14 أبريل, 2023

الأديان: تذويب أم تقريب؟

الأديان: تذويب أم تقريب؟


شهد تاريخ البشرية محاولات لتذويب معتقدَيْن أو أكثر في معتقد واحد تحت ستار التقرب من أتباع تلك المعتقدات، وأكثر ما كان ذلك في حالات الاحتلال، أو التوسع المراد تسويغها لدى شعوب تدين بمعتقد مغاير لمعتقد القوى الوافدة عليها، فضلًا عن حالات ابتدرها ملوك في ممالكهم تقريبًا لِمَا تفرق من أديان في الأرض الخاضعة لسلطانهم. ترتب على تلك المحاولات إنشاء معابد أو اختلاق معبود يجمع بين مجسميْن مقدسيْن عند أتباع معتقديْن، أو استحداث دين يجمع بين سمات تميزت بها أديان متعددة. أي إن تلك المحاولات اتسمت -على الدوام- بمآرب دنيوية على حساب قدسية المعتقد. والمتأمل في الوقت الحالي يجد دعوات خبيثة أثيرت حول تذويب الديانات السماوية الثلاثة، وهنا قام الأزهر بدوره في تفنيد تلك الدعوات، رافضًا ما يثيره الداعون إلى هذا التوجه. 
فقد طالعَنا بيانٌ من مجمع البحوث الإسلامية بتاريخ ١٨ من مارس ٢٠٢٣ برفض ما أثير عن دعوات لتذويب الديانات السماوية الثلاثة في دين إبراهيمي واحد، وجاء في البيان أن "الأزهر الشريف يرفض رفضًا قاطعًا دعاوى دمج الديانات الثلاث، مؤكدًا أن الرفض لا يتعارض مع التعاون في المشتركات بين الأديان"، وأن "على الداعين لهذا التوجه أن يبحثوا عن طريق آخر يحققون به مصالحهم وينفذون به أجنداتهم"، معللًا ذلك الرفض القاطع للديانة الإبراهيمية "لما تنطوي عليه تلك الدعاوى من خطر على الدين والدنيا معًا... فاختلاف الناس في معتقداتهم وتوجهاتهم سنة كونية وفطرة طبيعية فطر الله الناس عليها، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: ١١٨-١١٩]، وأنه لو شاء أن يخلقهم على شاكلة واحدة، أو لسان واحد أو عقيدة واحدة لخلقهم على هذا النحو، لكنه أراد ذلك الاختلاف ليكون أساسًا لحريتهم في اختيار عقيدتهم، قال تعالى: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]. 
وأضاف البيان أن حرية اختيار المعتقد، لا تمنع التواصل الإنساني مع أتباع الديانات الأخرى والتعاون معهم على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان، والتعامل معهم على أساس العدل والاحترام المتبادل مما يدعو إليه الإسلام، ولا يجوز الخلط بين احترام عقائد الآخرين والإيمان بها؛ لأن ذلك الخلط سيؤدي إلى إفساد الأديان والتعدي على أثمن قيمة كفلها الله للإنسان، وهي حرية المعتقد، والتكامل الإنساني فيما بين البشر، ولهذا قال سبحانه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦]، وقال سبحانه: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]". وأكد البيان "أن هذا الرفض لا يتعارض مع التعاون في المشتركات بين الأديان لتقديم العون والمساعدة للناس وتخفيف آلامهم وأحزانهم، وعلى الداعين لمثل هذا التوجه أن يبحثوا عن طريق آخر يحققون به مصالحهم وينفذون به أجنداتهم بعيدًا عن قدسية أديان السماء وحرية الاختيار المرتبطة بها، وأن يتركوا الدين لله ويذهبوا بأغراضهم حيث يريدون، فإن الله لم ينزل دينه ليكون مطية لتحقيق المآرب السياسية، أو أداة للانحرافات السلوكية والأخلاقية." وأكد الأزهر أن رفض "تذويب" الأديان في بوتقة واحدة لا ينافي جهود "التقريب" فيما بينها، مستدلًا على ذلك بجهود البحث عن المشترك الإنساني والقيمي كما في أمثلة "بيت العائلة المصرية" و"وثيقة الأخوة الإنسانية" وما إلى ذلك من مستهدفات التفاهم والتعايش. 
الجدير بالذكر أن بعض العلوم تستخدم مصطلحًا يفيد معنى التذويب المذكور، ألا وهو "syncretism"، ومن العجيب أن ترى هذا المصطلح مشتركًا في دلالته اللغوية بين علم الألسنية (كما في دراسة اندماجات الأصوات والدواخل الحرفية للكلمات) وعلم دراسات الإنسان (الأنثروبولوجيا) (كما في حالات الدمج بين معبودات وأديان في العصور القديمة)، وهذا المسعى التذويبي هو المرفوض -بحق- عند الأزهر للأسباب السالف بيانها. 
وهذه الفكرة التذويبية الصاهرة ليست جديدة على أذهان البشر، فقد سبق السعي إليها لتحصيل مآرب لم تصمد أمام الزمن، ومن ذلك -على الصعيد الديني- المنظومة الدينية المسماة "الغنوسية" (Gnosticism) في تاريخ المسيحية، إذ أنتجت مزيجًا من اليهودية والمسيحية والمفاهيم الفلسفية الدينية اليونانية، وانتشرت في الحقبة الهيلينية (حتى ٣٠٠ ميلادية)، وكل ذلك نتيجة لتوسعات الإسكندر الأكبر، وخلفائه، والإمبراطورية الرومانية التي سعت إلى الاستيعاب بالتذويب لا بالتقريب. وانبرت المسيحية الأرثوذكسية (السائدة في مصر) إلى رفض ذلك الصَهر المفتعل، والتذويب المصطنع للفوارق الطبيعية بين الأديان، والفلسفات، والأفكار، والعقائد. 
ومن الأمثلة الأخرى لسوابق هذه المساعي ما سمي باسم "المانوية" (Manichaeism)، وهي عبارة عن ديانة ظهرت في القرن الثالث الميلادي على يد المتنبئ الإيراني "ماني" الذي جمع بين عقائد، وأفكار من المسيحية، والزرادشتية، والبوذية، وعلى شاكلتها ظهرت السيخية بوصفها ديانة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر على يد المُصلِح الهندي المعلم "غورو نانك" الذي جمع فيها بين عقائد من الإسلام، والهندوكية، ولم ينج أي مزيج كهذا من مقاومات شديدة من أهل الديانات المراد تذويبها وصهرها، وقد ظهرت حركة في القرن السابع عشر بقيادة عالم اللاهوت الألماني البروتستانتي جورج كاليكستوس بهدف تذويب الفوارق والخلافات بين البروتستانت في ألمانيا، لكن دعوته لاقت المصير نفسه من الرفض والتقريع. 
وبالقفز في التاريخ البعيد نجد محاولات الحضارة الكوشية عندما استتب لها الأمر في مصر القديمة لوهلة من الزمن، فشرعت في المزج بين معبودها "ديدون" ومعبود المصريين "أوزوريس"، وإقامة معبد للإله الوليد حتى زوال حكمهم من مصر، وعلى شاكلة ذلك سعى اليونان عندما قدموا مصر إلى تذويب الأديان، واختلاق معبودات مشتركة، وفي التاريخ أيضًا نجد أن اليهود بذلوا مقاومة شديدة للمزج بين الإله "يهوه" وكبير الآلهة عند الإغريق القدماء – "زيوس"، ومن الشواهد التاريخية الأخرى سعي الإمبراطور المغولي "أكبر" إلى إحداث دين جديد أسماه "ديني إلهي" (أي: الدين الأقدس)، واستجلب له عقائد من الإسلام والهندوكية والمسيحية واليانية والزرادشتية؛ لكنه لم يُحْدِث للدين الجديد كتابًا ولا نصوصًا ولا تراتبية كهنوتية – بل أقام عليه ٢٠ حواريًّا من اختيار الإمبراطور نفسه لترسيخ عقيدة أسماها "صلحي كل" (أي: السلام للجميع). 
فما الجامع بين كل تلك المحاولات والمساعي؟ الجامع بينها الباعث السياسي، والمآرب المُغرِضة، والسقوط السريع، وتجاهل الحقائق البشرية الفطرية، فالدين لا يستقيم ولا يُقيم إلا إذا كان من لدن حكيم خبير عالم بأحوال خلقه وما يصلحها. وعلى ذلك فالجدير بالناس جميعًا أن يسعوا في خير بعضهم بعضًا، وفي إبراز ما توافقت عليه أديانهم من قيم وأخلاق؛ لا أن يسعوا في اصطناع معتقد، أو صنع ديانة تقفز على كل السنن الكونية في التنوع، والتعدد، والحق الساطع على مر الدهر أنه: "لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍۢ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء: ١١٤). 

وحدة رصد اللغة الإنجليزية
 

قراءة (1007)/تعليقات (0)