16 سبتمبر, 2024

شيخ الأزهر خلال الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف: أخلاق محمد تنوعت عددًا ومنزلة وعلو درجة وكمال شأن حتى وُصف بالإنسان الكامل

الإمام الأكبر يطالب بالتضامن مع غزة انطلاقًا من صلة الدم والرحم والمصير المشترك

‌«الخُلُق المحمدي» لا نهاية لحُسنه وكمالاته، ولا حدود لسعته واستيعابه العالمين بأَسْرهم

طبَّق النبي ﷺ صفة الرحمة في كل تصرفاته مع البشر وجميع الكائنات والمخلوقات

كان محمد ﷺ رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة

القتال في الإسلام لا يباح للمسلمين إلا لرَدِّ عدوان على حياتهم أو دِينهم أو عِرْضهم أو أرضهم

ترجم أمراء المسلمين وقادة جيوشهم مبدئي «الفضيلة» و«الإحسان» إلى لوحة شرف في قوانين الحروب لا يعرف التاريخ لها نظيرًا في غير معارك المسلمين

شيخ الأزهر يستعرض آداب الحرب في الإسلام ويؤكد.. نموذج إنساني رفيع لا يمكن مقارنته بما نراه من إبادات جماعية، ومجازر همجية، وجرائم منكرة، تُرتكب ضد الأبرياء في غزة

العالم القوي المتحضر صَمَتَ صَمْتَ القبور عن آلام وصرخات الشعوب المضطهدة

شيخ الأزهر ينادي بتجديد وعي الأمة بذاتها، واعتزازها بتاريخها العريق وبقدراتها المادية والروحية

 

     أكَّد فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أن المتأمل في صفات رسول اللَّه محمد ﷺ يَحار؛ فلا يدري بأيها يبدأ، ولا بأيها يختم، ولا ماذا يأخذ من هذا الوابل الصيب من صفات الجمال وصفات الجلال، ولا ماذا يدع... وكيف لا؟! وقد وصف الله سعة أخلاقه الشريفة بوصف العِظَمِ، فقال في كتابه الكريم: {وإنك لعلى خلق عظيم}، كما وصفَتْه أخبرُ الناس به زوجُه السيدة عائشة أم المؤمنين حين سُئلت عن أخلاقه، فقالت: «كان خُلُقه القرآن». مبينًا أنها -رضوان الله عليها- قد أدركت الأفق المتعالي لهذا الخُلُق النبوي، وصعوبة بيانه للناس عَدًّا وحَصرًا واستقصاء؛ فأحالت البيان إلى أخلاق القرآن الكريم، وما بينها وبين أخلاقه -صلوات الله وسلامه عليه- من تطابق وتماثل، وبما يعني أن الخُلُق القرآني إذا لم تكن له نهاية في حُسْنه وكماله؛ فكذلك «الخُلُق المحمدي» لا نهاية لحُسْنه وكمالاته، ولا حدود لسعته واستيعابه العالمين بأَسْرهم.

وأوضح شيخ الأزهر خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، والمنعقد بمركز المنارة للمؤتمرات الدولية بالتجمع الخامس، وتُنظِّمه وزارة الأوقاف بحضور فخامة الرئيس/ عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، أن المطابقة بين أخلاق القرآن الكريم وأخلاقه ﷺ هي السر في اختصاص نبي الإسلام برسالة تختلف عن الرسالات السابقة؛ حيث جاءت رسالة خاتمة للرسالات الإلهية، ورسالة عامة تتسع للعالمين جميعًا: إنسًا وجِنًّا، وزمانًا ومكانًا، بينما جاءت الرسالات السابقة رسالات محدودة بأقوام بعينهم، وفي زمان معين، ومكان محدد لا تتجاوزه لمكان آخر.

وبَيَّن فضيلتُه أن أخلاق محمد ﷺ -وإن تنوعت عددًا ومنزلة وعلو درجة وكمال شأن، حتى وُصف بالإنسان الكامل- فإن صفة من صفاته هذه قد انفردت بالذِّكر في القرآن الكريم، وهي صفة «الرحمة» التي وُصف بها ﷺ في قوله تعالى في أواخر سورة التوبة، في معرض الامتنان الإلهي على المؤمنين؛ حيث بَعَثَ فيهم رسولًا منهم، وَصَفَهُ بأنه حريص على هدايتهم، وأنه «رؤوف رحيم» بهم، ثم ذُكرت صفة «الرحمة» مرة ثانية في قوله تعالى في أواخر سورة الأنبياء: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وجاءت بأسلوب القصر الذي يدل على أن هذا الرسول اتحد ذاتًا وأفعالًا بصفة: «الرحمة» حتى صارت سجية راسخة متمكنة في مشاعره، ومتغلغلة في أطوائه، ومسيطرة على تصرفاته.

وتابع شيخ الأزهر أنه ﷺ قد أكَّد اتصافه بالرحمة بقوله في سُنَّته الشريفة: «إنما أنا رحمة مهداة»، وطبَّقها في كل تصرفاته مع البشر ومع جميع الكائنات والمخلوقات، وكان ينزع في كل تصرف من تصرفاته من معين هذه «الرحمة» التي فطره الله عليها، وألان بها قلبه، وكان ذلك من أقوى أسباب دخول المشركين في الإسلام {فبما رحمة من الله لنت لهم..}، بل إنه كان رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة بين الأمم والشعوب.

وأشار فضيلته إلى أن أول ما يطالعنا من تجليات الرحمة النبوية في مواطن الحروب والاقتتال هو: أن القتال في شريعة الإسلام لا يُباح للمسلمين، إلا إذا كان لرَدِّ عدوان على حياتهم أو دِينهم أو أرضهم أو عِرْضهم أو مالهم، أو غير ذلك مما يدخل تحت معنى: «العدوان» بمفهومه الواسع. أما القتال نفسه، أو حرب العدو، أو الصراع المسلح، فله في شريعة الإسلام خطر وأي خطر، وله قواعد وضوابط وتشريعات شرعها الله تعالى، وطبقها رسولُه ﷺ تطبيقًا عمليًّا وهو يقود بنفسه جيوش المسلمين في معاركهم مع أعدائهم، وأمر أُمَّته بالتقيد بها كلما اضطرتهم ظروفهم وألجأتهم إلى مواجهة عدوهم.

وأوضح شيخ الأزهر أن أول ما يلفت النظر من قواعد الاقتتال لرَدِّ العدوان في الشريعة الإسلامية: قاعدة «العدل»، وهي قاعدة كلية بعيدة الغور في شريعة الإسلام، أمر الله بالالتزام بها في معاملة الصديق والعدو على السواء: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، ثم إن قاعدة: «العدل» هذه تستدعي قاعدة ثانية تلازمها ولا تفارقها في أي تطبيق، وهي قاعدة: «المعاملة بالمِثْل» والتي تعني أول ما تعني حُرمة تجاوز حدود العدل إلى حدود الظلم والعدوان على الغير، يتبين ذلك من قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.

وتابع فضيلته أن من قواعد الإسلام العامة في القتال التزام مبدأ «الفضيلة» ومبدأ «الإحسان» الذي كتبه الله على كل شيء، سواء تعلق هذا الشيء بالإنسان أو بالحيوان، وقد ترجم أمراء المسلمين وقادة جيوشهم مبدأ «الفضيلة» هذا إلى لوحة شرف في قوانين الحروب، لا يعرف التاريخ لها نظيرًا في غير معارك المسلمين، وها هو الخليفة الأول، أبو بكر رضي الله عنه يُودِّع قائد جيشه إلى الشام، ويقول له: «أوصيكم بتقوى الله؛ لا تعصوا، ولا تغلوا، ولا تجبنوا، ولا تهدموا بيعة؛ أي: كنيسة أو معبدًا."

وأضاف شيخ الأزهر أن صورة القتال في الإسلام لا تكتمل بدون الإلمام بصورة «الأسرى» في الحروب الإسلامية، لافتًا إلى أن فقه «الأسير» في الإسلام يدور على أمرين لا ثالث لهما، حددهما القرآن الكريم في قوله تعالى: {فإما مَنًّا بعد وإما فداء}، والمَنُّ على الأسير هو: إطلاق سراحه وتحريره بغير عوض ولا فدية. أما فداؤه، فهو: تحريره وإطلاق سراحه مقابل فدية يدفعها هو أو تُدفَع له. مبينًا أن الأسير الذي يأسره المسلمون من جيش العدو يَحرُم على المسلمين قتلُه. كما تدل الأحكام الفقهية على وجوب إطعام الأسير، ووجوب الإحسان في معاملته، وحمايته من الحَرِّ والبَرْد، وتوفير ما يكفيه من كسوة وملابس، وإزالة كل ما يصيبهم من ضرر، ووجوب «احترام مراكزهم وكرامتهم الشخصية حسب مكانة كل فرد منهم»، مستلهمين في ذلك إلى دعوته ﷺ للرفق بالناس في قوله: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» وقوله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».

وأوضح فضيلته: "ما أظنني في حاجة بعد ما سمعناه في شأن الحرب في الإسلام -وهو قليل من كثير- إلى عقد مقارنة أو مناظرة بين الحرب في شريعة الإسلام ونموذجها الإنساني الرفيع، وبين الصورة البشعة للحرب الحديثة في القرن الواحد والعشرين، والتي آل أمرها إلى إبادات جماعية، ومجازر همجية، وجرائم منكرة، تُرتكب ضد شعوب مضطهدة تَخَلَّى عالمنا القوي المتحضر عن نصرتها، والوقوف إلى جوارها، وصَمَتَ صَمْتَ القبور عن آلامها وصرخاتها، ثم راح يُشمِّر عن ساعد الجِدِّ؛ ليتصدق على هذه الشعوب البائسة بكلمات عزاء فارغة لا تقول شيئًا، أو بمشاعر باردة تُذكِّر بمشاعر القاتل الذي يمشي في جنازة قتيله ويتقبل عزاء الناس فيه، فالمقارنة في هذا المقام مُضلِّلة ومزيفة لكل نتيجة تنتجها مقدماتها".

واختتم شيخ الأزهر "حسبنا أن نعلم من جديد: أنه لا يصح في حُكم العقل أن نقارن بين الخير والشر، ولا بين الحُسن والقبح، ولا بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين قانون الغاب والأحراش، والدرس الذي يجب أن نُذكِّر به مع تجدد ذكرى المولد النبوي هو تجديد وعي هذه الأمة بذاتها وتاريخها العريق المُشرِّف، وقدراتها المادية والروحية، وطاقاتها الخَلَّاقة، وأن تكون على يقين من أنها تملك دواءها إن أرادت، وأن تكون على ذِكْر دائم من قوله صلى الله عليه وسلم في شأن أُمَّته: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها.."، وأن تبذل قصارى الجهد؛ للتضامن مع أطفال غزة ونسائها وشبابها وشيوخها، ومع شعوبنا في السودان واليمن وغيرها، وأن نعلم أن ذلك ليس مِنَّة يُمَنُّ بها على هذه الشعوب المعذبة في الأرض، وإنما هو واجب القرابة في الدِّين، وصلة الدم والرحم والمصير المشترك".


كلمات دالة: