الجامع الأزهر


العلوم الشرعية و العربية

أنوار المولد النبوي (1)
Ayman saied

أنوار المولد النبوي (1)

الحمد لله الذي أعلى دين الهدى والحق على كل الدين، الحكم العدل العلي المبين، والصلاة والسلام الأكملان على سيدنا ومولانا محمد النبي المهيمن الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأمة وكافة الخلق أجمعين، وعلى آله وأزواجه وذريته المقربين الأكرمين وأصحابه وحزبه وعترته وعشيرته الأقربين صلاة وسلامًا نجدهما يوم الدين، وبعد؛

فقد بسم فم الزمان وتهللت أسارير وجهه حين جاءت البشرى بمولد النور الهادي إلى صراط الله المستقيم، بعدما ظل كئيبًا حزينًا منذ أن توقف ركب الهدى برفع عيسى – عليه السلام – إلى السماء، وفتر الوحي فانقطع الاتصال بين السماء والأرض؛ إذ فُقد القائد والدليل، فأمسى الناس بين تائه وضليل وحائر وشريد، وقل من تجده بين الناس من ذوي العقل الرشيد، فقد عم ظلام الباطل الدنيا وألقى على الأرض ثوبه الداكن، ولم يدع شعاعا منبعثًا من شمس الحق إلا حجبه.

ولم يَبق من نور النبوة الأولى إلا هذا الضوء الخافت، لا ينتفع به إلا قلة من أولئك الذين تمسكوا بتعاليم الأنبياء، وحاولوا الحفاظ على ما تبقى من النور وسط أمواج الفتن الهادرة، لكن لم يكن لهم قدرة على كشف حُجُب الظلام ومواجهة أمواج الفتن العاتية، فلم يؤتوا ملكات الأنبياء؛ لذا آثروا العزلة وانتظروا إذن السماء بميلاد خاتم الأنبياء، وهم يعرفون زمان مولده بالأمارات التي وردت في الكتب المقدسة، ويرتقبون خروج النبي الذي يقود ركب الهدى ويحمل سراج النور ينير ربوع الأرض ويحيي ما اندثر من التعاليم الإلهية، بعدما بث أهل الأهواء سمومهم التي قتلت سلامة الفطرة وأفسدت عناصر الخير في النفس البشرية.

وما كانت الأفكار التي حاولت أن تنأى بالبشرية بعيدًا عن سُننِ الأنبياء وهديهم لتصمد طويلًا، فما هي إلا كرماد تذروه الرياح في يوم عاصف، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على عجز الإنسان عن إدراك حقيقة نفسه، فكم ضل العقل البشري في فيافي الفلسفات وبيداوات الفكر وتنكب الطريق الموصلة إلى دوحة الحقيقة، يحاول رغم عجزه استيعاب الكون وما وراء الكون، وهو لم يعرف حقيقة نفسه ولا دقائقها بعد.

وفي أثناء بحثه ومحاولاته وتجاربه الفكرية تولد أفكار مبتسرة مشوهة؛ لأنه لم يقف على الحقيقة كاملة، فالفكرة تنشأ عن معرفة، وعلى قدر المعرفة يكون كمال الفكرة أو عدمه، والكلام هنا ليس عن المعرفة المادية بل عن المعرفة العقلية؛ فلطالما حاول الإنسان أن يهتدي إلى حقيقة الكون، هل له مُوجِد أم أنه وُجِد من غير مُوجِد، هل هو قديم أم حادث، وإذا كان للكون موجد فما هي حقيقة هذا الموجد، وظلت هذه الأسئلة تشغل عقل الإنسان دهرًا طويلًا، وظلت المذاهب الفلسفية والفكرية تنشأ تترى، كلما ظهر مذهب نقض أصول سلفه من المذاهب، وكلما اتبع الناس مذهبًا تبين لهم عواره، وأصبح أولوا الأحلام والنهى يبحثون عن ملاذ يلجؤون إليه، يتحصنون فيه من تلك الرذائل التي عم خبرها واستطار شرها، وعن قدوة وقائد ينضوون تحت رايته ليصلح ما فسد من الفطرة الإنسانية.

ومن بين أهل الكتاب حمل المستمسكون به أمانة تبليغ البشارة بالنبي الخاتم، وأخذوا يترقبون ظهوره، ويتحدثون عن الأمارات والعلامات في كل نادٍ من نواديهم، وهذه الفئة الصالحة هي التي استحقت رضاء الله عز وجل؛ لأنها حفظت الفطرة السليمة من الفساد، فلم ينحرفوا عن الصراط المستقيم ولم ينحدروا إلى قيعان الرذائل، وصمدوا أمام أعاصير الفتن، رَوى عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...الحديث". وإن قومًا يمقتهم الجبار - جل وعلا - تمقتهم السماوات والأرض بما فيهن من أفلاك ونجوم وجبال وشجر وبحار، فإذا جاء زمان مولد نبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم – عمت البهجة السماوات والأرض، فلقد صار سلطان الشياطين على البشر إلى تداعٍ، واقترب ظهور خير داعٍ إلى الهدى والرشاد، وحق لزمان يولد فيه النبي الخاتم – صلى الله عليه وسلم – أن يفاخر سائر الأزمان وأن ينبو عنها رفعة وشرفًا، فأسعد بزمان يولد فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأسعد بأرض يولد عليها.

 

مقال بقلم

الشيخ محمود عبد الجواد

واعظ بالجامع الأزهر

الموضوع السابق مكتبة الجامع الأزهر تشارك في الاحتفال السنوي بـ "يوم الوثيقة العربية" بجامعة الدول العربية
الموضوع التالي الجامع الأزهر يفعل فروع رواق القرآن الكريم بعدد من محافظات الجمهورية
طباعة
3632 Rate this article:
لا يوجد تقييم