كلمة المؤتمــر
 


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه

أما بعد؛

فاستجابة للدعوة الموجهة إلي من فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب للمشاركة في مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر في العلوم الإسلامية المنعقد بالقاهرة خلالَ يوميْ 27-28 يناير 2020م رأيت أن تكون كلمة المشاركة عنوانها: تجديد الفكر في العلوم الشرعية وجعلتها متمثلة في تمهيدٍ ومبحثين يشتمل الأول منهما على أربعة مطالبَ والثاني على أربعة مطالب وخاتمة في ملخص البحث وفيما يلي ذكر خطة البحث:

التمهيد:

المبحث الأول: في أصول تجديد الفكر في العلوم الشرعية وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول: مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية
المطلب الثاني: الضرورة والحاجة المنزلة منزلتها
المطلب الثالث: العادة والعرف
المطلب الرابع: التقسيم والسبر وتطبيقه في تعامل المسلمين مع غيرهم
المبحث الثاني: ضرورة حفظ دين الإسلام ودرء المفسدة عنه وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول: تعلم دين الإسلام وتعليمه
المطلب الثاني: إقامة شرائع دين الإسلام
المطلب الثالث: تفنيد تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين لدين الإسلام
المطلب الرابع: الحكم الشرعي على بعض محاور المؤتمر من أفكار الداعشية والمخدرات والتدخين والمثلية والتحرش والسفور الجارح والعنف ضد المرأة والرشوة والغش وقضايا الجينوم والبويضات وبنوك المني والأم البديلة وأطفال الأنابيب والاستنساخ وزواج الأطفال والعنوسة وتعدد الزوجات.
خاتمة في ملخص البحث


التمهيد:
لقد متَّع الله الإنسان بآليات الفكر الذي هو حركة النفوس في المعقولات ليفكر ويشكر قال تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والافئدة لعلكم تشكرون) وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) ولقد جعل تعالى ما شرع في ذكره من الأحكام على قسمين قسم شرع وفق العرف الجاري بين الناس يتعيَّن تغييرُه وتجديده بتغير العرف وتجدُّده، وقسم لم يشرع وفق عرفٍ قبله بل شُرع وصار عرفا لا يتغيَّر بأعراف الناس لكنه يتجدد فيه الترخيصُ لأجل الضروروة والحاجة المنزلة منزلتها، وبهذا يتبين أن تجديد الفكر في العلوم الإسلامية ضرورةٌ دينية شرعية وعلميَّة وقضية ملحَّةٌ، وحقيقة قائمة، لكنه إنما يكون من علماء عارفين بمقاصد الشرع وبأدوات الاجتهاد التي هي ضمان مسايرة الشرع لحياة الناس وهي المنظمة لكيفية التعامل مع نصوص الوحي، وإذا كان التجديد كذلك فمن التوفيق بمكانٍ عقْدُ الأزهر الشريف هذا المؤتمر العالميَّ بعنوان التجديد في الفكر والعلوم الشرعية وطرْحُ الأساسي من محاوره على طاولة البحث والمناقشة تنويراً للرأي العام وتبصرةً وذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.

المبحث الأول في أصول تجديد الفكر في العلوم الشرعية:
وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول هو: مراعاة مقاصد شريعة الإسلام التي دل عليها قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) فقد قرر أهل العلم أن هذه الآية دلت على ثلاثة مقاصد يدور عليها التشريع الإسلامي أولها درء المفاسد ثانيها جلب المصالح ثالثها الاتصاف بمكارم الأخلاق، إذ الحياة السعيدة المذكورة في الآية لا تحقق دون تحقيق هذه المقاصد الثلاث، لكن النظر إلى هذه المقاصد والحكم على وفقها لا يجوز دون مراعاة النصوص والأدلة الخاصة بالمسائل الجزئية ليلَّا يؤديَ ذلك إلى إبطال المعاني الظاهرية للنصوص وتوليد الزعزعة وعدم الاستقرار في الأحكام لعدم الظهور والقطعية في إثبات المقاصد الشرعية، فالشاطبي الذي هو القدوة في اعتبار المقاصد يرى أنه مع ثبوت الحاجة القطعية إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال بالنظر إلى جميع الأدلة لا يكفي تقييم المسائل التي لا يعلم حكمها في ضوء هذه الأسس
بل لا بد من النظر إلى الأدلة التفصيلية وإلا فإنه سيفتح الباب أمام إلغاء المعاني الظاهرية للنصوص فالعقل لا يستطيع المحافظة على هذه الأسس الضرورية على وجه الصواب تماما،

المطلب الثاني: هو الضرورة والحاجة المنزلة منزلتهما
المراد شرعا بالضرورة هو خوف الهلاك وشدة الأذى، والمراد بالحاجة المنزلة منزلتها هو المشقةُ الزائدة على المعتاد منها في التكاليف الشرعية، ودليل الترخُّص بسبب الضرورة قوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) وقوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) ودليل الترخص بسبب الحاجة المنزلة منزلة الضرورة قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا ). هذا ولا بد في ميدان الترخُّص بسبب الضرورة والحاجة المنزلة منزلتها من تفعيل فقه الموازنات الذي قام عليه الدليل من الكتاب والسنة وعمِلَ به السلف الصالح، لابد من تفعيله في تشخيص الضرورة والحاجة المنزلة منزلتها التشخيصَ الشرعي وتقديرهما بقدرهما، بل ما تعيشه الأمة من متغيرات ومستجدات يحتِّم تفعيل ما أصَّله الراسخون في العلم في فقه الموازنات، ومن أهم قواعد فقه الموازنات قاعدة (تفادي أشد الضررين بارتكاب أخفهما) وقاعدة (تقديم أعظم المصلحتين على أدناهما) وقاعدة (تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة).
 

المطلب الثالث هو: العادة والعرف المراد بالعادة والعرف في الاصطلاح هو: (ما استقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة) ويشترط في كون العادة والعرف أصلا يبنى عليه تجديد الأحكام الشرعية عدمُ نص شرعي مخالف لهما، ومن المعلوم في شريعة الإسلام كما تقدم في التمهيد أن فيها أحكاما ثوابتَ لم تُبنَ على العادة والعرف فلا تأثير لهما عليها، وإنما يكون الحكم الشرعي فيها بسبب الضرورة والحاجة المنزلة منزلتها، وفيها أحكام مبنيَّة على العرف والعادة تتغير بتغيُّرهما فتجب مراعاتهما لتُغيَّر حسب تغيُّرِهما، ومن الأدلة على اعتبار العادة والعرف قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) وقوله صلى عليه وسلم لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) وحديث : (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ).


المطلب الرابع: التقسيم والسبر وتطبيقه في تعامل المسلمين مع غيرهم
التقسيم والسبر مصطلح أصوليٌّ والمراد بالتقسيم حصر الأوصاف بالاستقراء العقليِّ والمراد بالسبر عرض كل واحد من الأوصاف على الشرع ليتبين صالحها من فاسدها، وبسط القول فيه معروف عند أهل أصول الفقه في مسالك العلة، وقد دل القرآن على صحة الاستدلال به في أكثر من موضع مثل قوله تعالى في سورة البقرة ردا على من قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة (قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) وقوله تعالى في سورة مريم ردا على من قال لأوتين مالا وولدا (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا) فانتظم من الآيتين حصر الأوصاف في ثلاثة لا رابع لها وهي أنهم إما لهم عهد عند الله أو اطلعوا على الغيب أو يقولون على الله ما لا يعلمون وبين الآيتين الاحتباك الذي هو الحذف من جملة ما يذكر في أخرى فقسم الاطلاع على الغيب حذف من آية البقرة وذكر في آية مريم وقسم القول على الله بغير علم حذف من آية مريم وذكر في آية البقرة والقرآن كلام واحد يبين بعضه بعضا وبيان التقسيم والسبر في تعامل المسلمين مع غيرهم هو أن غير المسلمين لديهم منافع دنيَّوية ومضارُّ دينيَّة ولا يخلو تعامل المسلمين معهم من واحد من أربعة لا خامس لها وهي أخذ المنافع والمضارِّ معاً، أو تركهما معا، أو أخذ المضرة دون المنفعة، أو عكسه وهو أخذ المنفعة دون المضرة، وبالعرض على الشرع يُعْلَم أن الصالح المقبول منها هو الأخير فقط والدليل على ذلك قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم) فقد دلت الآية على إذنه تعالى في معاملة ومجاملة المسالمين منهم لنا دون المحاربين، هذا والواقع العالمي اليوم يفرض التعايش السلميَّ معهم والتعاون في القواسم المشتركة.

المبحث الثاني ضرورة حفظ دين الإسلام ودرء المفسدة عنه
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعلُّم الدين وتعليمه
لا شك أن حفظ الدين آكد الضروريات وأنه لا يحفظ إلا بتعلمه وتعليمه لذلك قال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مسندا وفي البخاري بلا سند: (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل له به طريقا إلى الجنة) وقد حرَّم الله تعالى القول والعمل بغير علم قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الآية
وقال تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقال تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)، وتعلم الدين وتعليمه يعني معرفة أدلته من الكتاب والسنة ومعرفة الأدلة تعني معرفة أوجه دلالاتها وبيان ذلك أن دلالة الأدلة إما قطعية لكون الدليل نصا لا يحتمل غير معنى واحد يتعين الأخذ به مثل قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا )، وإما غير قطعية لكون الدليل يحتمل أكثر من معنى، وهذا الدليل المحتمل إما راجح الدلالة في أحد الاحتمالات فيتعين الأخذ بدلالته الراجحة دون المرجوحة، وهذا هو المعروف في الاصطلاح الأصولي بـ(الظاهر) مثل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس: -في جلد الميتة- (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) فهو راجح في الدلالة على الطهارة المقابلة للنجاسة وعليه يكون مثل جلد المذكاة إذا دبغ، ومرجوح في الدلالة على الطهارة بمعنى النظافة، لكن إذا اقتضى دليل آخر الأخذَ بدلالته المرجوحة صُرف عن دلالته الراجحة إلى المرجوحة وأخذ بها، وهذا هو المعروف في الاصطلاح الأصولي بـ(المؤول) مثاله ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي رافع: (الجار أحق بصقبه) فهو راجح في الدلالة على كل مجاور لأن كلمة الجار صيغة عموم، لكن دل ما رواه الشيخان واللفظ للبخاري من حديث جابر بن عبد الله: (إذا وقعت الحدود وصرِّفت الطرق فلا شفعة) على أن المراد هو دلالته المرجوحة على خصوص الشريك الذي لم يقاسم فأخذ بها، وإما أن يكون مستويَ الدلالة فيما يحتمل من معنى فهو المعروف في الاصطلاح الأصولي بـ(المجمل) الذي يتعين الوقف عن العمل به حتى يوجد الدليل المبين للمعنى المراد به، ومن أمثلة المجمل المبيَّن قوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) فقوله تعالى (إلا ما يتلى عليكم) مجمل قد بيَّنه قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرما على طاعم...... الآية )، هذا وكل مجمل مكلَّف بالعمل به له مبيِّنه، أمَّا المجمل الذي لم يكلف بالعمل به فباقٍ على إجماله كفواتح السور مثل (ألم) و (كهيعص) ونحوها من الفواتح، دليل ذلك قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محمكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات.....الآية )
 

المطلب الثاني: إقامة شرائع دين الإسلام والحذر من التفرق فيه
إقامة شرائع دين الإسلام تعني العمل بها والدعوة إليها في اجتماع وائتلاف، لا افتراق واختلاف قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)
وقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، وضابط العمل بشرائع الإسلام هو الوسطية بحيث يجتنب الأخذ بالترخص في موضع العزيمة فالآخذ بالترخص في موضع العزيمة يعتبر ظالما لنفسه لقوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) ويجتنب العكس الذي هو الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة لما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله: (ليس من البر الصوم في السفر) ولما رواه ابن حبان وغيره في صحيحه من حديث ابن عباس: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) ويجتنب التشدد في موضع التخفيف لقوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم) ولما في الصحيحين من حديث أنس: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا أُخْبِرُوا بِهَا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ الآخَرُ : إِنِّى أَصُومُ الدَّهْرَ فَلاَ أُفْطِرُ وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَقَالَ :« أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى ». ويجتنب التعسير في موضع التيسير لقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ولما رواه الشيخان من حديث أنس: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)، وضابط الدعوة إلى إقامة شرائع الإسلام أن تكون على وفق قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
 

المطلب الثالث: تفنيد تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين لدين الإسلام
قد روى البزار مرفوعا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) فقد دل هذا الحديث أن شأن العلماء الوسطيين تفنيد تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ولا يخفى أن ما جاء في هذا الحديث من تحريف أهل الغلو لِكَلِم الوحي عن مواضعه، وانتحال أهل الباطل المدَّعين على شريعة الإسلام ما ليس منها، وتأويل أهل الجهل لنصوص الوحي التأويلَ الفاسد، هو منشأ الأفكار الدَّاعشية الإرهابية المتطرفة التي ترجمتْها إلى حاكميتها التي كفرت بها أمة الإسلام واعتزلتها وبغت وخرجت على ولاة أمور المسلمين واستباحت دماء المخالفين بها،

ولا يخفى أن أصل حاكمية داعش هو حاكمية الخوارج أيام علي ومعاوية رضي الله عنهما وبيان حاكمية الخوارج أن عمرو بن العاصي حين خاف انتصار قوم علي يوم صفين قال لمعاوية أرى أن نرفع المصاحف في وجه هؤلاء ونقول لهم هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم فإن أبى بعضهم أن يقبل وجدت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبل فتكون فرقة بينهم فلما رفعوا المصاحف قال علي لقومه عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فقال بعضهم لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى فقال علي إني إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم كتاب الله فلما رأى عليٌّ إصرارهم وافقهم ثم لمَّا تواثق أبو موسى الأشعري من قوم عليٍّ مع عمرو بن العاصي من قوم معاوية وأجل القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه قال القائل ممن سيكون من الخوارج تحكِّمون في أمر الله الرجال لا حكم إلا لله، وقال عليٌّ في الردِّ إنا لم نحكِّم الرجال إنما حكَّمنا القرآن وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال، ثم آل الأمر إلى خروج مجموعةِ الخوارج وتكفيرهم لعليٍّ ولمعاوية بزعمهم أنهما حكَّما الرجال ولم يُحَكِّما القرآن متشبثين بمثل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ورتبوا على تكفيرهما الممالأة على قتلهما فانتدبوا لقتل كل منهما رجلا بيده سيف مسمم فأصابت ضربة قاتل علي رأسه فاستشهد رضي الله عنه وأخطأت رأسَ معاوية ضربة من يريد قتله ووقعت في مؤخره فعولج منها فبرئ ، وعلى غرار هؤلاء الخوارج رأت الداعشية أن العمل السياسيَّ البرلمانيَّ يشرَّع طبق القوانين الوضعية واعتبرته شكلا من أشكال منازعة الله تعالى في حكمه فكفروا الدول الإسلامية وخرجوا على ولاة أمورها، ورفعوا راية القتال زاعمين أنهم يريدون إعادة الخلافة الإسلامية، وجعلوا دار الإسلام دار حرب، واستباحوا دماء المخالفين فسفكوا دماء الأبرياء وانتهبوا الأموال وانتهكوا الأعراض وعاثوا في الأرض فسادا بالتفجير والتدمير، وهذا من غلوهم وتطرفهم ومخالفتهم لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أهل الوسطية الإسلامية من أنه لا يحكم بالخروج من الملة على أهل القبلة ما داموا معترفين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقين بما أخبر به، وأنَّ الكفر والنفاق المطلقين في بعض نصوص الوحي على بعض المعاصي عمليَّان لا عقديَّان بالنسبة لأهل القبلة،

بل أهل القبلة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته» يُسمَّوْن في الوسطية الإسلامية مسلمين مؤمنين، ما داموا معترفين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مصدقين بما أخبر به، فأهل الوسطية الإسلامية لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب ما لم يستحله، ولا يقولون: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب لمن عمله، فلا هم مرْجِئُون ولا هم مكفرون وعيديُّون ولا هم يرون المنزلة بين المنزلتين، بل يسلكون المسلك الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فيرجون للمحسنين من المؤمنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الله الجنة برحمته، ويستغفرون لمسيئيهم ولا يأمنون عليهم ويخافون عليهم ولا يقنطونهم، ويرون أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا موحدين وإن لم يكونوا تائبين، بل يرون أنهم صائرون إلى مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما قال تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته( ).


المطلب الرابع: الحكم الشرعي في بعض محاور المؤتمر من أفكار الداعشية والمخدرات والتدخين والمثلية والتحرش والسفور الجارح والعنف ضد المرأة والرشوة والغش وقضايا الجينوم والبويضات وبنوك المني والأم البديلة وأطفال الأنابيب والاستنساخ وزواج الأطفال والعنوسة وتعدد الزوجات.

إذا علمنا أن حفظ دين الإسلام ودرء المفسدة عنه هو آكد الضروريات وعلمنا أن حفظه يتمثل في تعليمه وتعلُّمه، وإقامة شرائعه، ونفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عنه فلا بأس أن نستعرض على ضوء ذلك حكم بعض محاور المؤتمر وذلك كما يلي:

أفكار الداعشية:
إن أفكار الداعشية التي ترجمتْها إلى حاكميَّتها التي كفرت بها أمة الإسلام وبغت وخرجت على ولاة أمورها ورفعت راية القتال وجعلت دار الإسلام دار حرب أفكار إرهابية هدامة منافية لإقامة شرائع الإسلام يجب التصدي لها والقضاء عليها فكريا واقتصاديا وعسكريا على المستوى المحلي والدولي لما رواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث ابن مسعود مرفوعا: (والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه عليه قصرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم)،

المخدرات والتدخين:
لا يخفى أن تعاطي المخدرات والاتجار بها جريمة مدمرة عابرة للقارات محرمة بما في الصحيحين من حديث: (كل مسكر حرام) وهي من روافد الإرهاب فتجب أيضا مواجهتها والقضاء عليها اقتصاديا وعسكريا، والتدخين لصيق بتعاطي المخدرات فتجب محاربته للاتفاق على خطورته على الصحة وقد قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)

المثلية والتحرش:
لا يخفى أن المثلية والتحرش من رذائل الأخلاق المنافية للاتصاف بمكارم الأخلاق الذي هو أحد مقاصد شريعة الإسلام وكل منهما محرم بمقتضى قوله تعالى: (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) فيجب فيهما التعزير الرادع .
السفور الجارح:
من المعلوم أن السفور الجارح من التبرج الجاهلي الذي حرمه الله تعالى حيث قال: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وقال تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)
العنف ضد المرأة:
من المعلوم أيضا أن العنف ضد المرأة محرم بمقتضى قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف)
الرشوة والغش:
من المعلوم أن الرشوة ملعون صاحبها لما رواه أبوداود والترمذي وصححه من حديث عبد الله بن عمرو : (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) وأن الغش محرم بما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: (من غشنا فليس منا).
قضايا الجينوم والبويضات وبنوك المني والأم البديلة وأطفال الأنابيب والاستنساخ:
لا يخفى أن قضايا الجينوم والبويضات وبنوك المني والأم البديلة وأطفال الأنابيب والاستنساخ أعمال غير جارية على سنن شريعة الإسلام لمخالفتها للطريقة المشروعة في الإسلام للتناسل فهي من عمل الشيطان الذي قال الله تعالى عنه: (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام والآمرنهم فليغيرن خلق الله)،

زواج الأطفال وفوضى الطلاق والعنوسة رغم القدرة المالية والصحية وتعدد الزوجات دون داع شرعي:
حكم زواج الأطفال وفوضى الطلاق والعنوسة رغم القدرة المالية والصحية وتعدد الزوجات دون داع شرعي بحسب تشخيص الواقع المعبر عنه بتحقيق المناط، والموازنة بين المصلحة والمفسدة. وهذا آخر ما سمح به الوقت من الكتابة تحت عنوان: (تجديد الفكر في العلوم الشرعية). وصلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
قاله وأملاه/مفتي عام موريتانيا: أحمد المرابط الشنقيطي.


خاتمة في ملخص البحث:
قد توصلت من خلال البحث إلى نتائج أهمها ما يلي:
1. أن الله تعالى متًّع الإنسان بآليات الفكر ليفكر ويشكر.
2. وأنه تعالى جعل شريعة الإسلام على قسمين، قسم مبني على العرف يجب تغييره وتجديده بتغيره وتجدده وقسم غير مبني على عرف سبقه بل شرعه تعالى فصار عرفا لا يتغير بتغير أعراف الناس لكن يتجدد فيه الترخيص للضرورة والحاجة المنزلة منزلتها.
3. وأن تجديد الفكر في العلوم الشرعية ضرورة دينية شرعية علمية وقضية قائمة وأنه إنما يكون من العلماء العارفين بمقاصد الشرع وبأدوات الاجتهاد.
4. وأن لتجديد الفكر في العلوم الشرعية أصولا منها مراعاة مقاصد شريعة الإسلام التي هي درء المفاسد وجلب المصالح والاتصاف بمكارم الأخلاق ومنها الضرورة والحاجة المنزلة منزلتها ومنها العرف والعادة ومنها التقسيم والسبر.
5. وأن حفظ الدين ضروري ولا يتحقق إلا بتعلمه وتعليمه وأن تعلمه وتعليمه يعني معرفة أدلته وأن معرفة أدلته تعني معرفة أوجه دلالاتها ولا يتحقق حفظه أيضا إلا بإقامة شرائعه والدعوة إلى إقامتها وأن ضابط إقامة شرائع الإسلام هو الأخذ بالوسطية بحيث لا تؤخذ الرخصة في موضع العزيمة أو العزيمة في موضع الرخصة أو التشدد في موضع التخفيف أو التعسير في موضع التيسير وضابط الدعوة إليها هو الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.
6. وأن شأن العلماء الوسطيين تفنيد تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين لدين الإسلام.
7. وأن أصل حاكمية داعش هو حاكمية الخوارج الذين كفروا عليا ومعاوية رضي الله عنهما زاعمين أنهما حكما الرجال ولم يحكما القرآن ورتبوا على تكفيرهما الممالأة على قتلهما فانتدبوا لقتل كل منهما رجلا بيده سيف مسمم فأصابت رأس علي ضربة قاتله فاستشهد رضي الله عنه وأخطأت رأسَ معاوية ضربةُ مريد قتله فأصابت مؤخره فعولج فبرئ، فعلى غرار هؤلاء الخوارج رأت الداعشية أن العمل السياسي البرلماني يشرع طبق القوانين الوضعية واعتبرته شكلا من أشكال منازعة الله تعالى في حكمه فكفروا الدول الإسلامية ورفعوا راية القتال زاعمين أنهم يريدون إعادة الخلافة الإسلامية وجعلوا دار الإسلام دار حرب واستباحوا دماء المخالفين فسفكوا دماء الأبرياء وانتهبوا الأموال وانتهكوا الأعراض وعاثوا في الأرض فسادا بالتفجير والتدمير وهذا من غلوهم وتطرفهم ومخالفتهم لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أهل الوسطية الإسلامية من أنه لا يحكم بالكفر على أهل القبلة ما داموا معترفين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقين بما أخبر به.
8. وأن أفكار الداعشية أفكار هدامة إرهابية تجب مواجهتها والقضاء عليه فكريا واقتصاديا وعسكريا وأن تعاطي المخدرات والاتجار بها جريمة مدمر تجب مواجهتها والقضاء عليها وأن التدخين لصيق بتعاطي المخدرات فتجب محاربته للاتفاق على خطورته على الصحة وأن المثلية والتحرش من رذائل الأخلاق محرمان بمقتضى قوله تعالى فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وأن السفور الجارح من التبرج الجاهلي المحرم وأن العنف ضد المرأة محرم بمقتضى قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها..... الآية) وأن الرشوة ملعون صاحبها في الحديث والغش محرم بحديث: (من غشنا فليس منا) وأن قضايا الجينوم والبويضات وبنوك المني والأم البديلة وأطفال الأنابيب والاستنساخ أعمال غير جارية على سنن الإسلام فهي من عمل الشيطان وأن زواج الأطفال وفوضى الطلاق والعنوسة رغم القدرة المالية والصحية وتعدد الزوجات دون داع شرعي بحسب تشخيص الواقع المعبر عنه بتحقيق المناط والموازنة بين المصلحة والمفسدة.