لا تزال منطقة الساحل الأفريقي ترزح تحت وطأة انتكاس الأحوال الاقتصادية، وكثرة الديون، والحروب الأهلية، وتجارة الأسلحة والمخدرات، والاتجار بالبشر، والأنشطة الإرهابية للتنظيمات المتطرفة. وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تفاقم حالة الفوضى، وعدم الاستقرار السياسي ببعض دول المنطقة، وازدياد معدل الهجرة غير الشرعية إلى القارة العجوز، الأمر الذي يُلقي بظلاله على الأمن القومي في هذه المنطقة، وفي الأقاليم المجاورة، وخاصة الأمن القومي الإسباني. وقد أثرت تلك الاضطرابات سلبًا في دول الساحل الأفريقي، وأربكت حساباتها وأولوياتها على المستويات كافة؛ بسبب التنظيمات الإرهابية —خصوصًا تنظيمي "داعش" و"القاعدة"— وهي تنظيمات تبنَّت إستراتيجية توسعية تكمن في كسب المزيد من الأراضي لضمان السيطرة على الحدود الجنوبية للقارة الأوروبية، محاولين بذلك الهروب إليها عبر بوابة إسبانيا الجنوبية، التي تعد نقطة الانطلاق إلى أوروبا للمهاجرين من دول شمال المغرب العربي، ودول الساحل الإفريقي. فلا عجب في أن يهرع كثير من مواطني تلك البلدان الذين لاقوا فيها ألوان الأذى، وذاقوا فيها الموت من كل طبق، إلى الأراضي الإسبانية المجاورة، ما يمثل تحديًا قويًّا أمام الدولة الإسبانية.
وفي هذا السياق، سلطت صحيفة "سيتي دياس يكلا" الإسبانية، في عددها الصادر يوم ٢٨ من إبريل ٢٠٢٤م، الضوء على الإحصائيات التي أجرتها وزارة الداخلية الإسبانية بشأن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى الأراضي الإسبانية حديثًا. ففي المدة من ١ من يناير إلى ١٥ من مارس ٢٠٢٤م دخل إلى إسبانيا 14,405 مهاجرين غير شرعيين عن طريق البحر، فيما وصل إليها في المدة نفسها من العام الماضي ٢٠٢٣م نحو 3,528 مهاجرًا غير شرعي فقط بالطريقة نفسها، ما يمثل زيادة كبيرة (٣٠٠٪). وحسب الصحيفة السابقة، فمن المتوقع أن يزداد الوضع سوءًا في السنوات القادمة، ما يجعله أحد أكبر المخاطر التي تواجهها إسبانيا. كما رصدت صحيفة "إل باييس" الإسبانية في ٢٧ من أغسطس ٢٠٢٤م، تفاقم النزاع في مالي بشدة في السنوات القليلة الماضية، ما أدى إلى دفع أعداد متزايدة من اللاجئين نحو جزر الكناري. ومنذ وصول الحكومة العسكرية إلى السلطة ازدادت حدة العنف، وأثرت أيما تأثير في الأوضاع الإنسانية في المنطقة. وفقًا للبيانات الأحدث التي نقلتها الصحيفة، بلغ عدد اللاجئين والمشردين داخليًّا في غرب ووسط إفريقيا 13.7 مليون شخص حتى يوليو ٢٠٢٤م، وهو ما يمثل زيادة بنسبة ٢٥٪ مقارنة بالعام الماضي ٢٠٢٣م.
وفي ظل هذه الأحداث المضطربة التي أدت إلى تزايد عمليات الهجرة غير الشرعية إلى إسبانيا، وتزايد ضحاياها وتأثيراتها، تسعى الحكومة الإسبانية إلى اتخاذ حزمة إجراءات جديدة تهدف إلى الحد من هذه الظاهرة. وعليه تواصل إسبانيا التحرك في اتجاهات متعددة، منها ما هو على الصعيد الأوروبي كتنفيذ الاتفاقيات المعقودة من أجل تحديد حصص توزيع المهاجرين غير الشرعيين على الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي، وفرض عقوبات تقدر بعشرين ألف يورو عن كل لاجئ ترفض أن تستقبله إحدى الدول الأعضاء. إضافة إلى ذلك، دعت إسبانيا الاتحاد الأوروبي إلى تقديم مزيد من الدعم المالي المشترك لدول الساحل الإفريقي. وفي هذا الصدد، نقلت الصحيفة الإسبانية "تيلي برنسا" في ٢٩ من إبريل ٢٠٢٤م، اعتماد الاتحاد الأوروبي في اليوم ذاته تقديم مساعدة بقيمة ١٥ مليون يورو لتعزيز القوات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي ضد الجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية التي تزعزع استقرارها، وتفضي بمواطنيها إلى المخاطرة بأرواحهم، وإيراد أنفسهم موارد التهلكة من خلال الهجرة غير النظامية إلى أوروبا.
أما داخليًّا، فقد أبدَت إسبانيا استعدادها التام للإسهام في نشر مزيد من قواتها العسكرية داخل المنطقة، فضلًا عن مشاركتها في جميع البعثات المدنية والعسكرية للاتحاد الأوروبي في المنطقة، وهو ما يُظهر مدى أهمية منطقة الساحل في أجندة الدولة الإسبانية، سعيًا إلى حماية مصالحها الاقتصادية والأمنية معًا.
وعلى الصعيديْن الإقليمي والدولي، تسعى الحكومة الإسبانية إلى مواجهة الهجرة غير الشرعية من دول المنبع، وبحث سبل وآليات تنفيذ ذلك عن طريق التصدي لأجندة التنظيمات الإرهابية التوسعية داخل الإقليم، والسعي الحثيث لتحقيق الاستقرار في مناطق الصراع، والتعاون مع حكومات الدول بالمنطقة لمكافحة شبكات التهريب غير المشروعة المنتشرة في أراضيها.
وبناء على ما سبق، يثمن مرصد الأزهر لمكافحة التطرف المبادرات والقوانين الصادرة في هذا الشأن، ويدعو إلى حسن استقبال اللاجئين، وعدم وصمهم بالإرهاب، أو أخذهم بذنب تطرف منطقتهم وعدم استقرارها، وأن يكون التعامل معهم من منظور إنساني. كما يدعو إلى التآزر والتكاتف بين حكومات وشعوب منطقة الساحل الإفريقي، وتعزيز القدرات الأمنية والعسكرية لدول تلك المنطقة، وتدريبها على التصدي لتلك التنظيمات الإرهابية، وشبكات التهريب غير المشروعة؛ لمنع تفاقم الأوضاع، ولتفادي تبعات انتقالها إلى دول أخرى في إفريقيا، وللحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية.
وحين ينادي مرصد الأزهر بتزكية روح الجماعة بين شعوب وحكومات هذه المنطقة، فإنه يشدد في الوقت ذاته على ضرورة توعية مواطني هذه الدول بمخاطر الهجرة غير الشرعية، والوقوف على الأسباب التي تدفعهم إلى المخاطرة بأرواحهم من أجل مستقبل مجهول، وإيجاد الحلول البديلة لها. من أجل ذلك، يدعو مرصد الأزهر الحكومات والشعوب الإفريقية إلى النهوض بأعبائها، وصيانة مقوماتها، والاستفادة من مقدراتها، وتحقيق الإصلاح في كل الاتجاهات كي تنهض أوطانها نهضة واثقة تنقذها من وهدتها، وتخلصها من التبعية، وتقودها نحو الرقي والازدهار.
وحدة الرصد باللغة الإسبانية