16 سبتمبر, 2024

عبثية الذكاء الاصطناعي: رحلة البحث عن معنى في عصر التكنولوجيا

عبثية الذكاء الاصطناعي: رحلة البحث عن معنى في عصر التكنولوجيا

مفهوم "العبثية"

في عالمٍ بات مثقلًا بالفوضى والضجيج، بل الحروب، يبرز مفهوم "العبثية" بوصفه واحدًا من أكثر الموضوعات إثارة للتفكير.

ولعلك تتساءل؛ ماذا تعني العبثية؟ تشير "العبثية" إلى اللحظات التي يشعر فيها الفرد بعدم الجدوى من كل ما يقوم به، ويتسلل الشك إلى نفسه. يمكننا أن نسميها أيضًا: "المعنى المفقود"، وقد أشار إليها الأديب نجيب محفوظ في الفصل العاشر من رواية "ثرثرة فوق النيل" بقوله: "العبث هو فقدان المعنى، معنى أي شيء؛ وانهيار الإيمان - الإيمان بأي شيء، والسير في الحياة بدافع الضرورة وحدها ودون اقتناع وبلا أمل حقيقي.

ويؤثر ذلك في الشخصية على هيئة انحلالٍ سلبية، وتصبح البطولة خرافةً وسخريةً، ويستوي الخير والشر، وتموت القيم جميعًا، وتنتهي الحضارة". أشار لهذا المعنى أيضًا الطبيب النفسي "فيكتور فرانكل" في كتابه: "البحث عن معنى"، ورغم أن هذا الكتاب لا ينتمي انتماءً مباشرًا لفلسفة العبث، فإنه يوفر نظرة مهمة للبحث عن المعنى في الظروف القاسية.

أما العبثية في زمن التقدم التكنولوجي فتمثل تهديدًا خطيرًا للتماسك المجتمعي والأمن العالمي، وهو ما يهدد الوجود الإنساني. وقد أدى الانتشار السريع للمحتوى غير الهادف إلى تطرف الأشخاص من خلفيات متنوعة وعلى مستويات متباينة، الأمر الذي يجعل المشكلة مركبة، وذلك على المستوى الفردي.

أما على المستوى المجتمعي؛ فالتقدم التكنولوجي السريع الذي يشهده العالم اليوم -خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي- قد أثار العديد من التحديات والمخاطر التي تستغلها التنظيمات المتطرفة وغيرها. ولا شك أن قوة التكنولوجيا قد عملت على إثراء المشهد العالمي وتحديه، في وقت يتسم بالتعقيد غير المسبوق والتحول الرقمي السريع.

وتدل المؤشرات على انتشار المحتويات العبثية عبر الإنترنت، وهي إحدى المشكلات المعقدة التي ظهرت في خلال هذا العصر الرقمي، وتشكل تهديدًا خطيرًا للأمن الدولي.

 

البعد الفلسفي لمفهوم "العبثية"

العبثية الوجودية هي مذهب فلسفي ظهر في القرن العشرين، وقد طوّره بالأساس فلاسفة الوجودية مثل ألبير كامو، وجان بول سارتر. هذا الفكر الفلسفي يتناول مشكلات الوجود البشري وعلاقته بالحياة المعاصرة. ويرى أن الحياة البشرية عديمة المعنى والهدف، وأن الكون عشوائي وفوضوي بطبيعته؛ وهذا بالطبع مخالف لما جاءت به الشرائع السماوية التي تؤمن بأن لا شيء يُخلق عبثًا. ووفقًا لهذه الفلسفة، فإن الإنسان محاطٌ باللا معقول وعدم اليقين، ولا يوجد أي "هدف غائي" للوجود.

وقد نوقشت العبثية وعلاقتها بالأبعاد المختلفة على مر السنوات، فتناولها الناقد ألبير كامو في كتابه: "الأجنحة الغربية" بعلاقتها بالاغتراب، وبالنظر إلى عالمنا الرقمي الحالي نجد أن تلك المشكلة قد يتعرض لها الأطفال، بل والكبار في عزلتهم مع التطبيقات العبثية للتكنولوجيا.

كذلك ناقش جان بول سارتر مفهوم الحرية في سياق فلسفة العبث في كتابه: "الحرية والعبث"، ولا شك أن هذا التقارب موجود الآن؛ إذ إن الفرد يسجن نفسه بنفسه، ويصبح مقيدًا منعزلًا عن محيطه، تاركًا ذاته لزمام تلك الفوضى الإلكترونية وغيرها، حتى إن الروايات المتطرفة كادت تؤثر في الأشخاص من خلفيات متنوعة، وعبر الحدود الجغرافية والثقافية.

وفي ظل العالم الرقمي الذي نعيشه اليوم، زاد نشر المحتوى المتطرف؛ الأمر الذي يمثل تحديًا ملحًّا يتطلب حلولًا إبداعية، ومرنة، وشاملة. ونظرًا للسرعة التي يتطور بها المشهد الرقمي، فإن إعادة التفكير في تلك المشكلة أصبح الآن أمرًا حتميًّا، وبات من الواجب العاجل استخدام الأدوات الحديثة التي يمكن أن تتناسب مع سرعة التطرف ونطاقه عبر الإنترنت في مكافحة الخطابات المتطرفة؛ إذ أصبح المجال الرقمي أكثر أهمية للتواصل، وتبادل المعلومات، والتفاعل المجتمعي باعتباره مجالًا مهمًّا.

ولا أحد ينكر وجود جانب إيجابي للذكاء الاصطناعي يمكنه أن يفيد الإنسانية، ولكن هذا المقال يتناول التداعيات السلبية للذكاء الاصطناعي. فمثلما يرى فلاسفة العبثية غياب المعنى والهدف النهائي للوجود الإنساني بحكم إطلاقي غير موفق، فإن الذكاء الاصطناعي الحالي -بحكم غير إطلاقي ومتحسِّب- يفتقر إلى هذا النوع من المعنى والغاية الشاملة، فذكاء الآلات وسيلة وليس غاية في حد ذاته. فكل من العبثية والذكاء الاصطناعي يطرحان تحديات أخلاقية حول دورهما وتأثيرهما في البشر والحرية الفردية. ويرتبط كل منهما بعدم اليقين، خاصة مع تطور التقنيات والبرمجيات المعقدة.

 

مكافحة العبثية في عصر التكنولوجيا

تنبثق مسئولية الفرد أمام التكنولوجيا والأجهزة المحمولة من خلال دوره في المجتمع، وهذا المستوى من الأهمية بمكان، فأمام الفرد ثلاثة خيارات؛ أولها: أن ينخرط في التكنولوجيا، ويصبح أداة في يد الكثيرين من صناع المحتوى المتطرف بصوره غير الأخلاقية، والواقع خير مؤشر على ذلك، إذ أصبحت الأجهزة التكنولوجية في أيدي الأطفال قادرة على تشكيل وجدانهم، بل عقائدهم، وتؤدي إلى خفض القدرة على التذكر وتشتيت الانتباه، وتؤثر في مشاعرهم أيضًا. إضافة إلى أن كثيرًا من الأطفال يشاركون معلوماتهم الشخصية التي يمكن أن تضعهم وعائلاتهم في خطر، فكثير من المراهقين تعرضوا للمضايقات والاعتداءات اللفظية عبر الإنترنت. فالمسئولية في جُلها منعقدة على الوالدين، والحل بلا شك في تدارك المشكلة قبل أن تصبح أزمة، وقبل أن يأتي الوقت الذي لا ينفع فيه الندم. ولا شك أن العزلة الفردية مع الأجهزة الالكترونية تعطل إمكانات الطفل في الوقت الذي أصبح ركب التقدم في أعلى وتيرة. والمقام لا يتسع لذكر سلبيات ذلك الخيار.

أما الخيار الثاني أمام الفرد، فهو أن يعزل نفسه ومحيطه عن الأجهزة الذكية، ولكن تلك العزلة قد تكون سلبية وإن كانت لها دلالات إيجابية إذا كانت في محاولة لفهم أكبر للنفس وتحديد الأوليات، وتقييم الخطط، كما يؤثر في زيادة الحساسية تجاه الفروق الدقيقة في التعابير؛ إلا إن ذلك ليس كافيًا؛ فركب التكنولوجيا يُحتم على الفرد أن يكون على دراية وفهم لأساليب الأفراد الآخرين في مجتمعه، بل والمجتمعات الأخرى.

والخيار الثالث، هو حلقة وصل بين الخيارين السابقين؛ وهو الموازنة بين فهم التكنولوجيا وتطويعها لخدمة خطط الفرد وأهدافه، ومن ثم دمج هذا الفهم مع أوقات من الخلوة الإيجابية عن تلك الأجهزة. ومن هنا أصبح واجبًا شرعيًّا باعتباره جزءًا من تحصين الأفراد كبارًا وصغارًا، ومواجهة تلك المشكلة، فعلى الفرد أن يكتسب المهارات التي تعينه على فهم التكنولوجيا حتى يرى العالم من حوله بعين مطلعة مع أخذ التحصينات القيمية الأخلاقية الكافية لحمايته من براثن الأفكار المتطرفة المضلة.

كما أن لدى الأجهزة المحمولة على سبيل المثال تطبيقات قد تعين الفرد على فهم إمكاناته، وتنمية مهاراته، بل وسلوكياته. وبالنسبة للفرد البالغ فعليه أن يفهم أن هذه التكنولوجيا إنما هي لخدمة الإنسان، فالواجب ألا يترك لها العنان للتحكم فيه، بل على الفرد أن يُسخرها لخدمته، وأهدافه. أما بالنسبة للأطفال، فالمسئولية واقعة على ولي الأمر الذي يجب أن يفعل ما بوسعه لتدريب أطفاله على الاستخدام الأمثل للتكنولوجيا، دون تقييد مضر؛ فلا مناص من السماح لهم باستخدام الأجهزة الالكترونية حتى يكونوا على فهم ودراية بكل صور التكنولوجيا، فيستخدمون الجيد منها، ويتفادون أضرارها السيئة. وعليه أيضًا أن يتعلم كيف يدير تلك المسئولية، كما عليه أن يتعلم من أمور دينه ودنياه ما يعينه على تقييم المحتويات ليعرف الضار منها والنافع، وأن يكون مرنًا متقبلًا للأفكار الجديدة بما لا يخالف الأخلاق والأعراف.

 

الخلوة التربوية – لا الانعزال

للتربية دور مهم في حل تلك المشكلة من خلال تعزيز القيم والأخلاق لمواجهة مخاطر العبثية في الجيل الناشئ، وبناء إستراتيجيات جديدة تعالج المشكلة، وتساعد الأفراد على التفكير الإيجابي وسط التحديات، وتقترح المقالة "الخلوة" التربوية إستراتيجيةً فعالة في مواجهة عبث الذكاء الاصطناعي، ولكنها خلوة وقتية ما بين الفينة والأخرى، تمثل فرصة لخلق بيئةٍ داعمة لتحسين تفكير الفرد، وتنطوي على التأمل الإيجابي الذي ذكره القرآن الكريم تحت معنى: التأمل والتفكر، ونحن مأمورون به في التفكر في الآيات، والتأمل في خلق الله، كالأفلاك والنجوم، وما في النفس من آيات، وفي الحياة والهدف منها، وفي آيات القرآن والسنة ليستنبط الدروس والعبر. يمكن أن تكون الخلوة مع النفس وسيلة لتجديد الإيمان، والتقرب إلى الله من خلال الدعاء والتأمل، وتحقيق السلام الداخلي.

للخلوة مع النفس مكانة مميزة في الشرائع السماوية؛ إذ تمثل فترة من الانعزال عن مشاغل الحياة، والتركيز على العبادة والتفكر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يختلي في غار حراء للتأمل والتفكر قبل نزول الوحي، وقد قال الله تعالى في سورة آل عمران (آية ١٩١): {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وهذا دعوة للتفكر في عظمة الخالق وخلق الكون، والخلوة والتفكر تُعد من الأعمال القلبية التي تقود للتقرب إلى الله؛ فتهذب النفس والسلوك معًا.

 

الخلوة بوصفها إستراتيجية تربوية للتحرر من العبثية

هنا نصل للخلوة التي تقترحها المقالة، التي تشير إلى "الخلوة مع النفس"؛ من أجل البحث عن الذات، واكتشاف النفس، ومراجعة الأولويات. تعتبر الخلوة مع النفس إذا كانت بشكل تربوي منهجي إحدى الأدوات الفعالة التي يمكن أن تساعد الأفراد في مواجهة المخاطر التي قد تطرأ نتيجةً لتطورات الذكاء الاصطناعي. ولها أهمية في تحليل الوضع المحيط بالفرد، وتحليل الفرص والتهديدات من حوله. تتيح الخلوة مع النفس فرصة للتفكير في كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، سواء من الناحية المهنية، أو الاجتماعية. ويمكن من خلالها تحسين كفاءة العمل، والتصدي لمخاطر العصر الحديث، مثل فقدان الوظائف، أو ما يطلق عليه الويب المظلم بخصائصه التشفيرية.

ولمواجهة العبثية، يجب التوعية بأهمية التربية التي تُعدُّ أحد الأعمدة الأساسية لبناء المجتمعات، وهي الأداة الرئيسة لتناقل القيم والمبادئ الإنسانية. وفي عصرنا الحديث، حيث تتزايد مظاهر العبثية في مختلف جوانب الحياة، تصبح التربية أكثر ضرورة من أي وقت مضى لمواجهة هذه الظاهرة. وهنا تتدخل التربية باعتبارها وسيلة لتمكين الأفراد من التفكير النقدي، وتطوير الوعي الذاتي. من خلال تعليم المهارات الحياتية اللازمة للتعرف على تقنيات الذكاء الاصطناعي الخطيرة. تنمي التربية القدرة على مواجهة التحديات، وفهم أهمية وجود أهداف وطموحات؛ وللتربية أيضًا دور حيوي في غرس القيم الإنسانية مثل التعاون، والمساواة، والاحترام. هذه القيم تساعد في بناء مجتمع متماسك يتحلى بالتضامن، ويعزز الروح الجماعية، وينزع مشاعر العبثية من الأفراد. ففي الوقت الذي قد تؤدي فيه العبثية إلى الانعزال والفردية، يبرز دور التربية في التقريب بين الأفراد بعضهم البعض من خلال تبني المناهج التربوية، والتفكير النقدي، والتشجيع على الحوار والتفاهم بين الثقافات المختلفة. وهنا تكمن أهمية التربية في التركيز على تنمية الهوية الفردية مع الحفاظ على الانتماء المجتمعي.

في الختام، فإن التربية تشكل جبهة قوية ضد العبثية، فهي تمنح الأفراد الأدوات اللازمة لفهم العالم من حولهم، وتعزز قدرتهم على مواجهة تحديات الحياة بثقة ووضوح. كذلك يمكن من خلالها تطوير الوعي الذاتي الذي يمكِّن الأفراد من تقييم مشاعرهم وآرائهم تجاه التقدم التكنولوجي. ويمْكِن أن ينتج عن هذا الوعي اتخاذ قرارات أكثر استنارة حول كيفية التعامل مع الذكاء الاصطناعي في مجالات الحياة المختلفة. ومن الأمور المهمة للتنمية المستدامة وعمارة الأرض تعزيز الإبداع والابتكار الذي قد تخلقه الخلوة التربوية الإيجابية؛ فهي توفر الفرصة لتحفيز التفكير الإبداعي، إذ يمكن للأفكار الجديدة أن تتولد بعيدًا عن الضغوط والتشتت.

ولعلنا نأخذ من أديبنا الراحل نجيب محفوظ المعنى المقابل للعبث وهو «الجدية» التي تعني الإيمان، ولكن الإيمان بماذا؟! فلا يكفي أن نعرف ما يجب أن نؤمن به، ولكن من الضروري أن يكون لإيماننا من الصدق ما يجعله قادرًا على صنع التأثير، وإلا كان نوعًا «جادًّا» من العبث. وكيف يكون التميز بلا جدية؟ وكيف يكون الإيمان بلا جدية، بل كيف تكون الحياة بلا الكثير من الجدية، والقليل من العبث؟

كما أن الخلوة مع النفس ليست مجرد وسيلة للاسترخاء، بل هي أداة إستراتيجية تربوية تمكن الأفراد من مواجهة تحديات العالم الرقمي الجديد باستثمار هذه الأوقات من أجل التفكير والتأمل، يمكننا جميعًا أن نجد السبل المناسبة للتكيف مع عالم يسوده الذكاء الاصطناعي بعبثيته مع الحفاظ على قيمنا الإنسانية والمبادئ الأخلاقية؛ ذلك كله مع توفر المهارات اللازمة لاستثمار وقت الخلوة في ما ينفع الفرد ومجتمعه.

 

وحدة التقارير الدورية

قراءة (219)/تعليقات (0)