كلمة فضيلة الإمام الأكبر بإندونيسيا
بسم الله الرحمن الرحيم
ــــــــــــ
كلمة إندونيسيا ([1])
الحمدُ للهِ وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
السَّـــادة الحضـــور!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد/
فأبدأ كلمتي بحمد الله وشكره والثناء عليه بما هو أهله، أن هيأ لي وللوفد المرافق من الأزهر الشريف ومن مجلس حكماء المسلمين -زيارة جمهورية إندونيسيا، والالتقاء بشعبها الطيب العريق بكل طوائفه، وبخاصة أشقاءنا في الإسلام وإخوتنا في الدين، هذا الشعب الذي يحظى باحترام مصر وشعبها لما يمثله من ثقل في ميزان الأمة، وعلامة بارزة في تاريخ الإسلام والمسلمين، وإخلاصٍ في التمسُّك بالإسلام: عقيدةً وسلوكًا وتطبيقًا لشريعته الغرَّاء..
ولَعَلِّي لا أُبالغ في مدحكم والثَّناء عليكُم -أيُّهَا الشَّعب الإندونيسي الأصيل! - لو قلتُ: إنَّ إندونيسيا قد حباهَا الله قدرة خاصة على تقديم الإسلام للعالم كله في صورة الدين الذي يدعو إلى سعادة الدنيا والآخرة، وتمتزج تحت ظلاله أصالة القديم وروعة الجديد، وتتصالح في رحابه حاجات الفرد ومصالح المجتمع.
وقد استطاع هذا الشعب اكتشاف كنوز الإسلام الحنيف، وقيمه التشريعية والخلقية، واستخراج ما تختزنه من قيم: العدل والمساواة والانفتاح على الآخر، والتشجيع على امتلاك مصادر القوة وأسباب التقدم العلمي والتقني، والتوكل على الله والاعتماد عليه في امتلاك هذه الطاقات الروحية والمادية.
وقد مَكَّن هذا الامتزاج بين الإيمان والعلم والعمل دولة إندونيسيا لأن تقفز إلى صدارة الدول المتقدمة في المنطقة، وتصبح «نِمرًا» رابط البأس والجأش بين النمور الآسيوية، وأن تضرب أروع الأمثال على أن الإسلام هو دين الدنيا والآخرة، ودين الحياة ودين الإنسانية كلها. وأن تفند بالدليل العملي مفتريات أعداء الإسلام وتخرصاتهم بأنه دين الكسل والتواكل، والتخلف الاجتماعي، وأنَّه يعيق التنمية الاقتصادية والسياسية، بل أصبح النموذج الإندونيسي الآن مبعث فخر واعتزاز لدى المسلمين، نظرًا لتقدم اقتصادها تقدمًا هائلًا مرموقًا في جنوب شرق آسيا..
وقد احتضن أهلُ إندونيسيا رسالة الإسلام التي وصلت إليهم على أيدي التجار المسلمين([2])، ووافقت ما جُبل عليه أهل هذا الأرخبـيل من الوداعة ولين القلب ونزعة الأمن والميل إلى السَّلام، مع ما تميَّزت به عقيدة الإسلام وشريعته من وضوح وعدالة وسماحة.
وكانت مناطق «نوسانتارا» أوَّل مستقبل للإسلام في ذلكم العهد، ثم انتشر منها بعد ذلك وتوسَّع وتجدَّد حتَّى أصبحت إندونيسيا أكبر دول الإسلام قاطبة وأعظمها عددًا، وأشدَّها حُبًّا لله تعالى ولرسوله ﷺ وللقرآن الكريم وشريعته وأحكامه..
أمَّا أمرُ العلاقة بين شعبي: مصر وإندونيسيا فإنه يرجع –فيما يقول بعض المؤرخين-إلى عهد مُوغل في القِدَمِ، ثم تطوَّرَت هذه العلاقةُ عبر القرون إلى تبادلٍ تجاري وعلمي وثقافي، وكان بعضُ الحجَّاج الإندونيسيين يمكثون بعد الحج بِمَكَّة المُكَرَّمة والمَدينة المنوَّرة، ليدرسوا العِلْم على أيدي أساتذة الأزهر وعلمائه([3])، ويُسجِّل المؤرخون الأوربيون أنَّ خمسينات القرن التاسع عشر شهدت استقرار أوَّل جالية إندونيسيَّة بمصر، جاءت لتدرس العِلْم في الأزهر الشريف على أيدي علمائه وشيوخه، وقد سكن طُلَّابها في رواق من أروقة الأزهر سُمِّي باسمهم وهو: الرواق الجاوي، وكانت مطابع القاهرة تطبع مؤلَّفات عُلَمَاء الدِّين بإندونيسيا، كما تأثَّر الإندونيسيون عبر أبنائهم المقيمين بالأزهر بحركات تجديد الفكر الإسلامي في مصر التي اضطلع بها الإمام محمد عبده وتلاميذه من بعده، والحركات الوطنية بزعامة مصطفى كامل وزعماء التيَّار الوطني في ذلكم الحين..
والآن يدرس بالأزهر الشريف أكثر من خمسمائة وثلاثة آلاف طالب إندونيسي، يدرس منهم على نفقة الأزهر اثنان وستون ومائتا طالب وطالبة، ويُقدِّم الأزهر في كل عام لدولة إندونيسيا عشرين منحة دراسية، كما بلغ عدد المبعوثين للتعليم الأزهري في إندونيسيا واحدًا وثلاثين مُعَلِّمًا..
.. .. ..
الجَمْـعُ الكَــريم!
لَعلَّ من نافلة القَول أن عالَمنا المُعاصِر الذي نعيش فيه الآن تستبد به أزمات عديدة خانقة: سياسيَّةٌ واقتصاديَّةٌ وبيئيَّة، ولعل أسوأها وأقساها على دول العالَم الثالث وشعوبه أزمة الأمن على النفس والعرض والمال، والأرض والوطن، وافتقادُ السَّلام وشيوعُ الفوضى والاضطراب، وسيطرةُ القوَّة، واستِباحةُ حُرمات المُستضعفين. والأقسى من كل ذلك والأمرّ أنْ تُرتكب الجرائم الوحشيَّةُ الآن، من قتل وإراقة للدماء باسم الدين، وتحديدًا دين «الإسلام» وحده من بين سائر الأديان، حتَّى أصبح «الإرهاب» علمًا على هذا الدِّين ووصفًا قاصِرًا عليه لا يُوصف به دين آخر من الأديان السماوية الثلاثة، وهذا ظلم في الحُكم، وتدليس يزدري العقول والأفهام ويستخف بالواقع والتاريخ، فمن البيِّن بذاته أن بعض أتباع الديانات الأخرى مارسوا باسم أديانهم، وتحت لافتاتها، وبإقرار من خواصهم وعوامهم، أساليب من العنف والوحشية تقشعر منها الأبدان، وتشيب لها الولدان، وإلَّا فحدثوني عن الحروب الصليبيَّة في الشرق الإسلامي، والحروب الدينية في أوروبا، ومحاكم التفتيش ضد اليهود والمسلمين، ألم تكن هذه الحروب «إرهابًا» ووحشيَّة، ووصمة عار في جبين الإنسانية على مر التاريخ!! وقد يقال إن هذه التجاوزات أصبحت في ذمَّة التاريخ، ولم يَعُد لها تأثير تنعكس آثاره المُدمِّرة على عالم اليوم.. وإذن فحدثوني عمَّا يُسَمَّى الآن بالحرب الصليبيَّة الثانية، وهذه العبارة لم يجر بها لساني بسبب من وحي الصراع الذي نعيشه في العالمين: العربي والإسلامي، وإنَّمَا هي عنوان لكتاب صدر لباحث أمريكي مشهور هو: جون فيفر، عنوانه: «الحرب الصليبية الثانية: حرب الغرب المستعرة مجددًا ضد الإسلام» ولا يتسع الوقت بطبيعة الحال لعرض ما جاء في هذا الكتاب أو تلخيصه، ومثله عشرات الكتب في هذا الموضوع، ولكنِّي أردت أن أُبيِّن أن الانحراف الذي حدا بقلة قليلة من المنتسبين إلى الإسلام لارتكاب هذه الفظائع، التي أنكرها عُلَمَاء المسلمين ومفكروهم وعقلاؤهم وعامتهم وخاصتهم أشد الإنكار، هذا الانحراف حدث مثله بل أضعاف أضعافه في الأديان والمِلَل الأخرى، وشجع عليه رجال الأديان وباركوه ووعدوا مرتكبيه بالخلود في الجنان.
وأؤكد لكم أيُّهَا السَّادة أن النظر في تاريخ: «الإرهاب المقارن» إن صحَّت هذه التسمية، يثبت أن المسلمين كانوا في قمة الإنصاف والموضوعية، وهم يفرقون بين الأديان ومبادئها ورموزها، وبين انحرافات المنتسبين لهذه الأديان.. إن علماء المسلمين ومؤرخيهم كانوا يسمون هذه الحروب الإرهابية بحروب الفرنجة، ولم ينسبوها للأديان التي نشبت هذه الحروب باسمها، بل ما نسبوها حتى للصليب؛ وعيًا منهم بالفرق الشاسع بين الدين كهدي إلهي، وبين المتاجرين به في أسواق الأغراض والمصالح وسياسات التوسع والهيمنة، واحترمًا لمعتقدات الآخرين وما يدينون به، وذلك رغم ما تعرض له المسلمون قديمًا ولايزالون يتعرضون له حديثًا في مناطق كثيرة معلومة للجميع.
.. .. ..
الجَمْـــعُ الكَــريم!
إنَّ الله، سبحانه وتعالى، لم يُنزل الأديان من لدنه لشقاء النَّاس ولا لتعريضهم للضرر والرهبة والخوف والرعب، وإنما أنزلها نورًا وهدًى ورحمة، والمسلمون على وجه الخصوص أبعد الخلق قاطبة عن الإرهاب، وما يتولد عنه من عنف، وقتل، وسفك للدم، وإزهاق للروح.. وأنا شخصيًّا لا أعلم دينًا ولا كتابًا سماويًّا توعَّد سفك الدماء بالعقوبة المغلظة في الدنيا والآخرة مثل الإسلام ومثل القرآن الكريم، فقد أوجب القرآن القصاص في القتل العمد في الدنيا، وتوعَّد قاتل العمد بجزاء شديد في الدار الآخرة: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ {النساء:93}.
وكيف يُوصَف الإِسلام بالإرهَاب وهو الدِّين الذي أعلن رسوله ﷺ أن المسلم هو «مَنْ سَلِمَ النَّاس مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»([4])، وقال: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»([5]).. ولم يقتصر الإسلام على تحريم القتل وتحريم إسالة الدم فحسب، بل حرَّم ترويع الناس وتخويفهم حتى لو كان الترويع والتخويف على سبيل المزاح فقال ﷺ: «مَنْ أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ، فإنَّ الملائكةَ تلعنُهُ حتَّى يَدَعهُ، وإنْ كَان أخاه لأبيهِ وأُمِّهِ»([6])، وقال: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»([7]).
وكيف يُتَّهم هذا الدين بالإرهاب والعنف والقتل والهمجية وقد وصف الله النبي الذي حمل هذا الدين وبلَّغه للنَّاس بأنَّه: رَحْمَةٌ لِّلْعَالَمِينَ، فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ {الأنبياء: 107}. وهو ﷺ وصف نفسه بقوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»([8])، أي أنا رحمة الله المهداةُ للعَالَمين، والمتأمل في الآية الكريمة والحديث الشريف لا بد له من أن ينتهي إلى حقيقتين لا مجال فيهما لريبة أو شك:
الأولى: أن «الرحمة» بمفهومها الأعم الواسع هي الحكمة العليا التي من أجلها بعث الله نبيه إلى الناس، وهذا ما يقتضيه أسلوب القصر البلاغي في الآية وفي الحديث، وبحيث تتطابق الآية مع الحديث تطابقًا تمامًا في الدلالة على أن نبي الإسلام هو –حصرًا- نبيُّ الرَّحمة، وبُعث من أجل الرحمة، وأن الرحمة بالخلق هي الغاية من مجيئه إلى هذا الوجود.
والقرآن الكريم نفسه يثبت هذه الحقيقة من خلال رصد دوران كلمة «الرحمة»، وعدد مرَّات ورودها في آيات التنزيل، فمن بين سائر الفضائل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم كالصدق والحلم والعدل والأمانة والعفو والكرم وغيرها، تنفرد صفة «الرحمة» بكثرة ورودها في القرآن كثرة لافتة للنظر، فقد وردت بمشتقاتها في خمسة عشر وثلاثمائة موضع، مقارنة بصفة «الصدق» التي وردت خمسًا وأربعين ومائة مرة، و «الصبر»: تسعين مرة، و «العفو» ثلاثًا وأربعين مرة، و«الكرم» اثنتين وأربعين مرة، و «الأمانة» أربعين مرة، و «الوفاء» تسعًا وعشرين مرة([9]).
والحقيقة الثانية التي نستخلصها من التأمل في الآية والحديث هي عموم رحمته ﷺ بالعوالم كلها، بمعنى أنَّه رحمة الله إلى الخلق كافة وإلى الناس أجمعين، وأن رحمته ليست خاصة بالمسلمين فحسب، بل تتعداهم -بنص الآية – إلى غيرهم من سائر الأمم والشعوب، وهذا ما يؤخذ من كلمة: «العالمين»، والتي لا يتوقَّف مفهومها ومعناها عند حدود عالَم الإنس فقط، بل يشمل أيضًا كل العوالم التي أحصاها العلماء والحكماء والفلاسفة، وحصروها في عوالم الإنسان والحيوان والنبات والجماد.
وأنتم لو ألقيتم نظرة سريعة على سيرته ﷺ فسوف يُدهشكم شمولُ رحمته لكل هذه العوالم، بدءًا من الجماد وانتهاءً بالإنسان؛ فقد كانت له مع الجماد صلاتُ مودةٍ وسلامٍ، عبَّر عنها في قوله الشريف: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وفي قوله: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»([10]). وأوضح من ذلك نهيه الصريح لجيوش المسلمين أن يهدموا في حروبهم بيوت الأعداء، أو يخربوا عمرانهم، أو يقطعوا شجرهم ويقلعوا نباتهم، ويعقروا نخيلهم، وقد ورد ذلك وغيره في أوامر حاسمة يقول فيها النبي ﷺ: «...لا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وليدًا»([11]). وفي حديث آخر: «... وَلا تَقْطَعُنَّ شَجَرَةً، وَلا تَعْقِرُنَّ نَخْلًا، وَلا تَهْدِمُوا بَيْتًا»([12])، ووصايا أخرى سار عليها أصحابه وخلفاؤه من بعده، ومنها وصية الصدِّيق رضي الله عنه لجيش أسامة وتحذيرهم من قتل الأطفال في بلاد العدو أو الشيخ الكبير أو المرأة أو الأجير أو الرهبان. أو ذبح الحيوان إلَّا لضرورة الأكل، وعلى قدرها، دون تجاوز أو زيادة.
ولَـكُم أيُّهَا السَّادة، بل للعالَم كله، أن يُقارن ويتأمَّل الفرق بين هذه الأخلاق الإنسانية العُليا التي حكمت سيوف المسلمين، في حروبهم وألجمتها عن تجاوز العدل حتى في مواجهة العدو، وبين همجية الحروب الحديثة، التي تبيد النساء والرجال، والأطفال، إبادة جماعية، وتهدِمُ البيوت على رؤوس أصحابها، وتُزيل قُرى كاملة من الوجود، كي يتبين للجميع أن الإسلام هو دين الرحمة وأن نبيه ﷺ هو نبي الرحمة..
أيُّهَا السَّادة يطول بِنا الوقت لو رُحنا نتتبَّع مظاهر تطبيق هذه الرحمة في عالم الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ولكن قصدت من وراء هذه اللمحة السريعة أن أتساءل: كيف صُوِّر هذا الدين الذي يدور على مفهوم الرحمة ومعناها، وجودًا، وغايةً، وهدفًا، في صورة العُنف والقتل وإرهاب الآمنين، إنَّ هذا الدِّين الحنيف ما كان لِيوصَم بهذا الإفك المفترَي لولا ما ابتليت به هذه الأُمَّة في الآونة الأخيرة بنابتة سوء من أبنائها وشبابها، يقترفون جرائم القتل والحرق، والتمثيل بجثث المسلمين وغير المسلمين، ويظنون أنهم بجرائمهم هذه يجاهدون في سبيل الله ويُحيون دولة الإسلام، وقد كفَّروا مَن خالفهم مِنْ المسلمين ولم يعتنق أفكارهم الشَّاذَّة، ومذاهبهم المُنحَرِفة، الَّتي يرفضها الإسلام ويبرأ منها وينكرها أشدَّ الإنكار..
والأزهر الشريف وهو يتحمَّل مسؤوليَّة البلاغ والبَيان أمام الله تعالى يوم القيامة، لا يألو جهدًا في التنبيه المُسْتَمِر على انحراف هذه الأفكار، وأنها ليست من الإسلام والقرآن والشريعة، لا في قليل ولا كثير، وأن هؤلاء مضلَّلون في تنكّبهم هدي الله ورسوله وأنهم، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وأنهم أساؤوا إلى الإسلام بأكثر مِمَّا أساء إليه أعداؤه، وشوَّهوا صورته السَّمحة النَّقيَّة، وقدَّموا بعبثهم بالإسلام صورًا مغشوشة شائهة استغلَّها أعداء هذا الدين السمح في داخل العالَم الإسلامي وخارجه، وطعنوا بها على الإسلام وثوابته، وسخروا من رسوله ومن سُنَّته وشريعته، ولايزال الأزهر يُنادي هؤلاء الشباب ويطمع أن يُفيقوا من سكرتهم، وأن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يعلموا أن الغلو الذي أدَّى بهم - وبنا معهم - إلى هذه الفِتَن العمياء، قد حذَّرنا منه رسول الله ﷺ في قوله: «أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» ([13])، وفي قوله: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»([14])، أي: المغالون والمتجاوزون في الأقوال والأفعال..
وامتثالًا لقول الله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ {الذاريات: 55} نُذكِّر هؤلاء الذين بغوا علينا، وأساؤوا إلى ديننا وأمتنا وتاريخنا أنَّ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وأنه قد آن الأوان أن ليراجعوا أنفسهم، و يندموا على ما فرطوا في جنب دينهم وأمتهم، واللهُ عزَّ وجلّ-كما يعلمون - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ {النساء: 48}، ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ {الأعراف: 56}.. ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾{الزمر: 53}.
.. .. ..
هذا وأُذَكِّر نفسي وأُذكِّر علماء الأُمَّة بواجبنا الذي سنسأل عنه جميعًا أمام الله تعالى يوم القيامة، وهو بذل المستطاع من الطاقة والقوة والجهد، والتناصح من أجل الحفاظ على وحدة الأمة وصيانة عقائدها من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وعلينا أن ننتبه إلى ضرورة العمل على ترسيخ فقه التيسير ومقاومة فقه الغلو والتشدد والتطرف، مع مقاومة ثقافة التحلل والتغريب وتدمير هوية المسلمين وثوابتهم وتراثهم العريق جنبًا إلى جنب.
وأن نلتفت إلى خطر التعليم في ترسيخ فقه التيسير وثقافة التعايش، وتجديد المناهج انطلاقًا من القرآن والسُّنَّة الصحيحة، وما أجمع عليه المسلمون، والبعد كل البعد عن وضع الخلافيات في الفروع موضع القواطع والثوابت.
وَمِمَّا يَجب التنبُّه له شرعًا ضرورةُ، بل وجوب، طلب الفتوى من أهل العِلم، المُلتزمين بمذاهب أهل السُّنَّة أصولًا وفروعًا، ومِمَّن لهم خبرة وبصر بمستجدات الواقع ونوازله، ويدركون خطر الآراء الخارجة عما أجمعت عليه الأمة، أو وقع عليه اختيار الجمهور من العُلَمَاء والفُقَهاء على مدَى أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزَّمان، وأنْ نعلم أن التعصب لهذه الخلافيات والفتاوى الغريبة قد أسهم كثيرًا فيما وصلت إليه الأُمَّة الآن من انقسام وتنازع وفشل، وفتح الباب على مِصراعيه للتدخلات الخارجية، بمخطَّطاتها الماكرة لتعبث ما شاء لها العبث بأمور المسلمين، وكانت النتيجة الكريهة لهذا الوضع أنْ صار بأسُنا بيننا شَديدًا.
وليس أمامنا –مَرَّة أُخرى أيها السادة الأفاضل- إلَّا الاعتصام بحبل الله، والتمسُّك بما أمر به في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ {آل عمران: 103}، وذلك حتَّى لا يتحَقَّق فينا الوَعيد الإلهيّ في قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ {الأنفال: 46}، وأيضًا الوعيدُ النبوي في قوله ﷺ: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» ([15]).
وعَلينا –يَا عُلَمَاء الأُمَّة بكل مذاهبها ومشاربها- أن نتأمَّل جَيّدًا التشبيه النبوي المعجز في هذا الحديث الشريف، والذي يصور قصعة فيها طعام شهي، وحولها جائعون متلهفون، يدعو بعضهم بعضًا لالتهامها وابتلاعها، على مرأى ومسمع من أصحاب القصعة وحُرَّاسها، المتشاغلين بما بينهم من توافِه الأمور وغرائب الأحوال، ولو أنَّنا استعرنا هذا التصور النبوي، وطبقناه على حال العرب والمسلمين اليوم، وما أفاء الله عليهم من ثروات ظاهرة وباطنة لا يحصرها العد، وتربُّصِ الأُمَمِ بهذه الثروات – لأدركنا إذن أين نقف اليوم من هذا الحديث الشريف الذي يكاد يستشرف واقعنا الآن من وراء خمسة عشر قرنًا من الزمان.
فَهَـــلْ مِن مُّــــدَّكِر.
شكرًا والسَّلام عَليْكُم ورَحمةُ الله وبَركَاته؛؛؛
تحريراً في: 15 من جمادى الأولى سـنة 1437ﻫ أحـمـد الطـيب
المــــــوافـق: 24 من فبــــراير سـنة 2016 م شـيخ الأزهـر
[1]-أَصْلُ الكَلِمَةِ: مُحَاضَرةٌ أُلْقيت بدولة إندونيسيا في: 15من جمادى الأولى سـنة 1437ﻫ/ الموافق: 24 من فبراير سـنة 2016م.
([2]) مسيرة العلاقة بين إندونيسيا ومصر، تحرير: عبد الرحمن محمد فاخر، سفارة جمهورية إندونيسيا بالقاهرة 2011م، (ص: 20).
([4]) رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم: (5841).
([5]) رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم: (2564).
([6]) رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم: (2616).
([7]) رواه ...................
([8]) أخرجه الإمام الترمذي في "العلل الكبير" (ترتيب العلل: ح685) والإمام البزار في مسنده (9205) والإمام الطبراني في معجمه الأوسط (2981) والإمام الحاكم في مستدركه (1/35) من حديث أبي هريرةt، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرطهما..."ووافقه الذهبي.
([9]) راغب الحنفي السرجاني، الرحمة في حياة الرسول ﷺ 46، رابطة العالم الإسلامي 1430هـ/ 2009م.
([10]) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (2277) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1731) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(3) البيهقي في سننه الكبرى (17935).
([14]) صحيح مسلم: رقم 2670، من حديث عبد الله بن مسعود ◙.
([15]) أخرجه أحمد في مسنده (22397) بإسناد حسن من حديث ثوبانؓ.