الموضوعات

17 أبريل, 2017

وكيل الأزهر يكتب.. رؤية فقهية: مُعاملة غير المسلمين

وكيل الأزهر يكتب.. رؤية فقهية: مُعاملة غير المسلمين

يتحرج بعض المسلمين من التعامل مع غير المسلمين في الأمور الحياتية كالبيع والشراء وإيجار المساكن والإجارة على الأعمال كالبناء والنجارة والحدادة وغيرها بدعوى أنهم من غير المسلمين، وأن دفع الأموال لهم لا يجوز، أو أن أموالهم «غير طيبة»، فلا يجوز أخذها كثمن للسلع أو أجرة القيام بأعمال تخص المسلمين، وكأنه مطلوب من المسلم ليبرهن على قوة إسلامه تجنب غير المسلمين ومقاطعتهم بشكل كامل وقصر تعاملاته على أبناء دينه المسلمين حتى وإن كانت بضاعتهم أقل جودة وأغلى ثمنا من بضاعة غير المسلمين.

وحتى لو كانت مهارة غير المسلم في إنجاز الأعمال أكثر جودة وأسرع إنجازا من جودة المسلم وإنجازه في ذات حرفته أو تجارته! وهذا منطق يدل على جهل كبير بديننا الإسلامي الحنيف الذي لم يأمر في نص من نصوص الكتاب أو السنة بمقاطعة غير المسلمين الذين لا يناصبوننا العداء، بل على العكس من ذلك، فقد نفى كتاب الله عن المسلمين الحرج في علاقتهم بغير المسلمين، حيث يقول تعالى: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»، فهذا النص وغيره ينفي الحرج في التعامل مع غير المسلمين ويبيح برهم والعدل فيهم ما داموا لا يقاتلوننا، وغير المسلمين من بني وطننا لا يقاتلوننا ولا يسعون لإخراجنا من ديارنا، فلسنا بمنهيين عن برهم، بل مطالبون به، فقد أوصانا رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم - بأقباطنا شركاء الوطن فقال: «اللهَ اللهَ في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله»، وقال أيضا: «فاستوصوا بهم خيرا، فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله»، ولا يمكن أن يكون برهم - غير المنهي عنه - بمقاطعتهم والتحذير من معاملتهم.

وقد ضرب رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في التعامل مع غير المسلمين سواء في مكة المكرمة أو المدينة المنورة، ومن ذلك أنه جعل عبد الله بن أريقط دليله في أخطر رحلة كان فشلها وكشفها يعني انتهاء دعوة الإسلام انتهاء مبرما، وهي رحلة الهجرة إلى المدينة المنورة فرارا بدين الإسلام ودعوته التي كادت تختنق بمكة، وقد كان عبد الله بن أريقط على اليهودية ولم يكن على الإسلام، ورغم ذلك اتخذه الرسول – صلى الله عليه وسلم – دليله إلى المدينة، حيث كان على دراية بدروب ومسالك لا يعرفها عامة قريش.

ولم تمنع مسيحية السيدة مارية القبطية من قبول رسولنا لها ضمن هدايا المقوقس، ولم يأمرها رسولنا الكريم بتغيير اسمها بعد أن أصبحت أم ولده إبراهيم فظلت إلى يومنا تعرف بمارية القبطية. ومما لا يجهله طلاب العلم فضلا عن خاصتهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم - تعامل بالبيع والشراء مع غير المسلمين، وأنه رهن درعه على طعام لأهله اشتراه آجلا من يهودي بالمدينة، وقيل إنه - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه ما زالت مرهونة حتى فكها الصحابة بعد وفاته.

ومن صور تعامل النبي – صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين مشاركته أهل خيبر بعد إجلائهم عنها وانتقال ملكية الأرض إلى المسلمين، حيث قَبِلَ بقاء الأرض في أيدي يهود خيبر ليزرعوها على نصف ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهو الأصل الذي استند عليه الفقهاء في جواز المزارعة، وهي شركة من الشركات التي جاءت بها شريعة الإسلام، حيث يدفع صاحب الأرض أرضه التي لا يحسن زراعتها أو لا يجد وقتا كافيا لمباشرتها إلى غيره الذي يحسن العمل بالزراعة ولا أرض له ليزرعها ويكون الخارج من الزرع بينهما حسب ما يتفقان عليه من نصيب لكل واحد منهما.

ومثلها شركة أخرى تنشأ على البساتين والحدائق المنزرعة بالأشجار المثمرة، حيث يدفعها صاحبها إلى عامل ليتعهد الشجر بالرعاية والسقي حتى يخرج الثمر وينضج، فيقسم بينهما حسب الاتفاق وقت التعاقد، وهذه الشركة تسمى بالمساقاة لأن أكثر أعمالها هي سقي الشجر، حيث يتكرر كثيرا بخلاف بقية الأعمال كتقليم الشجر ونحوه من الأعمال المتعلقة به.

وإذا كان تعامل رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين أنتج لنا شركتين زراعيتين من أهم الشركات التي يحتاجها الزراع وأصحاب الحدائق غير القادرين على زراعتها ورعايتها بأنفسهم وغير الراغبين في إجارتها لآخرين أو كراء عمال للزراعة ورعاية الأشجار، فهل يجوز لبعض المسلمين بعد ذلك التحرج من معاملة غير المسلمين بيعا أو شراء أو شراكة؟!

وهل نحن أحرص على إسلامنا من رسوله الكريم؟! وهل النهج الذي ينتهجه من يتحفظون أو يحذرون أو يمتنعون من التعامل مع غير المسلمين يخدم ديننا الإسلامي ويرغِّب غير المسلمين فيه؟! بكل تأكيد الإجابة «لا»، بل إن هذا السلوك يضر بإسلامنا ضررا شديدا ويظهره دينا عنصريا جامدا منغلقا لا يراعي مصلحة بعض رعايا الدولة الإسلامية التي تدين به، وينافي ما عرفناه من شريعتنا وما أجمع عليه فقهاؤنا قديما وحديثا من اعتبار غير المسلمين في ديارنا من أهل الدار مثلهم مثل المسلمين وإن خالفونا في الدين، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق والواجبات مع تركهم وما يعتقدون.

وعليه، فما يجوز في المعاملات بين المسلمين هو ما يجوز في المعاملات بين المسلمين وغير المسلمين، فلا يجوز غشهم ولا خديعتهم ولا التحايل عليهم لأخذ أموالهم بغير حق ولو بالتقاعس عن القيام بمهام الأعمال في شركاتهم التي يعمل فيها مسلمون، وعلى المسلمين أن يظهروا محاسن إسلامهم وسماحة شريعته، وليتوقفوا عن التجني عليه من حيث أرادوا الالتزام بتعاليمه في ظنهم.

حقوق غير المسلمين

يستغل بعض المغرضين والمتطفلين على موائد العلوم الشرعية مسألة اختلاف الدين بين أبناء الوطن الواحد مدخلا لإثارة النعرات وإحداث الشقاق وبلبلة أفكار البسطاء من الناس، وهؤلاء ما بين متهم للأزهر وناسب له من الأقوال والآراء مالم يقله في حق أبناء الوطن من غير المسلمين، وما بين مطالب  بفرض الجزية عليهم، وربما يتمادى البعض زاعما وجوب تهجيرهم وطردهم من بلاد المسلمين، وما تفعله داعش في سوريا والعراق وغيرهما وما يردده بعض الناس على الفضائيات وفوق صدور جرائدنا وغيرها عنا ببعيد، والحقيقة التي لا مراء ولا لبس فيها أن هذه الآراء والمسالك لا علاقة لها بصحيح الدين الذي نعرفه ولا نجد لها في تراث السابقين المفتري عليهم منزعا، ولافي أقوال وأفعال العلماء المعاصرين داعما ولا شاهدا، فما نعرفه من شريعتنا وحتى في تقسيمات الفقهاء القديمة للعالم ومن فيه - والتي هي في حاجة إلى إعادة نظر واجتهاد لتلبي واقع العالم المعاصر- أن بلاد المسلمين أو ما كان يعبر عنه عند الأقدمين بدار الإسلام تعني البلاد التي تحكم بمسلمين وتغلب فيها أحكام شريعة الإسلام.

وهي تشمل: المسلمين وغير المسلمين الذين ينتمون إلى هذا البلد ولم يقل أحد لا قديما ولا حديثا أن بلاد المسلمين تختص بالمسلمين ومن يزعم هذا فعليه بالدليل، وكيف لشخص أن يزعمه وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يصعب على متتبع لنصوصهما حصر ما يكذب زعمه ويرسخ للتعايش السلمي وتبادل الحقوق والواجبات بين أبناء الشعب الواحد من المسلمين وغيرهم ؟! وإذا كانت النظرة العامة للشريعة هي اعتبار غير المسلمين من النسيج الوطني لبلاد المسلمين، وأنهم كشركاء الوطن من المسلمين في الحقوق والواجبات سواء بسواء فيما عدا الأمور العقدية فإنهم وما يعتقدون ولا تفرض عليهم عقيدة المسلمين، وكذا ما يتعلق بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث فلا يلزمون بأحكام شريعة الإسلام ولا يطالبون بها إلا إذا أرادوا الاحتكام إليها اختيارا.

أما فيما يتعلق بالتعايش المجتمعي فإن من البر برهم الذي لم ننه عنه تهنئتهم بأعيادهم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فإن كان الأمر يتعلق ببلدنا فإن الأقباط لهم زيادة في رقابنا وصية رسولنا الأكرم” الله الله في أقباط مصر فإنكم ستظهرون عليهم فيكون لكم عدة وعونا في سبيل الله”” الله الله في أقباط مصر فإن لهم رحما ونسبا” والرحم هو جدتنا هاجر أم إسماعيل، والنسب السيدة مارية زوج النبي الأكرم، والفقهاء العالمون بأحكام شريعتهم ممن يعيبهم جهلاء عصرنا  أجمعوا على تحريم كل صور الإيذاء أو الاعتداء على غير المسلمين من أهل دار الإسلام ووجوب عقاب المعتدي عليه من المسلمين وكأنه اعتدى على مسلم، ولما لا وهم يحفظون قول رسولنا الأكرم” من أذى ذميا فقد آذاني” وقوله” من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفا” وروي أنه -صلى الله عليه وسلم-”أمر بقتل مسلم لأنه قتل معاهدا غيلة وقال أنا أحق من وفى بذمته” أما القول بوجوب إخراجهم مالم يدفعوا جزية مالية، فمردود عليه بأن الفتوى تتغير بتغيير الأحوال والزمان والمكان والدواعي.

والمراد من الجزية المنصوص عليها في كتاب الله العهد والأمان بينهم وبين المسلمين، والبدل النقدي الذي أخذه منهم رسولنا الأكرم وصحابته من بعده في مقابل التكفل بحمايتهم والدفاع عنهم في وقت لم يكن مطلوبا منهم مشاركة المسلمين في تصديهم للمغيرين على بلاد المسلمين، فإذا أصبح غير المسلمين كالمسلمين في وجوب الانخراط في الجيش كمجندين وإخضاعهم لما يخضع له المسلم من فرض للضرائب وغيرها، فلا مانع من إعادة الاجتهاد والإبقاء على المعني العام والهدف المنشود من عقد الجزية وهو الأمان والتعايش السلمي وإسقاط البدل المالي.

فلم يأت الإسلام لجباية المال ولا لإذلال الناس ولو كانوا من غير المسلمين،فالأدمي مكرم بطبعه بكتاب الله الكريم، وإعادة الاجتهاد فيما يحتمل الاجتهاد ولو كان منصوصا عليه بآية في كتاب الله ليس بدعا في شرعنا، فنعلم جميعا وقف الصرف للمؤلفة قلوبهم منذ عهد الصديق إلى يومنا باجتهاد من سيدنا عمر -رضى الله عنه-مع أنه منصوص عليه في كتاب الله- لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، والعلة من الصرف لهم وهي تكثير عدد المسلمين في عهد النبي الأكرم لتخفيف وطأة الإيذاء على رسول الله ومن تبعه بالخوف بتكثير عدد المسلمين قد زالت بكثرة المسلمين الحقيقين في زمن الصديق، فإن كانت العلة إمهالهم فترة يتعرفون فيها الإسلام حقا لتسقر عقيدتهم فقد مضى من الوقت ما يكفي، ولذا قال لهم سيدنا عمر :”كان رسول الله يعطيكم تأليفا لقلوبكم وتكثيرا لسواد المسلمين ،أما وقد أعز الله المسلمين بالمسلمين، فإن كنتم من الفقراء أعطيناكم وإلا ببننا وبينكم السيف” وإذا كانت هذه النظرة الاجتهادية الثاقبة في فهم آية في كتاب الله بعد وفاة النبي الأكرم بأشهر وليس بعدة قرون فيكون من الأولى لفقهاء عصرنا إحكام النظر من أهله فيما يحقق مصالح الناس ويرسي قواعد التسامح والعيش المشترك بعيدا عن هذا الجمود المزموم من السابقين واللاحقين.

 تهنئة غير المسلمين بأعيادهم

من القضايا التي ينشغل بها الناس ويتكرر الجدل حولها مع بداية كل عام ميلادي جديد، حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، وما يقال في كل عام يعاد من دون جديد يذكر ومن دون حاسم يحسم الجدل الدائر بين الإباحة والتحريم، ولا أثر من تكرار هذه الأقوال سوى شغل مساحات من صفحات الجرائد ومواقع التواصل وأوقات البرامج، الأمر الذي لا يعود بالخير على إسلامنا وبلادنا، بل ينتج عنه بلبلة لأفكار الناس وتكدير لصفو العلاقات بين أبناء الشعب الواحد، ناهيك بفتح باب للمتربصين بوحدة الشعوب ولحمتهم الوطنية.

والعجيب انشغال الناس كل عام بهذا الأمر أكثر من انشغالهم بفواجع تمر بها الأمة؛ حيث لا تأتي مناسبة احتفال بالعام الجديد غير مصحوبة بما هو أكثر إلحاحًا وحاجة إلى الانشغال بأمره وتكثيف الجهود سعيًا لحله، وكنت أحسب أن هذا العام سينشغل الجميع بالبحث عن حلول لمشاهد الدمار والخراب في كثير من بلاد العالم الإسلامي من غير تفريق بين صغير وكبير ورجل وامرأة ومحارب ومسالم، وكنت أظن أن الأسئلة ستلاحقنا عن مدى مشروعية التنكيل بالعزل ودفنهم تحت الأنقاض وما واجبنا نحوهم، إلا أن صوت حكم تهنئة شركاء الوطن بأعيادهم ظل أعلى من صوت الصواريخ والقذائف والبراميل المتفجرة التي تنهال على رءوس البشر!.

ويستدل هؤلاء المتنطعون من المتطفلين على موائد العلوم الشرعية الذين ابتلينا بهم في زماننا على تحريم تهنئة شركاء الوطن بأعيادهم ببعض النصوص التي اجتزءوها من سياقها، زاعمين أن في تهنئتهم مخالفة لكتاب الله، وإقرارًا ورضا بما هم عليه من غير الإسلام، ومن هذه النصوص قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»، ولو تأمل هؤلاء الآيات التي تسبق هذه الآية لعلموا أنها لا علاقة لها بالموضوع الذي نحن بصدده، فهذه الآية جاءت في سياق النهي عن ترك تعاليم كتابنا الكريم وأقوال علمائنا الأجلاء والأخذ بأحكام الكتب المنزلة على غيرنا من أهل الكتاب أو اتباع أقوال علمائهم، ولا شك أن هذا لا يمكن أن يقول به مسلم مؤمن بدينه، ويكفي المتجردين الراغبين في استجلاء الحق دون هوى أو عصبية مراجعة الآيات التي تسبق هذه الآية (من 47 – 50 من سورة المائدة)؛ حيث تنص هذه الآيات على احتكام كل أمة إلى كتابها؛ فيحتكم أهل الإنجيل لإنجيلهم وأهل القرآن لقرآنهم، فإن احتكموا إلينا اختيارًا حكَّمنا بينهم كتابنا لا كتابهم، ولا يجوز لنا أن نحتكم إلى كتابهم، كما لا يجوز لنا إكراههم على الاحتكام لكتابنا إن أرادوا الاحتكام إلى كتابهم، وهذا حق لا جدال فيه، ولا علاقة للأمر بتهنئتهم بأعيادهم.

ويستدل هؤلاء المتنطعون أيضًا بقول الله تعالى: «إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»، ولو نظر هؤلاء نظرة فهم وتدبر في الآية السابقة التي تدل دلالة واضحة على عكس ما ذهبوا إليه لاكتمل لهم فهم المراد فهمًا صحيحًا؛ حيث يقول تعالى: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

ومن ثم فالنهي عن البر خاص بمن يناصبنا العداء ويقاتلنا سعيًا لاحتلال بلادنا وإخراجنا من أرضنا، وشركاء نسيجنا المجتمعي ليسوا من هؤلاء، بل إنهم ممن لم نُنه عن برهم والعدل فيهم بنص كتاب الله؛ حيث إنهم لا يقاتلوننا ولا يسعون لإخراجنا من أرضنا، فكيف تكون الآية دالة على ما يزعمه هؤلاء من تحريم تهنئتهم بأعيادهم؟! أليس من البر إدخال السرور على قلوبهم بما يبين أننا لا نحمل لهم ضغينة ولا نرجو لهم شرًّا، وهو ما يستشفونه من تهنئتهم بأعيادهم؟! ألم نؤمر في كتاب ربنا وسنة نبينا - وهو مما انعقد عليه إجماع الأمة - بإقرارهم على ما يعتقدونه من ديانات تخالف دين الإسلام متى سالمونا ولم يقاتلونا وينصروا علينا عدونا؟! ألم يأمرنا رسولنا الكريم بالامتناع عن إيذائهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «من آذى ذميًّا فقد آذاني»؟! ألم يوصنا رسولنا نحن أهل مصر خيرًا بأقباطنا في جملة من الأحاديث التي يحفظها كثير من الناس؟! فهل يكون إنفاذ وصايا رسولنا الأكرم بإيلامهم بالحديث عن تحريم تهنئتهم في أيام أعيادهم؟!.

إن قواعد شرعنا الحنيف تقضي بتبني ما يجمع الناس ولا يفرقهم ويعزز وحدتهم ويقوي نسيجهم ليقف الجميع صفًّا واحدًا من أجل الدفاع عن وطنهم ودفع عجلة تنميته، فإن هُدد الوطن في أمنه وحدوده تسابق الجنود من المسلمين والمسيحيين لدحر عدوهم ورده خائبًا، ونحن لا نتحدث هنا عما ينبغي أن يكون، بل حدث هذا مرارًا وتكرارًا، وحروب الكرامة التي وقعت على أرض سيناء وغيرها خير دليل على ذلك؛ فقد اختلطت فيها دماء المسيحيين والمسلمين، ولم تمنع مسيحية المسيحيين من دخولهم الجامع الأزهر وخروجهم مع علمائه هاتفين: «يحيا الهلال مع الصليب»، ولم يمنع إسلام العارفين بديننا الإسلامي حق المعرفة من تأسيس «بيت العائلة المصرية» الذي يتناوب على رئاسته شيخ الأزهر وبابا الكنيسة في قلب مشيخة الأزهر، وهي تجربة فريدة تحسدنا عليها كثير من دول العالم وتفكر  بجدية في نقل التجربة إلى بلادها، ولم يفرط شيخ الأزهر في شيء من ثوابت ديننا عندما يذهب مع معاونيه لتهنئة البابا ورجال الكنيسة في المناسبات المختلفة، ولذا كان من الأولى لهؤلاء الذين يفتون الناس بغير علم إما الاقتداء بأئمتهم وفي مقدمتهم شيخ الأزهر المعتز بدينه والمتمسك بثوابته وتعاليمه دون نظر إلى رضا مخلوق أو سخطه، فهو يعلم علم اليقين أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإما ترك الأمر دون الخوض فيه بما يلبس على الناس، خاصة أنه لم يطلب منهم أحد ولن يسألهم عن عدم تهنئتهم بأعياد لا يرون التهنئة بها متوافقة مع شريعة الإسلام حسب زعمهم.

قراءة (5062)/تعليقات (0)

بحث