01 أغسطس, 2023

الولاء والبراء.. وثنائية الخيط الرفيع

الولاء والبراء.. وثنائية الخيط الرفيع

     يتشبث بعضُ الموغلين في الإسلام بغير رفق ببعض المصطلحاتِ العقدية المهمة تشبثًا غيرِ سليم؛ فيصبح فهمُهمُ القاصر وزَهْوُهُم المزيَّف بالتديُّن أداةَ طعنٍ، وحجرَ عثرةٍ أمام الفهم الصحيح المتحلِّي بالأصالة، والمرونة اللتيْن يتميز بهما الإسلام بوصفه دينًا يناسب - بل يَصلُح لكل زمان ومكان، وبمثابته أسلوب حياةٍ لم يتركْ أتباعه حيارى حيال أَدقِّ التفاصيل الدنيوية، أو الدينية دون هداية، أو إرشاد، بدايةً من تخيُّر أفضل الأسماء للصغير الذي يستهل أولَ أنفاسه في حضن أمه، فقد أخرج الترمذي في: "باب ما جاء في تغيير الأسماء" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح"، وغير ذلك من الأمثلة الواردة في كثير من الأحاديث والروايات. كما أرشد الإسلامُ الزوجَ إلى التدقيق في اختيار الزوجة التي ستكون يومًا ما أُمًّا لهذا الولد، فقال الرسول (ﷺ): "تخيروا لنطفكم ..." (ابن ماجه 1968،والحاكم 2687، وغيرهما)، وصولًا لآلية تكريمه بعد انتهاء رحلة الحياة، إذ قال (ﷺ): "إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره"؛ قال ابن حجر في فتح الباري: أخرجه الطبراني بإسناد حسن. ومن بين المصطلحات الخلافية التي دائمًا ما تسعى التنظيمات الإرهابية والمتطرفة إلى ترسيخها في أذهان الشباب المسلم "عقيدة الولاء والبراء" التي يبني عليها كثير من أصحاب الفكر المتشدد، والعقول الضالة ما يرتكبونه من جرائم؛ فيخرجون بالمفهوم من سياق الاعتدال إلى وجهة التطرف والإرهاب.

لذلك لزم أن نوضح المعنى المراد من كلا المصطلحين، إذ تأتي كلمة (وَلِيٌّ) في السياق اللغوي بمعنى الناصر والصديق، والتابع المُحب، وهو ضد العدو، وتأتي كلمة (البَرَاء) بمعنى البُعد والتَرفُّع عن الشيء وقطع العلاقة معه، وتجنبه، حيث يقال: بَرِأَت ذمتُه أو أَبْرَأْتُه من كذا، يقول الله تعالى: ﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا (الأحزاب: 69). ويشير مفهوم (الولاء) بين العلماء إلى الحب، والنصرة لله تعالى، ولرسوله (ﷺ) وللمسلمين من خلال تقوية أواصر الأخوة، وتعميق مفاهيم التعاون، والدعم المتبادل في سبيل الدين، ودعم الدولة، في حين يشير مفهوم (البراء) إلى الرفض القلبي لعبادة غير الله، وما يتصل بها من مظاهرَ، وممارساتٍ، ولِمَن يعادون الإسلام والمسلمين. ولا يعني ذلك أن نكره أتباع الأديان الأخرى عمومًا، أو أن نعاديهم، أو نسيء معاملتهم، فقد قال النبي (ﷺ) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "من قتل معاهدًا لم يَرُح رائحةَ الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا" (البخاري 3166).

جاء مصطلح الولاء في القرآن، والسنة بعدة أشكال:

- فتارة يأتي بمثابة وصف ثابت من الأوصاف اللازمة للمؤمنين، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُواْ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلنَّبِىِّ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا ٱتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ (المائدة: 81)، ويقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة: 71)، ويقول: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (المجادلة: 22).

- وتارة أخرى في سياق التحذير، يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: ﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (آل عمران: 28).

- وفي سياق النهي، يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (المائدة: 51).

- وفي سياق التأسِّي: يقول تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (الممتحنة: 4).

- وفي سياق المؤاخاة (في الدين) حتى بَيْن من لم تجمعهم قرابة الدم، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ... (الأنفال: 72). وروى الطبراني أن النبي (ﷺ) قال: "مَن أحبَّ للَّهِ وأبغضَ للَّهِ، وأعطى للَّهِ ومنعَ للَّهِ فقدِ استَكْملَ الإيمانَ" (أخرجه ابو داود 4681)، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الشريفة.

إذن فمعنى الولاء والبراء هو محبة المؤمنين، وموالاتهم، واتخاذهم أصدقاء، وأحباء، وكُره عبادة غير الله ومعاداة أعداء الإسلام، والمسلمين قلبيًّا، إضافة إلى أن الولاء والبراء يعني التبرؤ مما تبرأ منه الله عز وجل، ورسوله من شخص، أو عمل، أو قول، قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... (التوبة: 3)، وقال عز وجل: ﴿... وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (الحجرات: 7)، وأدَلُّ شيء على هذا قول العلماء: إن شهادة التوحيد ذاتها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) تقتضي الحب في الله، والبغض في الله.

ولذا يتبين أن الإسلام لا يأمر أتباعه بعداوة غير المسلمين لمجرد المخالفة في الدين، فالآيات الكريمة ليست مطلقة، بل مقيدة بوجود حالة المعاداة، والبُغض لله، ورسوله، والإسلام، والمسلمين، أما من لا يعادي الإسلام، والمسلمين، فلم يأمر الشرع بمعاداتهم، فلا ينبغي أن يتبادل المسلمون المحبة فيما بينهم، ثم يصدرون الكراهية لغيرهم.

إذن لا بد أن نوضح أنه ليس المراد من البراء هو عدم الإحسان لغير المسلم، أو إعلان العداء له مطلقًا، فالمسلم - سواء أكان مغتربًا ببلد ذات أغلبية غير مسلمة، أم مقيمًا مع شركاء الوطن ممن هم على غير دينه – فإنه يتعامل مع غيره معاملة طيبة تنم عن فهم التشريعات الإلهية، والنبوية التي راعت سنة الاختلاف بين البشر التي قررها الله عز وجل، وأن حسن المعاملة، والتعايش السلمي ضرورة من ضروريات استمرار الحياة، ولوازمها الطبيعية، كما أنَّ رَحِمَ الأخوة الإنسانية ثابت لهم، ولا يجب إغفاله، أو قطعه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 49)، فمفهوم العداوة، والبغضاء لازم قلبي عند المسلم يَنتج عنه ضرورة سلوكية - هي محبة المؤمنين، ومجافاة أعداء الإسلام - دون إغفال مبادئ المعاملة الحسنة، وآداب التواصل، ما داموا لا يعادون الله، ورسوله، يقول تعالى في حق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4) ويقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107)؛ لذا أباح الشرع التعامل مع غير المسلمين الذين لا يعادون الإسلام، فأحل البيع لهم، والشراء منهم، والإهداء لهم، وقبول هديتهم، وصِلةَ رحمهم، وعدم ظلمهم في النفس، أو المال، وتناول طعامهم، وذبائحهم بشروط، وعيادة مريضهم، بل الزواج من نسائهم، وعلى أساس هذا النموذج من التعايش السلمي، والتسامح، أقام الإسلام مجتمعه الأول محافظًا على حقوق المسلمين، ومؤديًا واجبات غيرهم، ومؤمنًا بحقوق هذا الغير لاستكمال مسيرة التعايش بين بني البشر عمومًا الذين خلقهم الله عز وجل مختلفين بالأساس. وعلى ذلك، يمكن استنتاج بعض النتائج، من بينها:

  1. عموم إباحة المعاملات مع غير المسلمين ممن لا يحاربون المسلمين بالبر وهو أعلى درجات حسن المعاملة، ويشمل جميع وجوه الخير، والعدل، والحسنى دون أية تفرقة بسبب الدين، أو غيره، يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)(الممتحنة: 8 و9).
  2. وجوب الالتزام بالمبادئ الإسلامية في خلافة الأرض عمومًا نحو المسلم، وغيره، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة: 8)، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (الإسراء: 34)،ومن ذلك وجوب توفير الحماية للأجانب الموجودين بالبلاد الإسلامية.
  3. وجوب حماية غير المسلمين غير المعاديين، لدرجة تحذير المسلم من حرمانه من الجنة إن أوقع بهم أذى، كما ورد في الحديث السابق: "من قتل معاهدًا لم يَرُح رائحة الجنة..."، ومن ذلك مَنع المسلم من قتال من لا يقاتله، بل عدم جواز الاعتداء عليه، يقول عز وجل: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة: 190).
  4. وجوب نصرة المظلومين، والمستضعفين في الأرض عمومًا، بناء على رابط الأخوة الإنسانية، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الشورى: 42).
  5. بر الوالدَين غير المسلمَيْن، يقول عز وجل: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًاۖ (لقمان: 15)، وتنسحب الآية على ذوي القربى، والمعارف، والأصدقاء غير المسلمين.
  6. إباحة طعام أهل الكتاب، وإباحة زواج نسائهم بشروطه، يقول الله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ (المائدة: 5).
  7. الإهداء لغير المسلمين، وقبول الهدية منهم، فقد قبِل النَّبيُّ (ﷺ) هدايا المقوقس بمصر، وعن علي رضي الله عنه قال: "أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ الله (ﷺ) فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَى لَهُ قَيْصَرُ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ مِنْهُمْ"، وأهدَى عمر بن الخطاب ثوبًا - كان قد أهداه له النبي (ﷺ) - لأخيه من أم،  وكان مُشركاً يسكن مكة، وغير ذلك كثير.
  8. الولاء والبراء عقيدة لتقوية الشعور الديني لدى المسلم، وتعزيز روح الانتماء للأوطان بحيث يتعاظم حب التضحية في سبيل الوطن، ويزداد الإخلاص له، فلا تجد المؤثرات الخارجية سبيلًا للوصول لنفوس المواطنين.

وهكذا يقف هذان الباعثان السلوكيان من المجتمع المسلم موقف القوة الداخلية الجاذبة، والطاردة في آن واحد، فهما قوة تجذب الكلَّ نحو محبة هذا الكل، وتضم جميع ما يتناسق معه، ويشبهه ليدور في فلك الهوية الثقافية الواحدة التي باطنها الوحدة، والتماسك، وظاهرها حسن معاملة الغير، ومراعاة طبيعة الاختلاف الإنساني، وفهمها، وهما كذلك قوة طاردة تلفظ الغريب الشاذ الذي لا يقبل بتلك الوحدة، ولا يؤمن بذلك التماسك، ولا يعطي كل ذي حق حقه بقطع النظر عن دينه؛ فيتجلى مفهوم سماحة الإسلام بأدق معانيه دونما التفات لاختلاف العرق، أو اللون، أو الدين، والنصوص التي توضح ذلك كثيرة كما سبق، كما أن السنة النبوية تزخر بكثير من الأمثلة، كزيارة النبي (ﷺ) للغلام اليهودي في مرضه، وكذا يُقاس عليه تقديم واجب العزاء في المتوفَّى غير المسلم، وأنه (ﷺ) تُوفي ودرعه مرهون عند يهودي على ثلاثين صاعًا من شعير، إلى غير ذلك.

ومن صور الولاء والبراء وتطبيقاتهما في الحياة اليومية:

  1. إظهار الود، والتراحم بين المسلمين، يقول الرسول (ﷺ): "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (البخاري 6011).
  2. حسن المعاملة مع غير المسلم الأجنبي طالما كانت حالة السلم قائمة، يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة: 8)، فالمسلم غير مأمور بمعاداة غير المسلم، أو معاملته معاملة غير لائقة.
  3. النصر، والتأييد، قال رسول الله (ﷺ): "انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قالوا يا رسول الله: هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا ؟ قال : تأخذ فوق يديه".البخاري (2443)
  4. النصح، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" (البخاري 1401).
  5. من الطبيعي أن يكون غير المسلم زميلًا في محيط الدراسة، أو العمل، أو جارًا، أو غير ذلك، والواجب نحوه هو ما قررته الآيتان الكريمتان من سورة الممتحنة كما ورد أعلاه؛ فنصهما موافق لكل ضمير وعقل: الحسنى بالحسنى، والمعاداة بالمعاداة.

وهكذا تُعد عقيدة الولاء والبراء من الأصول العقدية التي تفيد النفي، والإثبات في وقت واحد، فنجد لها صدى عمليًّا ملموسًا في الحياة اليومية، ونظرًا لما تتصف به من وجود فروق دقيقة ينبغي الوعي بها؛ لأن المسلم مع هذا المصطلح في منطقة وسطى بين طرفي النقيض: الغلو، أو التسيب؛ إذ قد يقترف ذنبًا بحق غير المسلم إنْ ظلمه، أو عامَله معاملة سيئة، وقد يتهاون في واجب نحو قرينه المسلم إن ناصَر غيره عليه بغير وجه حق. وهنا تتجلى وسطية الإسلام، وعدله حين يراعي مصلحة أتباعه، ووحدتهم مع عدم إغفال حقوق غير المسلم في آن واحد، بل يجعل إيذاء غير المسلم محرمًا، ويجعل قتله سببًا لتحريم الجنة، فالمسلم يعامل غير المسلم معاملة حسنة، بل يحبهم إن كانوا أقارب، أو زوجة، لذا وجب التفريق بدقة بين الأمرين، وعدم الخلط بينهما، وملاحظة الفرق بين تطبيقهما في حالة السلم، وحالة الحرب، حتى لا يكون التعامل مع غير المسلم المسالم، والمعتدي واحدًا – وهو ما يجافي المنطق القويم.

وقد انحرفت الفرق والتنظيمات المتشددة المنتسبة للإسلام قديمًا، وحديثًا عن الفهم الشرعي الصحيح لهذا المصطلح، فنتج عن ذلك نسخة مشوهة منزوعة الرحمة، والإحسان من ممارساتهم التي يدعون أنها إسلامية، فرموا من يخالف ذلك الفهم المغلوط بالردة، والكفر، حتى لو كان مسلمًا، فوسموا أنفسهم بأوصاف من قبيل الفرقة الناجية، أو الموحدة، استنادًا على اعتقادهم الخاطئ أنهم يملكون الحقيقة الإيمانية المطلقة، مخالفين مناهج الاستنباط، والاستدلال العلمي، والشرعي الصحيحيْن، ومخالفين منهج أهل السنة والجماعة في ذلك، فترتب على ذلك استقطاب شبابٍ غُرِّر بهم بسبب حداثة عهدهم بالإسلام، أو بسبب مشكلات اجتماعية كالفقر ونحوه، أو أزمات نفسية؛ فاستباحوا النفس، والعرض والمال، وارتكبوا أفظع الأعمال التي لا تصدر من بشر ضد ضحاياهم من المسلمين، أو غير المسلمين على حد سواء.

والمنهج الوسطي للأزهر الشريف متفق تمام الاتفاق مع المنظور الشرعي الوسطي الصحيح للمفهوم؛ إذ يطبقه الأزهر في مناهجه التعليمية بكل مستوياتها منذ نعومة أظافر الطالب الأزهري، وصولًا به للمستويات الجامعية الأكاديمية، وكذا على منابره الدعوية جميعها، والمؤتمرات التي يدعو أو يُدعَى إليها، أو منصاته الإعلامية، ونتاجها الهادف المحمود من الجميع. وحتى عندما ظهرت المفاهيم الدولية الحديثة الخاصة بالقانون الدولي الإنساني من قَبيل مفهوم المواطنة، والدولة الوطنية، والتعايش السلمي، وغيرها، لم يقف الإسلام عاجزًا عن احتوائها، بل كان هو أول من طبقها منذ أكثر من ألف عام، وآية ذلك صحيفة المدينة التي وضعها النبي (ﷺ) في العام الأول للهجرة لتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود وغير المسلمين في المدينة بوصفهم يحيَوْن في وطن واحد. ولقد دأب فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر على حثِّ المسلمين في الغرب أكثر من مرة على الاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم ليتحقق مبدأ القدوة الحسنة قولًا، وعملًا، وليصبح المسلم مثالًا ملموسًا لتقدم المجتمع ونهضته، ولنزع رداء التطرف والإرهاب الذي يحاول البعض إلصاقه بالإسلام سواء افتراءً عليه، أو بسبب بعض الممارسات السلبية لبعض أفراده القائمة على تفسيرات مغلوطة للنصوص، والأوامر الشرعية.

كما أن الجهود المحلية للأزهر الشريف لم تنفك عن الإسهام بنصيب وافر في تعزيز التعايش السلمي الداخلي بين أبناء الوطن الواحد في مصر؛ فقد أصبح القدوة في ذلك؛ إذ نبعت فكرة بيت العائلة المصري من الأزهر الشريف ذاته للتعبير عن كامل الاستعداد للتعاون بين الأزهر، والكنيسة الأرثوذكسية بمصر، وثبتت صلاحيتها لما يزيد على عشر سنوات. كما جاء توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بين الأزهر الشريف، والكنيسة الكاثوليكية عام 2019م، تتويجًا لهذه الجهود، وثمرة عمل كبير للتقدم نحو نبذ العنف العالمي، وتحقيق التقارب، والتعايش السلمي بين أتباع الأديان المختلفة المبني على الحفاظ التام على هوية الأديان، وتعاليمها، وعقائدها مستقلة، وبمنأى عن غيرها دون خلط، أو تمييع؛ ليعود الحديث مجددًا عن الخيط الرفيع الذي يفصل التعايش السلمي عن الذوبان الديني المنبوذ الذي ينادي به البعض نتيجة قصور الفهم، كما هي الحال في عدم التفريق بين حسن المعاملة، والعمل بمعتقد الولاء والبراء.

 

وحدة اللغة الإنجليزية

قراءة (889)/تعليقات (0)