يبدو أن حكومة الاحتلال الإسرائيلى قد رضخت أخيراً أمام صمود أهل القدس، حيث قررت وقف استخدام البوابات الإلكترونية عند مداخل المسجد الأقصى فى القدس، وذلك بعدما تسببت باندلاع أعمال عنف بين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية، إلا أن رجال الدين وقيادات الأوقاف الفلسطينية فى القدس أكدوا أنهم مستمرون فى الالتزام بقرار عدم دخول المصلين إلى المسجد الأقصى، كما شكلت لجنة فنية لفحص الوضع فى المسجد الأقصى، وأكدت على وجوب عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل بدء التوتر فى محيط المسجد الأقصى دون أى كاميرات أو بوابات.
وقد أمرت إسرائيل بإزالة البوابات بعد أسبوع من احتجاجات الفلسطينيين بشأن ما رأوه تقييداً غير مقبول لحقوقهم فى دخول المسجد الأقصى. وكان مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط نيكولاى ملادينوف، حذر من خطر على المدينة القديمة فى القدس ما لم يتوقف العنف بحلول الجمعة المقبل. وقد أوصى جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلى «شين بيت» الحكومة برفع البوابات لإزالة التوتر فى محيط المسجد الأقصى، وأن تستبدل بها كاميرات ذكية تعتمد على التصوير بالأشعة، إضافة إلى تكنولوجيا التعرف على الأشخاص من خلال حدقة العين.
وفور شيوع الخبر تجمع مئات الفلسطينيين قرب أحد مداخل الحرم القدسى للاحتفال بهذا التراجع الإسرائيلى، وقام أحد المحتفلين بإشعال ألعاب نارية مما دفع القوات الإسرائيلية إلى مهاجمة الحشد وتفريقه بواسطة القنابل الصوتية.
هذا، وقد خشيت الحكومة الإسرائيلية أن يؤدى تراجعها عن نصب البوابات إلى إظهارها بمظهر من يتراجع تحت الضغط، إلى أن جاء حادث إطلاق النار فى مجمع سكنى يقطنه دبلوماسيون إسرائيليون فى عمان أدى إلى مقتل مواطنين أردنيين على يد حارس السفارة الإسرائيلى، وتسبب فى خلاف دبلوماسى بين تل أبيب وعمّان. وقبيل صدور القرار الإسرائيلى، أفاد مصدر حكومى أردنى أن عمّان سمحت للدبلوماسى الإسرائيلى الذى قتل الأحد أردنيين اثنين بالمغادرة إلى إسرائيل بعدما استجوبته، وتوصلت مع حكومته إلى «تفاهمات حول الأقصى». وأكد المصدر أن عمّان توصّلت «إلى تفاهمات مع الحكومة الإسرائيلية تتعلق بالوضع فى القدس والمسجد الأقصى»، رافضاً الإدلاء بمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع، وبعدها بساعات أعلن المجلس الوزارى المصغر فى إسرائيل قراره بإزالة البوابات الإلكترونية واستبدال كاميرات متطورة بها تنُصب على مداخل الحرم القدسى وفى أماكن أخرى فى البلدة القديمة من القدس.
وعقد مجلس أمن الأمم المتحدة جلسة مغلقة لمناقشة الأزمة، والتى قال فيها المبعوث الأممى لمنطقة الشرق الأوسط: «من المهم للغاية التوصل إلى حل للأزمة الراهنة قبل الجمعة المقبل»، وأضاف: «ما من شك أنها أحداث محلية تقع فى حقيقة الأمر فى بضع مئات من الأمتار المربعة، لكنها تؤثر فى ملايين، إن لم يكن مليارات الناس حول العالم».
كما حمّلت الحكومة الفلسطينية نظيرتها الإسرائيلية المسئولية الكاملة عما يجرى فى المسجد الأقصى بصفتها قوة احتلال على الأرض، محذرة مما أسمته تهويد القدس ومنع المسلمين من أداء عبادتهم. وقد أدى التوتر فى البلدة القديمة فى القدس إلى مواجهات مع جيش الاحتلال الإسرائيلى انتقلت أيضاً إلى مناطق متفرقة فى الضفة الغربية وأدت إلى حدوث قتلى وجرحى. وقالت وزارة الصحة الفلسطينية إن تسعة فلسطينيين استشهدوا بسبب مواجهات أو اشتباكات مسلحة أو محاولات طعن ودهس منذ بدء موجة التوتر الحالية، منهم شاب قتل فى انفجار عبوة ناسفة قال الفلسطينيون إن جيش الاحتلال الإسرائيلى زرعها فى منطقة غور الأردن.
الأنشطة الاستيطانية
وفى الثلاثين من مارس الماضى، أخبر رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بعض أعضاء مجلس وزرائه الأمنى أن إسرائيل ستتصرف بتحفظ فيما يخص أى نشاط استيطانى مقبل، وجاء هذا القرار بعدما طالبه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن «يعلّق النشاطات الاستيطانية لفترة وجيزة» فى الضفة الغربية، كما جاء هذا القرار بعد الزيارة التى قام بها مبعوث البيت الأبيض جيسون جرينبلات إلى إسرائيل، وعشية الزيارتين اللتين قام بهما الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى والعاهل الأردنى الملك عبدالله إلى واشنطن.
وتتسم قضية المستوطنات بحساسية شديدة بالنسبة إلى ائتلاف نتنياهو اليمينى الحاكم. وكانت إسرائيل قد تعهدت منذ عام 2003 بتفكيك جميع البؤر الاستيطانية القائمة، دون الاكتفاء بمنع قيام تجمعات جديدة، ولكن الكنيست الإسرائيلى أقر فى فبراير الماضى «قانون التنظيم» الذى أضفى الشرعية حتى على البؤر الاستيطانية التى أقيمت على الأراضى الفلسطينية الخاصة. وأفادت بعض التقارير أن نتنياهو أبلغ مجلس الوزراء أن إسرائيل ستوسع المستوطنات القائمة «ضمن المناطق التى سبق تطويرها» فقط، والمصطلحات المستخدمة عادة فى هذا السياق هى «المناطق المبنية» أو «خط البناء»، لذلك فمن غير الواضح ما إذا كان لنتنياهو من قصد آخر.
الانتفاضة الثالثة
ويشبه الوضع السياسى على الأراضى الفلسطينية اليوم ذلك الذى سادها فى مرحلة ما قبل الانتفاضتين الأوليين، مما ينذر باندلاع هيجان آخر، ويعنى ذلك أن السلطة الفلسطينية تفتقر إلى الشرعية بسبب الفساد وسوء الإدارة، وعدم القدرة على تسجيل إنجازات فى عملية السلام، كما تفتقر إلى الدعم الشعبى، وتتمتع بسيطرة ضعيفة على آليات الرقابة الحكومية، كما أن الافتقار الملموس للإيمان فى عملية السلام يجعل الوضع أكثر تقلباً، وفى الواقع، لا يرى الفلسطينيون أن أهدافهم تتحقق بالطرق الدبلوماسية، فقد يلجأون إلى طرق أخرى لمعالجة مشاكلهم.
وتفيد التقارير أن ثمة عاملاً آخر يشير إلى إمكانية اندلاع انتفاضة جديدة، يتعلق بالأجيال الجديدة، فالفلسطينيون الأصغر سناً اليوم لا يتذكرون ببساطة ثمن الانتفاضات السابقة، وحتى الآن، وضعت قوات أمن السلطة الفلسطينية حداً للتوتر، ولكن صلاحياتها محدودة لاحتواء المعارضة. ويشكل حصول السلطة الفلسطينية على شرعية واسعة بين الجمهور الفلسطينى أفضل طريقة لمنع الانتفاضة حقاً، وقد يتطلب ذلك ضغوطاً قوية لتنفيذ إصلاحات الحكم، والقضاء على الفساد، وفتح المجال السياسى للحوار على مستوى القاعدة. وفى السياق الإقليمى الأوسع، قد تكون السعودية ودول الخليج الأخرى على استعداد للمساعدة فى إيجاد حل للوضع الفلسطينى.
مصطفى الأسواني