Al-Azhar Portal - بوابة الأزهر - النبي القدوة
الأحد 19 05 2024 02 58 44 | 19 مايو 2024 م

النبي القدوة

بقلم :محمود صدقي الهواري الباحث الشرعي بالأزهر الشريف

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعد، فقد ختمنا مقالنا السابق بقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ الأحزاب: 21، ووجود القدوة الحسنة في الحياة ضرورة لا بد منها، ليحتذى بها الإنسان ويكتسب منها المعالم الإيجابية لحركته في الحياة، سواء مع الله تعالى في أداء العبادات، أو مع الأهل والأبناء في المسؤوليات، أو مع الناس في المعاملات، أو مع المجتمع من حوله في العلاقات، أو مع النفس وتزكيتها في الأخلاقيات، وهكذا.

ولا شكّ أنّ النّاس بحاجةٍ إلى قُدْوَةٍ عمليّةٍ، يرون أَثَرَهَا واقعًا مجسّدًا في الحياة، وليسوا بحاجةٍ إلى منظّرين ينظّرون تنظيرًا باردًا، باهتًا لا علاقة له بدنيا النّاس.

إن مشكلة كثير من الدعاة الآن الذين يدعون النّاس إلى مناهجهم أنهم يقولون ما لا يفعلون، ويدعون إلى ما لا يطبقون، كبر مقتًا عند الله أن يقول الدعاة ما لا يفعلون، فمن أجمل ما يفعله الدعاة أن يكونوا دعاة بأحوالهم قبل أن يكونوا دعاة بأقوالهم، وعندئذ تتعلق بهم القلوب والأسماع؛ لذلك لـمـّـا رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يحوّل هذا المنهج الربانيّ والنبويّ في حياتهم إلى منهج عمليّ واقعيّ تعلقت به القلوب وألقى الناس إليه الأسماع.

كما أن مشكلتنا الآن أن كثيرًا من أبنائنا وأهلينا قد افتقدوا القدوة في كل ميادين الحياة، في الدعوة، وفي البيوت، وفي العمل، بالرغم من كثرة المنظرين والمتحدثين، فنحن نحتاج الآن إلى قدوة تشهد بأخلاقها وسلوكها وقولها وعملها لا إلى مُنَظّرٍ سلبي باهت لا يمت تنظيره إلى واقعه ولا قوله إلى فعله ولا وعظه إلى خلقه بأدنى صلة.

فللقدوة أثر خطير في سلوك الناس، وكثيرا ما تجد الناس يقلدون من أحبُّوهم من قيادات في كل شيء، حتى ترجم الشاعر أثر القدوة في السلوك فقال:

مشى الطاووس يومًا باختيال فقلد مشيته بنوه

فقال: علام تختالون قالوا بدأت ونحن مقلدوه

وينشأ ناشئ الفتيان منّا على ما كان عوّده أبوه

ورسول الله صلى الله عليه وسلم خير قدوة، بل كان صلى الله عليه وسلم عجيبة من عجائب الكون، وآية من آيات الله في كلّ أحواله؛ فهو رسول يتلقى الوحي من السماء ليربط الأرض بالسماء بأعظم رباط وأشرف صلة، وهو رجل دولة، يقيم للإسلام دولة فتيّة قويّة من فتات متناثر، لا تعرف من أنظمة الدول إلا الأسماء، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئًا، وهو رجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش بنفسه، بل يتّقِي به المسلمون إذا حمي الوَطِيْسُ واشتدت المعارك، فإذا هو واقف على ظهر دابته لينادي على الجمع بأعلى صوته يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، وهو مع ذلك رب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثير من النفقات من الوقت والفكر والتربية، فضلا عن النفقات المادية، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدور على أعلى وأتمّ وأكمل وجه شهدته الأرض وعرفه التاريخ.

ومع هذا كلِّه كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجلا إنسانيًّا من طراز فريد يمسح دموع البائسين، ويضمد جراح المجروحين، ويُذْهِبُ آلام البائسين المتألمين، وهو رجل عبادة قام بين يدي الله حتى تورمت قدماه، فلما قيل له: أولم يُغْفَر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال قولته الجميلة: ( أفلا أكونُ عبدًا شكورًا). وهو رجل دعوة أخذت منه وقته وفكره وجهده، قال له ربه:  يا أيُّها المدَّثِر قُمْ فَأْنْذِر  المدثر:1-2، فقام ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه جل وعلا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعلقت به قلوب أصحابه حتى نقلوا سيرته كلها قولا وفعلا وحالا ومقالا وصفة إلا لأنه قدوة، ما أمرهم بأمر إلا وكان أول المنفذين له، وما نهاهم عن نهي إلا وكان أول المتباعدين عنه، وما حدّ لهم حدًّا إلا وكان أول من وقف عند هذا الحد.

وإذا كانت أخلاق الإنسان هي المرآة الصافية التي تعكس سيرته، فها هو القرآن الكريم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد تحلى بمكارم الأخلاق، وأنه أرفع قدرًا، وأعلى مكانة من سائر البشر لما هو عليه من جليل الأعمال، وقويم الأخلاق، وهل يخفى قوله تعالي: وإنّك : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ القلم: 4.

 وهناك من الصفات الخاصة التي وصف بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل قوله تعالي: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ آل عمران: 159.

 وهي شهادة على صفاته في الرحمة والرأفة، كما قال الله عز وجل فيه ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ التوبة: 128 وقوله سبحانه ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ الأنبياء: 107.

وفي هاتين الآيتين قد وصفه ربه بما وصف نفسه.

ثم هناك شهادات زوجاته وأصحابه، ومن المعروف أن الزوجة أعرف من غيرها بصفات زوجها وأخلاقه، منذ أول لحظة يخاطب فيها بالخطاب الإلهي: {اقرأ} قالت له زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها عندما، مدخلة الطمأنينة على قلبه: والله لا يخزيك الله أبدا فإنك تصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتنصر المظلوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

 ووصفه خادم له، وقد ينظر إلى الخدم في عصر الحضارة نظرة دونية، وصفه خادمه أنس بن مالك -رضى الله عنه- فقال: "خدمته عشر سنين، ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا؟".

فيجب على كل مسلم ومسلمة الاقتداء والتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -; فالاقتداء أساس الاهتداء، قال تعالى : "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" الأحزاب:21، قال ابن كثير : "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله – صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله.

وإن كان الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يكون في كلّ جانب، إلا أن أشدّ ما نحتاج أن نذكره الآن هو موقف نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلم من غير المسلمين.

ويمكننا أن نسأل:

هل كره النبي صلى الله عليه وسلم من لم يؤمن به؟

هل سعى فيما ينغص عليه حياته؟

وهل حاربه له؟

وهل تمنّى له الشرّ؟ 

يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, يقول: قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‏مُحَارِبَ ‏خَصَفَةَ بِنَخْلٍ ‏فَرَأَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ‏ ‏غِرَّةً‏؛ ‏فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ:‏ ‏غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ‏ ‏حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ ‏صلى الله عليه وسلم ‏بِالسَّيْفِ؛ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: "اللَّهُ "؛ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ‏ صلى الله عليه وسلم‏فَقَالَ: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟" قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ. قَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟" قَالَ: لا. وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لا أُقَاتِلَكَ, وَلا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ؛ فَخَلَّى سَبِيلَهُ. قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ".

فهذا رجل أمسك السيف, ووقف به على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهدده بالقتل, ثم نجَّى الله عز وجل رسولَه, وانقلبت الآية, فأصبح السيف في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك فالحقد والغِلُّ لا يعرفان طريقهما أبدًا إلى قلبه .. إنه يعرض عليه الإسلام, فيرفض الرجل, ولكن يعاهده على عدم قتاله, فيقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببساطة, ويرحمه, ويعفو عنه, ويطلقه آمنًا إلى قومه!!

وتروي عائشة رضي الله عنها فتقول: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا؛ فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "مَهْلاً يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ" (وفي رواية: وإياكِ والعنف والفحش), فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ".

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو القائد الممَكَّن في المدينة- يدخل عليه مجموعة من اليهود, فيدعون عليه بالموت في وجهه وهم يتحايلون باستخدام لفظ "السَّام" القريب من كلمة "السلام", بحيث لو واجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك لقالوا كذبًا: لقد قلنا: "السلام", ورسول الله  مع يقينه بما قالوا, ومع وجود عائشة رضي الله عنها في المجلس وسماعها لمثل ما سمع, إلا أنه لا يقيم عليهم حكمًا ما داموا مُنْكِرين, ولا يقول: شهادتي وشهادة عائشة رضي الله عنها أمام شهادتكم, بل يكتفي بأن يرد لهم الكلمة بأدب, فيقول: "وعليكم", ولا يفعل مثلهم, ولا ينطق بلفظهم, بل إنه ينهى عائشة رضي الله عنها عن العنف والفحش, ويأمرها باتِّباع الرفق في المعاملة حتى مع مَن يدعو عليك بالموت في وجهك!

ونحن لا نخالف الحقيقة إذا قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يعامل غير المسلمين المحيطين به معاملة الرجل لأهله.. فها هو أنس رضي الله عنه  يروي موقفًا عجيبًا من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيقول: "كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ‏‏صلى الله عليه وسلم  ‏فَمَرِضَ؛ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ‏ ‏صلى الله عليه وسلم  ‏يَعُودُهُ؛ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ"؛ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ؛ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ ‏أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم ؛ ‏فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ.

بمثل هذا فليقتد المقتدون، وليلتفت الباحثون عن مثل هنا أو هناك.

نسألك اللهم أن تحيينا على سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأن تميتنا على ملته، وأن تحشرنا تحت لوائه، وأ، تسقينا من يده، وأن تسكننا فردوسك الأعلى معه.

الموضوع السابق هدية السماء في مولد سيّد الأنبياء
الموضوع التالي الأخلاق الحميدة
طباعة
1920

حقوق الملكية 2024 الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg