الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: الإمام أبو حنيفة استشرف المستقبل.. ووضع حلولًا لمسائل مستقبلية
«الفقه الفرضي» الذي يعيبونه على «أبي حنيفة» علامة على عظمة اجتهاد الإمام وعمق رؤيته
كتب الفقهاء الكبار مليئةٌ بالنصوص التي تُبيِّن مكانة المرأة وإعلاء شأنها
عقد الجامع الأزهر أمس الإثنين، الملتقى الفقهي التاسع عشر «رؤية معاصرة»، تحت عنوان: «الإمام أبو حنيفة وقضايا الأحوال الشخصية»، بحضور: أ.د/ محمد صلاح، رئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، وأ.د/ حسين مجاهد، الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن بالكلية ذاتها، وأدار اللقاء الشيخ/ أحمد سنجق، منسق رواق القرآن الكريم بالجامع الأزهر.
وخلال اللقاء، قال الأستاذ الدكتور/ محمد صلاح حلمي، رئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة: إن الإمام أبا حنيفة النعمان -رحمه الله- اشتهر بلقب «الإمام الأعظم»، ويُدرَّس علمه وفقهه في الأزهر الشريف، ويلجأ العلماء إلى مذهبه في كثير من المسائل التي تعترضهم فيها الشدة أو تضيق فيها الخيارات؛ لما في فقهه من سَعَةٍ ورحابةٍ وتيسير، مضيفًا أن الإمام أبا حنيفة كان مفكرًا لزمانه، ولم يقف عطاؤه عند حدود عصره، بل استشرف المستقبل، وسعى لحل مشكلات قد تطرأ في أزمنة لاحقة، وهي سمة عظيمة من سمات فقهاء الأمة الذين لا يحصرون تفكيرهم في المكان والزمان، بل يُوسِّعون نظرهم للبشرية جمعاء.
وأوضح الدكتور/ محمد صلاح حلمي، أن من أبرز ما عُرف به مذهب الإمام أبي حنيفة أنه يُعنى بإيجاد الحلول الفقهية للمسائل الافتراضية، وهو ما سمَّاه بعض النقَّاد بـ«الفقه الفرضي»؛ في محاولة للنيل من هذا المنهج، لكنه في حقيقته علامة على عظمة اجتهاد الإمام وعمق رؤيته؛ إذ إنه لم يكتفِ بحلِّ مشكلات عصره، بل نظر بعين المجتهد المُبصر إلى الأجيال القادمة، وطرح حلولًا لمسائل لم تقع في زمانه، لكنها ظهرت في أزمنتنا، فوجد الناس في مذهبه مخارج فقهية معتبرة، وسبلًا لتيسير شئون حياتهم، خاصة في قضايا الأحوال الشخصية.
وأشار إلى أن من سمات المذهب الحنفي أيضًا سعيه الدائم لتيسير حياة الناس ورفع الحرج عنهم، وهو ما جعله يُجيز استخدام الحِيَل المشروعة، التي يُراد بها الخروج من الضيق والشدَّة، لا التحايل على الدين، أو إسقاط التكاليف، وأكَّد أن العلماء فرَّقوا بين الحِيَل المذمومة التي يُراد بها إسقاط الأحكام، وبين الحِيَل المحمودة التي يُقصد بها رفع الضرر عن الناس وتيسير أمورهم، مُبينًا أن هذه المخارج الفقهية المنضبطة تُعدُّ من رحمات هذا الدين، ومما يدل على مرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان.
من جانبه، قال الأستاذ الدكتور/ حسين مجاهد، الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة: إن الوسطية التي تُميِّز بها منهج الأزهر لا تعني التسيُّب، بل هي اعتدالٌ حقيقيٌّ تتجلى بوضوح في تدريس المذاهب الفقهية الأربعة، مشيرًا إلى أنه تَعلَّم في رحاب هذا الصرح العريق أن من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا، وأنَّ رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وأضاف أن من أبرز ما نهله من الأزهر رفض التشدد والتنطع والتشبُّث بالرأي، واحترام الرأي الآخر وإن خالف، وهو خُلق توارثه العلماء عن الأئمة الأربعة.
وأوضح الدكتور/ حسين مجاهد، أن من أبرز السمات التي عَلَّمها الأزهر لطلابه احترام العلماء بعضهم لبعض، وأن الأئمة الكبار كانوا لا يتقصدون مخالفة بعضهم، بل كانوا إذا اجتهدوا أبدعوا، وإذا اختلفوا تأدبوا، مشيرًا إلى أن هذه الروح العلمية هي ما تربَّى عليه الأزهريون في هذا الصحن العريق، مشيرًا إلى أن الشخصية المصرية بطبعها تحترم المرأة وتُجلُّها منذ فجر التاريخ، وأنَّ الإسلام جاء مؤكِّدًا لهذه الحقيقة، مستدلًّا بقول الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}، وقول النبي ﷺ: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ».
وأشار إلى أن كتب الفقهاء الكبار مليئةٌ بالنصوص التي تُبيِّن مكانة المرأة وإعلاء شأنها، لكن بعض المستشرقين ومن تأثر بهم يُخرجون اجتهادات فقهية كانت تناسب عصورها؛ ليُظهروا بها الفقه الإسلامي على غير وجهه، وكأنه جامد لا يصلح لعصرنا، موضحًا أن من القواعد الكبرى في الفقه أن الفتوى تتغير بتغير الزمان، والمكان، والأحوال، والأشخاص، مؤكدًا أن التراث الفقهي بحرٌ زاخر لا يليق أن يخوضه إلا الغوَّاص الماهر، قائلًا: «في تراثنا الفقهي قراءةٌ تقدمية سبَق فقهاؤُنا بها عصورهم».
وفي السياق ذاته، أوضح الشيخ/ أحمد سنجق، منسق رواق القرآن الكريم بالجامع الأزهر، أنَّ الناظر في مذهب الإمام الجليل يدرك أنه يُعدُّ مذهب أهل الرأي؛ لما امتاز به من سعة اجتهاد وبُعد نظر، مضيفًا أن كثيرًا من المسائل لا يجد فيها الفقيه مخرجًا فقهيًّا يُواكب واقع الناس إلا في اجتهادات الإمام أبي حنيفة، وهو ما يفسر اعتماد قانون الأحوال الشخصية في كثير من مواده على مذهبه، والرجوع إليه في مسائل متجددة تمسُّ حاجات الناس اليومية؛ مما يدل على عمق فقه هذا الإمام، ورسوخ مدرسته في خدمة المجتمعات الإسلامية.