12 يناير, 2022

بيت العائلة الإبراهيمية رمز لاحترام التنوع الديني

المستشار محمد عبد السلام. الأمين العام للجنة العليا للأخوة الإنسانية.. يكتب

على مدار عقود طويلة، اعتادت وسائل الإعلام الغربية تصوير الشرق بصفة عامة، والعالم العربي بصفة خاصة، على أنه منطقة يسودها التعصب والاضطهاد الديني.

ولم تكن الأديان قطعًا المسبب الرئيس لهذه الصورة بقَدْر ما كانت الأجندات السياسية للقوى المتصارعة هي المسؤولة عن كثير من تلك الأوضاع البائسة التي تستغل الدين لتمرير مشروعاتها.

حدث ذلك لقرون طويلة منذ نشأ الصِّراع على المنطقة بين الإمبراطوريات، ونزوع القوى الكبرى آنذاك للسيطرة والضم ومحاولة كل منها أن تحكم وتسود العالَم، وأنتج هذا الصراع «السياسي» و«الأيديولوجي» مشروعات ذات طابع ديني يحدثنا عنها التاريخ، ويطول بنا المقام لو استقصيناها في هذا المقال.


لم تضع الأديان ولا نصوصها بذرة هذا الصراع ولم تغذه.. بل استخدمت السياسة الأديان لتمنح صكوكًا لممارسات القتل والتهجير والاستيلاء على الأراضي، والدليل على براءة الأديان يمكن أن يتلمَّسه الناظر في كثير من المحطات التاريخية التي غلب فيها التسامح والتعايش بين البشر، وأزعم أن هذه المحطات هي الأصل، أما التنازع والاحتراب فهو الاستثناء.

وانطلاقا من هذه الفكرة خرجت دعوة «الأخوة الإنسانية» من العاصمة الإماراتية أبوظبي عبر الوثيقة التي وقعها الرمزان الدينيان الكبيران الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرنسيس بابا الفاتيكان، كدعوة إنسانية خالصة بعيدًا عن أية توجهات أيديولوجية أو حسابات سياسية.

هذه الوثيقة التي قام على رعايتها وعنايتها وصياغتها وإعلانها كبير العائلة الكاثوليكية بابا الفاتيكان، وكبير العائلة المسلمة شيخ الأزهر لتكون نداءً عالميًّا للسلام والتعايش والتعارف، يستهدف كل البشر مؤمنين وغير مؤمنين.

وعلى إثر هذه الدعوة تشكلت «اللجنة العليا للأخوة الإنسانية» كذراع تنفيذي للوثيقة، وكهيئة دولية مستقلة مقرها دولة الإمارات العربية المتحدة، تضم في عضويتها طيفًا واسعًا من المفكرين والدبلوماسيين ودعاة السَّلام في العالم المتنوعين ثقافيًّا ودينيًّا، بما يضمن لها التفرغ الكامل لمهمتها دون انخراطها في أي صراعات أو دعوات تنحرف بها عن هدفها الرئيس المنطلق من مبادئ وثيقة الأخوة الإنسانية.

ومع هذه المبادرة العالمية من أجل الأخوة والعيش الإنساني المشترك، برزت في الآونة الأخيرة رواية مخالفة للحقيقة، تزعم أن هناك دِينًا جديدًا، يُسمَّى «الدِّين الإبراهيمي»، ويحاول أصحاب هذه الرِّواية المغرضة والزائفة إلصاقها عنوة بمبادرة بيت العائلة الإبراهيمية الذي يجري إنشاؤه حاليًّا في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة وتُشرف عليه اللجنة العليا للأخوة الإنسانية.

وتنتقد هذه الرِّواية الزائفة مجمع بيت العائلة الإبراهيمية المشترَك بين أتباع الأديان السماوية، والذي يضم كنيسة قائمة بذاتها، ومسجدًا قائمًا بذاته، وكنيسًا قائمًا بذاته، إلى جانب مركز ثقافي بيت العائلة الإنسانية.

وقد استهدفت بعض مواقع الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي – في العالم الغربي والعربي هذا المشروع النبيل بزعم خاطئ مفاده: أن المبادرة إنما هي محاولة لدمج جميع الديانات الإبراهيمية والترويج لـ"دين عالمي موحَّد"، حتى وصف البعض المشروع بأنه مشروع "كريسلام"، وهو مصطلح يجمع بين المسيحية والإسلام بطريقة تُهَوِّن من شأن الدِّيانتين.

وهذا الزعم أبعَدُ ما يكون عن الحقيقة، حيث إن بيت العائلة الإبراهيمية رمزٌ لاحترام التنوع الديني وخصوصياته، وليس محاولة لإذابة الفوارق والاختلافات بين الأديان أو محو الهُوِيَّة المتفردة لكل دِين.

في مجمع بيت العائلة الإبراهيمية، يدخل الزائر إلى المنطقة التي أُقيمت فيها دُور العبادة، فيجد ثلاثة أبنية منفصلة، لتُذكر البشرية بأن الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية أصلها جميعًا واحد، وتشبه المباني ثلاث أشجارًا مختلفة في غابة واحدة، تصل جميعها إلى نفس الضوء الذي يمنحها الحياة.

ستعكس كل دار من دور العبادة الثلاثة الهُوِيَّة الخاصة بكل دين بوضوح ظاهر، وستُقام شعائر كل دين منفصلة في كل بيت من هذه البيوت. وسيُحافظ بيت العائلة على الطابع الفريد لكل دين، ويعزز خصوصيته.
وقد عرفت عواصم وقرى العالم الإسلامي مثل هذا القرب في أبنية دور العبادة، ولا زالت الشواهد بارزة للعيان في القاهرة وإسطنبول وغيرهما من المدن.

إننا ندرك أن الأديان تشترك في قيم واحدة مثل السلام والتسامح والعدالة والمحبة، ويُبرز بيت العائلة الإبراهيمية تلك القيم بين أتباع الأديان، لكننا ندرك أيضًا أن هذه المبادئ المشتركة لا تنتقص من خصوصية كل دين وثرائه وتقاليده وشعائره.

وسبق أن تعرضت اللجنة لمثل تلك المزاعم حين دعت مع توحش جائحة كورونا وقت أن كان العالم ما زال يبحث عن اللقاحات إلى صلاة عالمية مشتركة لكل المؤمنين بالأديان – سماوية وأرضية – لرفع هذا البلاء عن البشرية ومساعدة الأطقم الطبية، وإلهام العاملين على إنتاج اللقاحات والأمصال، وقيل وقتها إنها دعوة لاختراع صلاة تجمع المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي وغير ذلك من معتقدات تمهيدًا لاختراع معتقد جديد يجمع كل البشر، وجاء موعد الصلاة المتفق عليه واستجاب للدعوة ملايين البشر حول العالم، صلى كل منهم وفق معتقده وطقوسه ونصوصه وبلُغته وإيمانه، دون أي مشترك في النصوص أو الطقوس غير التوقيت والهدف من الصلاة.

وفي هذا السياق، عقَّب فضيلة الإمام الأكبر على منتقدي هذا الأمر في نوفمبر الماضي قائلًا: "أولئك الذين يروجون صورة خاطئة عن الأخوة بين الأديان بكونها مزج اليهودية والمسيحية والإسلام في دين "إبراهيمي" واحد ينتهكون أغلى حق تمتلكه البشرية: وهو حرية الاعتقاد".

لقد نشأت رؤية بيت العائلة الإبراهيمية بعد توقيع البابا فرنسيس والإمام الأكبر على وثيقة الأخوة الإنسانية التاريخية في فبراير 2019 في أبوظبي. لقد كان هذا اللقاء التاريخي والبيان الذي أدلى به رئيسَا أكبر المؤسسات المسيحية والإسلامية في العالم مثالًا حيًّا يُجسد الأخوة الإنسانية، وهو ما استلهم رسالة بيت العائلة الإبراهيمية باحتضان صرح الحوار والتفاهم والتعايش وقبول الآخر، بعيدًا عن أيِّ دعوات متخيَّلة للاندماج والانصهار بين العقائد.

 

إذا؛ تهدف رسالة الأخوة إلى أن يكون بيت العائلة الإبراهيمية مثالًا حيًّا للدين كمصدر إلهام من أجل نشر قيم المحبة والخير والتعايش ونبذ الكراهية والتمييز والدمار.

إننا نتطلع إلى نشر قيم التعايش السلمي التي تُعزز أواصر الأخوة الإنسانية دون النَّظر إلى اختلاف الأديان والأعراق والثقافات، وتتحول هذه التطلعات إلى حركة عالمية للنهوض بالأخوة الإنسانية، تتجاوز محاولات عرقة أو تشويه أهدافها الإنسانية النبيلة.


كلمات دالة: