خلال حفل منحه الدكتوراه الفخرية من جامعة "أوراسيا" في كازاخستان.. الإمام الأكبر: مناهج التعليم في الأزهر تُمَثِّل ترجمة أمينة لرُوح الإسلام ووسطيته

  • | الثلاثاء, 9 أكتوبر, 2018
خلال حفل منحه الدكتوراه الفخرية من جامعة "أوراسيا" في كازاخستان.. الإمام الأكبر: مناهج التعليم في الأزهر تُمَثِّل ترجمة أمينة لرُوح الإسلام ووسطيته

كازاخستان شكّلت حاضنة أصيلة من حَواضن العقل المسلم واللسان العربي

دينٌ يقوم على السلام والأخوة الإنسانية يستحيل أن يوصف بأنه دينُ قتلٍ وتفجير

طلاب الأزهر أبعدُ الناسِ عن الوقوع في براثن الفكر المتشدد

الحضارة الإسلامية قامت على أساس مُثَلَّث الوَحي والعقل والأخلاق

قواعد الأخلاق يجب أن تكون حاكمة لحركة الحضارة ومسيرة التاريخ

مناهج الأزهر قامت منذ نشأته على الجمع بين علوم النص والعقل والذَّوق

 

منحت جامعة "أوراسيا الوطنية"، أكبر جامعات كازاخستان، اليومَ الثلاثاء، فضيلةَ الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، درجة الدكتوراه، وذلك في حفلٍ كبير، شارك فيه عمداء وأساتذة وطلاب الجامعة، وحشد من النخب والشخصيات الدينية والفكرية والثقافية في كازاخستان.

وأعرب د/ يارلان سيديكون، رئيس جامعة "أوراسيا الوطنية"، عن سعادته وفخره بزيارة الإمام الأكبر، مؤكدًا أن الجامعة تُعَوِّل عليها بشدة في توثيق وتطوير عَلاقتها مع الأزهر، خاصة في مجال تكوين وإعداد الكوادر الدينية، القادرة على نشر وتعليم الأصول والمبادئ الدينية، في المساجد والمراكز الدينية.

وألقى فضيلة الإمام الأكبر كلمة خلال الحفل، شدد خلالها على أن مناهج الدراسة في الأزهر قامت منذ نشأته على أساس الجمع بين علوم النص والعقل والذَّوق، وعلى منهج الحوار وقَبول الرأي والرأي الآخَر، واحترام اختلاف المذاهب، وهو ما يجعل طلابَ الأزهر أبعدَ الناس عن الوقوع في براثن الفكر المتشدد.

كما أشاد فضيلته بدَور الشعب الكازاخي في بناء ونهضة الحضارة الإسلامية، من خلال أبنائه الأفذاذ من أمثال: الفارابي، فيلسوف الإسلام، وأبي إبراهيم إسحاق الفارابي، صاحب "ديوان الأدب"، والعلّامة الجَوهري، صاحب معجم "الصحاح".

وفيما يلي النص الكامل لكلمة فضيلة الإمام الأكبر، أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، خلال الحفل:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه- وبعد؛

معالي أ.د/ يارلان باتا شيفيتش سيديكون، رئيس جامعة جوميليوف الأوراسية الوطنية.

السادة الزملاء أعضاء هيئة التدريس.

بناتي وأبنائي الطالبات والطلاب.

السيدات والسادة!

الحفل الكريم!

السلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته.

ويسـعدني أن أبدأ كلمتي بين أيديكم بتقـديم خالص الشكر والامتنــان لجامعتكم الموَقَّرة؛ رئيـسًا وأسـاتذة وطالباتٍ وطـلابًا وموظفـين وعاملين على دعوتكم الكريمة لزيارة هذه الجامعة الشابة الفَتيّة، والواعـدة بتحقيق الكثير من آمال شعوب هذه المنطقة وحلمها في أن يتبوأ التعليم فيها مكانه اللائق بين جامعات العالم ومؤسساته التعليمية؛ علمًا وثقافة وفنًّا وتقنية، وها هي جامعتكم؛ جامعة أوراسيا الوليدة، لم تُـكمِل عامها الميـلادي الرابع، حتى دخلت عضوًا في أكثرَ من رابطـة من رابطـات الجـامعات الأوروبية والإقليمية، وأكثر من منظمة من المنظمات الدولية وأكاديميات التعليم العالي.

ولا شك في أن هذه القفزات الواثقة الخُطى تعليمًا، وراءها تعليمٌ متميّز جادّ، وعقول يقظة سـاهرة تُفَكّر آناء الليل، وتُنَفِّذ أطراف النهار، وهذا هو «الجهد المشكور» الذي تحتاجه شعوبنا الإسلامية، وتنتظره من شباب علمائها من رواد التعليم الجامعي وما قبلَ الجامعي ومن المعلمين ورجال الفكر والأدب والفن والصحافة.. وهو أمر ليس بصعب المنال ولا بعيد الحصول حين تتوفر له شروط التغيير، التي اختصرها القرآن الكريم في قوله تعالى: (إن الله لا يُغَيِّر ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم) [الرعد: 11]، والآية الكريمة قانونٌ عامّ في كل ما يراد فيه تغيير، بل هي قانونٌ لنجاح أيّ مجهود يُبذل على طريق التنمية والرُّقيّ والرفاهية.. ورغم أن هذا القانون نحفظه عن ظهر قلب، ويُردّده أبناؤنا في مختلِف مراحلهم التعليمية، فإنه كثيرًا ما يعوزنا تطبيقه في حياتنا العملية والنزول به إلى أرض الواقع.

تحية من القلب لهذه الجامعة المتوثبة، وإكبارًا منا لصانعي عقولها وباعثي الهمم والعزائم بين جنباتها..

بناتي وأبنائي الطالبات والطلاب!

لا أقول جديدًا إذا رحتُ أتلو على مسامعكم احتفال «الإسلام» قرآنًا وسُنّة وحضارة بالعقل والعلم، فلربما تحفظونه مثل ما أحفظه، ولكن أود أن أحدثكم عن الإطار العامّ للحضارة الإسلامية؛ علمًا ومعرفة وسلوكًا، وهو إطارٌ يُشبِه «المُثَلَّث» المُتساويَ الأضلاع، وهذه الأضلاع هي: الوَحي الإلهي المُخاطَب به العقل الإنساني، والعقل المُفَكِّر المنضبط بتعاليم الوحي، ثم الأخلاق التي تُمَيِّز تمييزًا دقيقًا بين ما هو حسن وما هو قبيح.

فأما الوحي في هذه المنظومة الثلاثية فهو: النصوص الإلهية القاطعة، وهي نصوص القرآن الكريم، وما ثبت نقله ثبوتًا قاطعًا من أقوال النبي ﷺ وأفعاله، بحسبانه نبيًّا يُبَلِّغ الناسَ ما أمره الله بتبليغه من شرائعَ وتعاليمَ وتوجيهات.

ويأتي «العقل» لِيُمَثِّل الشرطَ الأول في التكليف وفهم الخطاب الإلهيّ والالتزام بمنطوقه ومفهومه.

وقد عَوَّل عليه القرآن الكريم تعويلًا كاملًا في خطاب الإنسان، وفي محاورة كلّ مَن لديه أهليّةٌ للفهم والحوار.

وإن نظرة سريعة على صفحات القرآن؛ لتكفي في إدراك «المنزلة العظمى» التي منحها للعقل، ولكل أنشطته المعرفية، سواء منها ما كان منها على سبيل الحدس، أو على سبيل الاستنباط والاستدلال؛ فقد وردت مادة «عقل»، وما يُشتقّ منها أو يرادفها في الدلالة على الفكـر والتأمـل، أكثـر من 120 مـرة في آيات القرآن، وبمفردات متكررة لافتة للانتباه، مثل: يعلمون ويعقلون ويتدبرون ويفكرون وينظرون ويسمعون ويفقهون وغير ذلك، هذا فضلًا عن التفرقة الدقيقة التي تطالعنا بين مرتبة «العلم» الذي هو اليقين الذي لا يقبل النقيض، وبين مرتبة الظن والشك والارتياب، وقد نعى الله تعالى على هؤلاء الذين يخلطون بين العلم والظن فقال: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرِض عمّن توَلّى عن ذكرنا ولم يُرِد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) [النجم: 28 – 30].

أما البُعدُ الثالث في هذا الإطار: فهو بُعدُ الأخلاق الذي يرتبط بالسلوك والتصرف والتبعات الفردية والأسرية والمجتمعية..

وحرصًا على وقت حضراتكم؛ أكتفي في الحديث عن هذا البُعد الثالث ببيان أمرين:

الأمر الأول: أن الحُكم الخلقي في الإسلام حكم ثابت، لا يتحرك ولا يتطور ولا يتغير، وهكذا شأن المعايير والموازين، حتى في الأمور المادية والشؤون الحسية، لأن الغش والتدليس والكذب كلها رذائل مرهونة بزيف الموازين وتذبذب المعايير، وسواء كان الموزون شيئا محسوسا، أو معقولا مجردا، ويلزم ذلك أن تكون قواعد الأخلاق حاكمة لحركة الحضارة ومصححة لمسيرة التاريخ، «ومن هنا كان من الصعب تصور أن يأتي على المسلمين زمن يتسلطون فيه على الآخر، أو يبررون قتله أو إخضاعه لإرادة غيره، فالفعل الحسن في ميزان الأخلاق الإسلامية حسن في كل الظروف والأحوال إلى آخر الزمان، والقبيح كذلك قبيح إلى آخر الزمان».

الأمر الثاني: أن الأخلاق هي أساس العبادات في الإسلام، بمعنى: أن العبادة في الإسلام لا تغني عن الأخلاق، مهما بالغ صاحبها في التقيد بقيودها والتشدد في أدائها، والعجيب في هذا الأمر هو أن عبادات المسلم -على اختلاف صورها وأشكالها-تصبح في مهب الريح إذا لم تستند على خلفية من فضائل الأخلاق العملية، قيل للنبي ﷺ: «إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال: لا خير فيها، هي في النار، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتتصدق بالأسوار من الطعام، وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي أحدا؛ فقال: هي في الجنة»، وكان يقول: «إن المؤمن يألف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف» ويقول: «إن العبد ليبلغ بحسـن خلقه عظيم درجات الآخرة، وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درك من جهنم وهو عابد».

.. .. ..
الحفـــل الكـريم!

تعلمون حضراتكم أن تاريخ الأزهر الشريف كجامع للعبادة وجامعة للعلوم والمعارف - يعود إلى سنة 972 ميلادية، أي منذ ألف وست وأربعين عاما مضت من عمر الزمان.. وبوسعي أن أؤكد لكم أن مناهجه التعليمية قد بنيت كلها داخل الإطار الذي أشرت إليه.. وهي تدور على دراسة: علوم النص، وعلوم العقل، وعلوم الذوق.

وعلوم النص: هي كل ما نشأ من علوم تدور حول نص القرآن الكريم، ونصوص السنة النبوية.. كالتفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومـه، والفقه وأصوله وعلوم السيرة وأصول العقيدة ومسائلها الكبرى.

أما علوم العقل: فهي مثل علم الكلام والفلسفة بمختلف مدراسها وعصورها، وعلم المنطق وأدب البحث والمناظرة، وعلم الجدل والخلاف ، والمنطق الحديث ومناهج البحث.

ويُقصد بعلوم الذوق: علوم التصوف الإسلامي بمدارسه وأذواقه المتعددة، وهو نفسه علم الأخلاق والآداب والفضائل.

وهكذا كان المنهج التعليمي في الأزهر ترجمة صادقة أمينة لرُوح الإسلام ووسطيته وطبيعة تراثه؛ العقلي والنقلي.

ومن المهم أن أشير إلى أن العملية التعليمية في علوم التراث، وإن كانت تعتمد على الشرح والتوضيح، إلا أنها تقوم على منهج الحوار وثقافة الرأي والرأي الآخَر، واحترام اختلاف المذاهب في كل العلوم بلا استثناء؛ مما يُرَسِّخ في ذهن الطالب الأزهري منذ نعومة أظفاره شرعية الاختلاف، والتعامل مع الآراء المختلفة على قدم المساواة بحسبانها اجتهادات في فهم النص؛ وليس من حق أي مذهب أو رأي أن يُصادِر المذاهب الأخرى ويُقصيَها ما دام له سند من الشرع أو حُجّة من العقل؛ ومن هنا قيل: «اختلافهم رحمة»؛ أيْ: سَعَة للناس في الدين والدنيا، وقد نقل الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات" قول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: ما أُحِبُّ أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو كان لهم قول واحد لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، لو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سَعَة.

ومن هنا أيضًا كان طلاب الأزهر الشريف من أَبعدِ الناس عن الوقوع في براثن الفكر المتشدد، ومِن أعصاهم على استقطاب الجماعات المسلحة التي تقتل الناس باسم هذا الدين الحنيف وباسم نبيه، الذي بعثه الله رحمة للعالمين جميعًا؛ من إنسان وحيوان ونبات وجماد.

الحفل الكريم!

إن زيارتي لهذه البلدة الطيبة التي أفتتحها اليوم بلقائكم العلمي الراقي، تُجَدِّد في ذاكرتي روابطَ علميةً ولُغَويّة، ارتبط بها عقلي ولساني بأرض كازاخستان وما حولها، مُذ كنتُ طالبًا بقسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين في الأزهر الشريف، في ستينيات القرن الماضي، فقد بدأتُ دراستي في الفلسفة الإسلامية بالكندي، فيلسوف العرب، ثم بابنكم، ابن كازاخستان، فيلسوف الإسلام والمعلم الثاني، أبي نصر الفارابي، المولود في إقليم فاراب، سنة260هـ /874م، وهو ليس فيلسوفًا إسلاميًّا فقط، بل هو فيلسوف عالمي، لاتزال جامعات الشرق والغرب تُدَرِّس فلسفته وتراثه في كل أبعاده؛ الميتافيزيقية والسياسية والاجتماعية، واكتشافاته الموسيقية وغيرها، ولاتزال حياته البسيطة الموغلة في الزهد والتعفف عن المادة مَثارَ دهشة الزهاد وإعجاب العارفين، وهناك فارابيٌّ آخَرُ، ربما كان معاصرًا للمعلم الثاني، وهو: أبو إبراهيم إسحاق الفارابي، صاحب «ديوان الأدب»، الذي تَفَرّد فيه بمسلك خاص لم يسبقه إليه أحد، مما جعل منه أول معجم عربي مُرَتَّب بحسب الأبنية، وقد طُبع حديثًا في القاهرة، في أربعة مجلدات، وهذا العلّامة اللُّغوي هو خال العلّامة «الجوهري» إسماعيل بن حماد، أحد علماء فاراب؛ صاحب معجم "الصحاح"، الذي لا يستغني عن الرجوع إليه كاتبٌ أو أديب في اللغة العربية.

هؤلاء الأئمة الأعلام مجرد أنموذج لقافلة من روّاد الفكر الإسلامي قد تستعصي على الحصر، نبتت في كازاخستان ونشرت أنوار العلم والفكر في سائر الأقطار الإسلامية، وبسابقتهم الضاربة بجذورها في أقدمِ الأزمان؛ استحقت «كازاخستان» أن يقال عنها: إنها حاضنةٌ أصيلة من حَواضن العقل المسلم واللسان العربي.

والأزهر الشريف وهو يفتح أبوابه على مصاريعها لأبناء كازاخستان للدراسة في جنباته، إنما يراعي هذا التاريخ وهذه السابقة، ويحرص كلّ الحرص على تواصلها واستمرارها.

السادة الأفاضل!

إن جامعتكم الموقرة، وهي تتفضل بتكريمي ومنحي درجة الدكتوراه الفخرية، تُكَرِّم في الوقت ذاتِه الأزهرَ الشريف؛ جامعًا وجامعة، علماءَ وأساتذة وطلابًا، بل تُكَرِّم المسلمين في الشرق والغرب، وتلفت النظر إلى رسالة الأزهر العالمية في نشر مبادئ الإسلام الصحيحة، التي تقوم على السلام والأخوة الإنسانية، واحترام الآخَر وقَبوله، أيًّا كانت عقيدته، وكائنًا ما كان جنسه أو لونه أو لغته، فالكل خَلْق الله وعباده، والناس سواسية كأسنان المشط، كما أخبر نبيُّ الإسلام -صلى الله عليه وسلم- وكما قال في خُطبته الأخيرة في حجّة الوداع: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب.

ودينٌ يقوم على هذا المبدأ؛ يستحيل أن يوصف بأنه دينُ دماءٍ وقتلٍ وتفجيرٍ واغتيال، فهذه الجرائم البشعة هي خيانةٌ لله ورسوله، وكذبٌ وافتراءٌ وظلمٌ بَيِّنٌ للإسلام والمسلمين.

طباعة