الموضوعات

19 فبراير, 2017

التجديد في الفكر الإسلامي.. محطات تاريخية.. مقال بقلم وكيل الأزهر أ.د عباس شومان

التجديد في الفكر الإسلامي.. محطات تاريخية.. مقال بقلم وكيل الأزهر أ.د عباس شومان

التجديد في الفكر الإسلامي لازمة من لوازم شريعتنا السمحة لا يمكن أن ينفك عنها، ولا يمكن للشريعة أن تساير حاجات الناس وتواكب متطلباتهم من دونه، فالأحكام المحسومة التي لا تقبل التغيير ولا التبديل في الشريعة الإسلامية قليلة جدا؛ حيث تكاد تنحصر في أركان الإسلام وبعض المحرمات المحدودة، وفي المقابل نجد أن ما لا يُحصى من فروع الشريعة الإسلامية مرن يقبل التطويع ليناسب زمان الناس وأحوالهم. ونظرة عجلى إلى تاريخ التجديد والمجددين في الفكر الإسلامي تظهر لنا اتفاق العلماء على أن مجدد القرن الأول هو الخليفة عمر بن عبد العزيز، ويتفقون كذلك في أنه يأتي على رأس القرن الثاني الإمام الشافعي، ثم يختلفون بعدهما هل كان على رأس كل قرن مجدد واحد أو أكثر من مجدد، وإن كان ثمة اتفاق على أن التجديد في الفكر الإسلامي لم ينقطع في عصر من عصور الإسلام قديما وحديثا حتى  انتهى إلى الشيخ شلتوت، ومصطفى الزرقا، وعلي الطنطاوي، والدكتور أحمد الشرباصي، مرورا بالشيخ محمد عبده وغيره من العلماء الأفذاذ.

وفي الحقيقة إن الناظر المدقق في تاريخ الإسلام والمستوعب لأحكام شريعته يدرك أن الإسلام دين متجدد حتى في وصوله للناس؛ فأركان الإسلام وفرائضه الأساسية لم تنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفعة واحدة؛ حيث بدأ الإسلام بركن واحد وهو توحيد الله عز وجل والإيمان برسوله، وقد تمثل ذلك في الشهادتين، ويكاد ينحصر أكثر من نصف مدة الرسالة في إقرار هذا الركن وترسيخه في نفوس المسلمين، ثم يفرض الركن بعد الركن ويتخلل ذلك بيان المحرمات والسلوكيات والأخلاقيات حتى اكتمل الدين قبيل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم. وبناء الإسلام ركنا بعد ركن وفرض أحكامه حكما بعد حكم هو نوع من التجديد؛ حيث ينحصر الإسلام في فترة ما في ركن معين، ثم يضاف ركن ثان فثالث حتى اكتمل الدين بفرائضه وسننه، وهكذا تعد كل مرحلة من المراحل صورة جديدة للإسلام لا تغني عنها سابقتها.

وهناك العديد من صور التجديد في التاريخ الإسلامي، منها إقرار الرسول – صلى الله عليه وسلم - لآلية الاجتهاد في استنباط الأحكام، وذلك عند سؤاله لسيدنا معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن قاضيا: بِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فقال – صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله. ولا شك أن الاجتهاد من قبل المؤهلين له هو آلية من آليات التجديد، ولِمَ لا وقد نصَّ عليه النبي – صلى الله عليه وسلم - صراحة حين قال: إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد؟! ففي هذا الحديث ليس إقرارا للاجتهاد والتجديد فقط، ولكن فيه أيضا طمأنة للمجتهدين حتى لا يتهيبوا الاجتهاد واستنباط الأحكام المناسبة لزمان الناس وأحوالهم والمنضبطة بقواعد الشرع.

وقد سار الصحابة – رضوان الله عليهم - على هذا النهج الذي أرساه رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فاستطاعوا باجتهادهم حل كثير من المسائل التي لم تظهر في زمن النبوة، ومن أبرزها مسألة الخلافة التي اجتهد فيها أهل الحل والعقد من الصحابة حتى انتهوا إلى أحقية أبي بكر الصديق بها، ثم بعد وفاته انتهوا إلى أحقية عمر بن الخطاب بها، ثم تولى عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب – رضي الله عنهم جميعا. والمدقق في أمر الخلافة يجد أنها لم تكن على نمط واحد وإنما كانت أنماطا متعددة، فهي وإن كانت في كل صورها تعتمد على حاكم واحد للمسلمين، إلا أنها تختلف في طرق اختياره؛ فطريقة اختيار الصديق خالفت طريقة اختيار عمر، وهي بدورها اختلفت عن طريقة انتخاب عثمان بن عفان، وطريقة تولي الخليفة الرابع علي بن أبي طالب تختلف عن الطرق الثلاثة. ومن المسائل التي اجتهد فيها الصحابة مسألة الردة؛ حيث انتهى الصديق إلى قتال المرتدين مع استقامتهم على بعض أركان الإسلام، ومنها أيضا وقف عمر بن الخطاب صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم مع أنه منصوص عليه في القرآن الكريم، وإشراكه الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم فيما يعرف بالمسألة العمرية أو الحجرية، وقد أشرك الصديق قبله الجدتين في سدس واحد.

وقد استمرت مسيرة التجديد والاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية فيما لم يرد فيه نقل من الكتاب والسنة، وبلغت هذه المسيرة ذروة سنامها بظهور المذاهب الفقهية؛ حيث لا تكاد تخلو كتب المذهب الواحد من أكثر من رواية في المسألة الواحدة، فالإمام الشافعي على سبيل المثال يقال إن له مذهبين: قديم وهو ما كان في العراق، وجديد وهو ما قاله في مصر؛ حيث تغير رأيه في كثير من المسائل نظرا لتغير الأعراف والأحوال بين العراق ومصر، ولم يقتصر الأمر عند الإمام أبي حنيفة على تعدد اجتهاده في المسألة الواحدة، بل سلك مسلكا أنكره عليه كثير من أقرانه؛ حيث افتراضه مسائل لم تقع واستنباط أحكامها الفقهية، وهو ما عرف فيما بعد بـ«الفقه الافتراضي».

وهكذا استمرت مسيرة التجديد في الفكر الإسلامي ابتداء من عصر النبوة مرورا بزمن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى العصر الحديث، وستستمر هذه المسيرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فهذه سنة الله في الكون، وهي قاعدة مسلَّمة في شريعتنا، وحقيقة ثابتة في تاريخ إسلامنا، ولولا أن شهادتي مجروحة لذكرت جهود بعض المجددين الأحياء الذين يعيشون بيننا الآن.

قراءة (2277)/تعليقات (0)

كلمات دالة:

بحث