12 فبراير, 2022

كلمة فضيلة أ.د محمد الضويني، وكيل الأزهر الشريف، في المؤتمر الدولي الثاني والثلاثين للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية تحت عنوان «عقد المواطنة وأثره في تحقيق السلام المجتمعي والعالمي

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحَمْدُ لله الذي بنعمَتِه تَتِمُّ الصالحاتُ، نحمَدهُ تبارك وتعالى حمدًا يليقُ بِجَلالِ الذَّاتِ وكَمَالِ الصِّفَاتِ، ونصلِّي ونسلمُ على سيِّد السَّاداتِ، ورحمةِ الله للكائناتِ، سيِّدِنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه الثِّقاتِ، وبعد.
معالي أ.د/ محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف
نائبًا عن معالي أ.د/ مصطفي مدبولي، رئيس مجلس الوزراء
ضيوف مصر الكرام
العلماء الأجلاء
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه

يطيبُ لي في البدايةِ أن أُرحِّبَ بضيوفِنا الكرامِ، في مصرَ أرضِ السَّلامِ، الَّذين حضروا للمشاركةِ في مؤتمرِنا الرَّاقي حولَ: «عقدِ المواطنةِ وأثرِها في تحقيقِ السَّلامِ المجتمعيِّ والعالميِّ»، والَّذي يحظى برعايةٍ كريمةٍ من سيادةِ الرَّئيسِ/ عبد الفتَّاح السِّيسي، رئيسِ الجمهوريةِ - حفظه الله- في إطارِ دعوةِ سيادتِه الدَّائمةِ للحوارِ الهادفِ الَّذي تتضافرُ فيه جهودُ الجميعِ لإعلاءِ قيم التَّعايشِ والتَّسامحِ، ومدِّ جسورِ التَّفاهمِ والإخاءِ، والتَّصدِّي لخطابِ الكراهيةِ، ونشرِ قيمِ العدلِ والمساواةِ؛ مِن أجلِ تحقيقِ السَّلامِ والاستقرارِ.
واسمحوا لي أن أُهديَ حضراتِكم جميعًا تحيَّاتِ فضيلةِ الإمامِ الأكبرِ، شيخِ الأزهرِ، طيِّبِ الأثرِ، الأستاذِ الدُّكتورِ/ أحمد الطَّيِّب -حفظه اللهُ ومتَّعَه بالصِّحَّةِ والعافيةِ- وأنقُلُ لحضراتِكم رجاءَه الصَّادقَ أن يخرجَ هذا اللِّقاءُ الطَّيِّبُ بتوصياتٍ جادَّةٍ تحمي الفكرَ، وتصونُ الهويَّةَ من محاولاتِ الاختطافِ أو التَّشويهِ من قِبَلِ أفكارٍ مغلوطةٍ أو مشروعاتٍ منحرفةٍ.
الحفل الكريم!
لقد وُفِّقتْ وزارةُ الأوقافِ المصريَّةُ متمثِّلةً في المجلسِ الأعلى للشُّئونِ الإسلاميَّةِ في اختيارِ عنوانِ المؤتمرِ الَّذي يأتي لبنةً نافعةً في بناءٍ متينٍ أرسى قواعدَه أزهرُنا الشَّريفُ حين أخرجَ إعلانَه التَّاريخيَّ «للمواطنةِ والعيشِ المشتركِ»، ولا يخفى على حضراتِكم وجهُ الحاجةِ الملحَّةِ لهذا الإعلانِ الأزهريِّ الَّذي يواجهُ التَّحدِّياتِ الَّتي يَتعرَّضُ لها الدِّينُ والوطنُ.
وإنَّ الأزهرَ الشَّريف بحسِّه الدِّينيِّ، وواجبِه الإنسانيِّ، ودورِه العالميِّ حين أدركَ حاجةَ البشريَّةِ إلى أنوارِ النُّبوَّةِ الَّتي تبدِّدُ ظلماتِ العنفِ والتَّطرُّفِ، اسْتَنْبَتَ من آثارِ الوحيِ نبتًا معاصرًا، استطاعَ أن يكشفَ عن حقيقةٍ دينيَّةٍ، وضرورةٍ مجتمعيَّةٍ، وفريضةٍ إنسانيِّةٍ، وصاغها في «إعلانِ الأزهرِ للمواطنةِ والعيشِ المشتركِ».
أكَّدَ الأزهرُ خلالَ هذا الإعلانِ أنَّ «المواطنةَ» مصطلحٌ أصيلٌ في الإسلامِ، يتجاوزُ التَّنظيرَ الفلسفيَّ إلى سلوكٍ عمليٍّ، وأنَّ «المواطنةَ الحقيقيَّةَ» لا إقصاءَ معها، ولا تفريقَ فيها، وأنَّ «المواطنةَ الصَّادقةَ» تستلزمُ بالضَّرورةِ إدانةَ كلِّ التَّصرُّفاتِ والممارساتِ الَّتي تُفرِّقُ بين النَّاس بسببٍ من الأسبابِ، ويترتَّبُ عليها ازدراءٌ أو تهميشٌ أو حرمانٌ مِن الحقوقِ، فضلًا عن الملاحقةِ والتَّضييقِ والتَّهجيرِ والقتلِ، وما إلى ذلك من سلوكيَّاتٍ يرفضُها الإسلامُ.
وقد استطاعَ الأزهرُ الشَّريفُ من خلالِ التَّواصلِ الفعَّالِ والتَّعاونِ المثمرِ مع المؤسَّساتِ الدِّينيَّةِ الرَّسميَّةِ داخلَ مصرَ وخارجَها، وتبادلِ الرُّؤى والأفكارِ مع مختلِفِ الحضاراتِ والثَّقافاتِ، استطاعَ أن يُقدِّمَ نماذجَ متميِّزةً في التَّعايشِ والتَّلاقي، وأن يُحقِّقَ نجاحاتٍ كبيرةً مِن خلالِ حواراتٍ دينيَّةٍ حضاريَّةٍ حقيقيَّةٍ، تلتزمُ الضَّوابطَ العلميَّةَ، وتحفظُ ثوابتَ الدِّينِ، وتتركُ نتائجَ ملموسةً في سبيلِ تحقيقِ الأمنِ والسَّلامِ للبشريَّةِ كافَّةً.
ونحن في غنًى عن سردِ جهودِ الأزهرِ من لقاءاتٍ وندواتٍ ومؤتمراتٍ ومطبوعاتٍ وغيرِ ذلك من مجهوداتٍ تتعلَّقُ بإقرارِ المواطنةِ والتَّسامحِ.
وإنَّ الأزهرَ الشَّريفَ لينظرُ بعينِ الوالدِ المُحبِّ إلى أبنائِه البررةِ، الَّذين حملوا أنوارَه، وانتشروا في مؤسَّساتِ الوطنِ الدِّينيَّةِ وغيرِها، ويثمِّنُ أطروحاتِهم، ومنها هذا المؤتمرُ الواعي.
العلماء الأجلَّاء!
إنَّ الإسلامَ الحنيفَ عرفَ المواطنةَ الصَّحيحةَ منذ أربعةَ عشرَ قرنًا؛ وذلك حين وضعَ وثيقةً دينيَّةً سياسيَّةً دستوريَّةً تدعو إلى التَّعايشِ السِّلميِّ بين جميعِ الأعراقِ والطَّوائفِ في مجتمعِ المدينةِ المنوَّرةِ الَّذي كانَ زاخرًا بأطيافٍ متنوِّعةٍ.
وإنَّ المتأمِّلَ لـ«وثيقةِ المدينةِ» يرى عشراتِ البنودِ الَّتي تدورُ كلُّها حولَ المواطنةِ الفاعلةِ، والتَّعايشِ السِّلميِّ بين أبناء الوطنِ الواحدِ.
وإذن، فهذه المواطنةُ مِن القضايا القديمةِ المتجدِّدةِ، الَّتي تفرضُ نفسَها وبقوَّةٍ، خاصَّةً حين تتبنَّى الأوطانُ مشاريعَ تنمويَّةً كبيرةً تقتضي من أبنائها الولاءَ والانتماءَ، وأوقنُ أنَّ حاجتَنا إلى المواطنةِ الرَّشيدةِ تشتدُّ في ظلِّ العولمةِ الخانقةِ الَّتي تتجاوزُ الحدودَ، وتخترقُ الأسوارَ، وتعتدي على الخصوصيَّاتِ، وتطمسُ الهويَّاتِ.
وأوقنُ أيضًا أنَّه بقدرِ وجودِ المواطنةِ وتجلِّياتِها تكونُ الحقوقُ والحرِّيَّاتُ للجميعِ، ويتحقَّقُ السِّلمُ المجتمعيُّ، وبقدر غيابِها تكونُ هشاشةُ المجتمعِ، وتفكُّكُ بُنيانِه، ويكونُ الصِّراعُ فيه على هويَّاتٍ فرعيَّةٍ أو هويَّاتٍ زائفةٍ، فضلًا عن العودةِ إلى الحديثِ عن «أقليَّاتٍ» وهذا ما دعا الأزهرُ إلى تركِه في ظلِّ المواطنةِ العادلةِ.
وإنَّا لنهدفُ بهذا المؤتمرِ وبغيرِه من جهودٍ إلى العملِ على صعيدين:
داخليٍّ، يُعنى بتحقيقِ المواطنةِ بكلِّ معانيها وتجلِّياتِها في مجالات الحياة: دينيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وقانونيًّا. وخارجيٍّ، يُعنى بتحقيقِ مواطنةٍ عالميَّةٍ من خلالِ جيلٍ متمكِّنٍ علميًّا وفكريًّا، يسهمُ بفاعليَّةٍ في قضايا العالمِ الأخلاقيَّةِ والقِيَميَّةِ، والتَّربويَّةِ والتَّثقيفيَّةِ، والأمنيَّةِ والسِّياسيَّةِ، والصِّحيَّةِ والاجتماعيَّةِ.
الجمع الكريم!
إنَّ ما تحملُه المواطنةُ مِن مضامينَ ينبعُ مِن القِيَمِ الإسلاميَّةِ الَّتي جاءَ بها وحي السَّماءِ، الَّذي لم يفرِّقْ بين إنسانٍ وآخرَ، والَّذي جعلَ التَّكريمَ لبني آدم كافَّةً دون تمييزٍ، وإنَّ الأزهرَ الشَّريفَ متيقِّظٌ لتلك الأخطارِ الَّتي تهدِّدُ أمنَ الأمَّةِ فكريًّا وثقافيًّا، خاصَّةً تلك الَّتي تستهدفُ الشَّبابَ، وتراهنُ على ولائِهم وانتمائِهم لأوطانِهم.
ومِن هنا أنقُلُ لمؤتمرِكم الموقَّرِ عدَّةَ رسائلَ أزهريَّةٍ تتعلَّقُ بالمواطنةِ.
الأولى: إنَّ عقدَ المواطنةِ قديمٌ قِدمَ المجتمعاتِ الإنسانيَّةِ، غيرَ أنَّها كانت مواطنةً متذبذبةً بحسبِ ما تسمحُ به الأنظمةُ السَّائدةُ، فلم تتحقَّقْ مواطنةٌ كاملةٌ إلَّا في عصرِ الحقوقِ والحرِّيَّاتِ.
الثَّانيةُ: إنَّ عقدَ المواطنةِ يضمنُ الممارساتِ الَّتي لا تحتوي أيَّ قدرٍ من التَّفريقِ أو الإقصاءِ لأيِّة فئةٍ مِن فئاتِ المجتمعِ، ويتبنَّى سياساتٍ تقومُ على قبولِ التَّعدُّديَّةِ الدِّينيَّةِ والعِرقيَّةِ والاجتماعيَّةِ الَّتي تعدُّ مظهرًا من مظاهرِ ثراءِ المجتمعِ.
الثَّالثةُ: إنَّ الفكرَ الإسلاميَّ يضمنُ بثرائِه وتجاربِه أن نبنيَ حضاراتٍ قائمةً على مواطنةٍ حقيقيَّةٍ بغضِّ النَّظرِ عن العقيدةِ أو اللَّونِ أو العرقِ.
الرَّابعةُ: إنَّ الطَّريقةَ المثلى لتحقيقِ مواطنةٍ حقيقيَّةٍ هو إتاحةُ ممارسةِ الحقوقِ والحرِّيَّاتِ للجميعِ في مناخٍ ديمقراطيٍّ آمنٍ دون تمييزٍ.
الخامسةُ: إنَّ تنميةَ ثقافةِ المواطنةِ لدى النَّشءِ ضرورةٌ، تقعُ على عاتقِ المؤسَّساتِ التَّربويَّةِ والتَّثقيفيَّةِ المسئولةِ، الَّتي يجبُ أن تعنى بتأمينِ موقعٍ متقدِّمٍ للوطنِ بسواعدِ أبنائِه.
السَّادسةُ: إنَّ تخوَّف البعضِ من تأثيرِ المواطنةِ العالميَّةِ على الخصوصيَّاتِ، والهويَّاتِ واردٌ، لكنَّه لا يعني أن نتجاهلَ القضايا العالميَّةَ الَّتي نكون طرفًا فيها بحكمِ وجودِنا على ظهرِ هذا الكوكبِ.
وختامًا: إنَّ الأزهرَ الشَّريفَ يتطلَّعُ إلى إقامةِ المزيدِ مِن صلاتِ التَّعاونِ بين سائرِ المؤسَّساتِ الدِّينيَّةِ والثَّقافيَّةِ والإعلاميَّةِ في العالمِ؛ للعملِ معًا على تأسيسِ مواطنةٍ عالميَّةٍ لا تطمسُ الهويَّاتِ، ولا تلغي الخصوصيَّاتِ، ولا تهدِّدُ المجتمعاتِ.
وفَّقكم اللهُ لما فيه صالحُ الإنسانيَّةِ
والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه