدور لا تَغُلُّ (أي: لا تخون في قليل ولا كثير).
أيها الناس! 
إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجميّ على عربي، إلا بالتقوى ألا هل بلَّغت! اللهم فاشهد. 
أيها الناس! إسمعوا قولي واعقلوه: 
ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا
ثم قال: ألا أخبركم من المسلم؟ 
المسلم من سَلِم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أَمِنه الناس على أموالهم وأنفسهم. والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب. والمجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة الله. تعلمون أن كل مسلم أخ للمسلم، وإنما المسلمون إخوة، وإنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، ثم قال: فلا تظلمن أنفسكم.. 
اللهم هل بلغت؟ قال الناس نعم، قال: اللهم فاشهد.
  ولم ينس ﷺ في آخر خطبته عميدة الأسرة، فصرخ في المسلمين صرخته الخالدة: «اتقوا الله في النساء».
وأول ما يطالع المتأمل في هذه الخطبة التاريخية هو أنها لم تكن موجَّهة للمسلمين فقط، بل كانت موجهة للناس كلهم، أينما أقلَّهم مكان، وحيثما أظلهم زمان، وكانت عبارته المفضلة في لفت العقول والأنظار هي «أيها الناس» وليس «أيها المسلمون» ولا «أيها المؤمنون»، وقد بدأ خطبته بما يشعر بدنوِّ أجله الشريف، وقد تحقَّق ما قال، فلم يلتق بهذا الجمع مرة أخرى، ولم يعش بعد هذا الموقف إلَّا زهاء ثلاثة أشهر لحق بعدها بالرفيق الأعلى.. وقد كان أوَّلُ بند من بنود هذه الخطبة تحذيرًا للعالَم أجمَع من فوضى الدِّماء والعبث بالأموال والأعراض، وقد كرَّر التحذير من هذه الجرائم المنكرة البشعة مَرَّتين في هذه الكلمة، ولا عجب في ذلك فهي حقوق أوليَّة، أو حرمات أوليَّة للإنسان، وللمجتمع على السَّواء، ويستحيل لمجتمع ينشد الاستقرار أن يستوي على سوقه إلَّا إذا ارتكز على هذه الحرمات الثلاث: حرمة الدم، وحرمة الملكية الفردية الخاصة، وحرمة الأسرة والعِرض والشرف.. ولسنا في حاجة إلى التذكير -والألمُ وخيبةُ الأملِ يعتصران القلوب اعتصارًا-بأن أمة هذا الدستور الخالد هي أولُ مَن خرج عليه واستهان بحرمته وضرب به عرض الحائط، وكان جزاء التمرُّد على هذه التعاليم أن غرقت الأمَّة بدمائها وأموالها وأُسرها في حالة من الفوضى والهوان حتى أصبح بأسها بينها شديدًا. 
ثم تنتهي فقرة الدماء والأموال والأعراض بقوله ﷺ: «اللهم بلغت»، وهو يرفع أصبعه الشريفة إلى السماء، وكأنه كان يشهد الله علينا في شأن هذه الحرمات الثلاث، بل كأنه كان يشير، من وراء الغيب، إلى ظهور طائفة من أشرار أمته استباحت الدماء والأعراض والأموال، وزيِّن لها الشيطان والجهل وعمي البصيرة وانحراف الفطرة، زيِّن لها سوء عملها، فراحت تقتل وتذبح وتفجِّر وتخرب، وتغتال في غدر وخسة، بل راحت تستبيح أعراض الحرائر من النساء والفتيات وتتخذ منهن سبايا، وإماءً تجبرهن جبرًا على الخنا والفاحشة والرذيلة والقاذورات. 
ثم قال ﷺ: «واعلموا أن الصدور لا تَغُلّ» أي: لا تخون، ليرشد أمته وسائر الأُمَم إلى ضرورة مبدأ التكافل والتعاون في كل مجتمع، وأنَّ المجتمعات التي تستبدل بهذه المبادئ مبادئ أخرى «كالصِّراع» والتشرذم والتفتُّت أو التسلُّط والانقضاض على مقدَّرات الآخرين، لا مفرَّ لها من الانحلال ثم السقوط. وقد رأينا في جيلنا هذا كيف سقطت حضارات كبرى اتخذت من مبدأ «الصِّراع» فلسفة لنهضتها في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، فما بلغت عامها السبعين حتى كانت حبرًا على ورق.. وكذلكم الحضارات التي تتغنَّى اليوم بالمبادئ ذاتها فإنها لا محالة ستلقى المصير نفسه إن عاجلًا أو آجلًا.
ثم حذَّر ﷺ من الظلم، وكرر التحذير منه في خطبته ثلاث مرات، وذلك لأثره التدميري على الأفراد والدول والمجتمعات، وقد حذَّر القرآن الكريم منه في مائة وتسعين آية، كما حذَّر منه النبي ﷺ في سبعين حديثًا من أحاديثه الشريفة. 
ثم حذَّر ﷺ من ظاهرة الثأر، ومن آفات الربا، ومن العبث بالزمان ودورات الشهور وترتيبها، ثم ختم خطبته التاريخية بقوله: «وإني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبدًا كتاب الله وسُنَّة نبيِّه» ثم قال: فما أنتم فاعلون؟ قال نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. قال: «اللهم فاشهد».


سيادة الرئيس! الحفل الكريم! 
إن الأزهر الشريف خلال أكثر من ألف عام يقوم على حراسة هذين الأصلين اللذين تركهما لنا رسول الله ﷺ: دفاعًا عن ثقافة الأمَّة ووحدتها، ودفاعًا عن الوطن وتاريخه، والأزهر الآن عاكف على صياغة خريطة ثقافيَّة لتجديد الخطاب الدِّيني، وترشيد الوعي الثقافي، والوقوف إلى جوار كل المؤسَّسَات التي تجعل من أهم غاياتها حماية هذا الوطن من عدوى الإرهاب الفكري والجسدي، ومقاومة كل تيَّارات الغلو والإفساد، بمنهجٍ إسلاميٍّ يجعل من مقاصد الشريعة في حماية الدِّين، والنفس، والمال والعِرض، حمايةً للإنسان كلِّ إنسان، قبل حماية الأديان. 
هذا ولدى الأزهر الشريف ثقة كاملة في الله تعالى، بأننا سوف نتجاوز جميع التحديات، كما يثق الأزهر بحكمة السيِّد الرئيس/عبد الفتَّاح السيسي، وعزمه وإخلاصه في الحفاظ على الوطن والنهوض به وسط عالم متلاطم الأمواج، مضطرب الغايات والأهداف. 
وبهذه المناسبة الكريمــة أتقــدَّم لكم ســيادة الرئيس وللشعب المصري وللأمتـين: العربيـة والإسلاميــة ولحضــراتكم جميعــًا بأطيب التــهاني بذكــرى مَـوْلِد رسول الإنسانيَّة محمد ﷺ.  


شُكْرًا لحضَراتكُم وكل عام وأنتُم بخــــير؛
والسَّلامُ عَليكُم وَرَحـْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.

                                          أحــمد الطـيب

                                                 شــيخ الأزهــر