بدأ القرآن الكريم حديثه عن الوسطية في سياق آيات تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وفي إطار الرد على شبهات المتطرفين فكريًّا، وأهل الأهواء الذين لم يكن لديهم وعي، أو إدراك لحقيقة الأفعال الإلهية، والأحكام الربانية، فقال تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([1]).
فكان الرد الإلهي بمثابة توجيه للعقول من العصبية والتطرف الفكري إلى الوسطية والاعتدال، وتوجيه إلى التأني في استقبال الحكم الإلهي، وعدم التسرع في الحكم على الخلق، ثم امتدح الله تعالى أولئك الذين رجحت عقولهم، وصح إيمانهم بالاتباع الصادق لأمر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمعنا وأطعنا، لأن الآمر عندهم واحد وهو الله سبحانه وتعالى، وإن اختلفت جهة القبلة، فلا يعني لهم الأمر شيئًا إلا الاتباع، فالجهات كلها من خلق الله، والتوجه إنما هو للأمر الإلهي، ليس لأي سبب آخر، فاستوى في قلوبهم الأمر والنهي، فقال الله تعالى عنهم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، أي: خيارًا عدولًا.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: "ولمّا جعل الله هذه الأمة وسطًا خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب"([2]) .
فجاءت الخيرية والوسطية في الزمان ببعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأن اختار الله تعالى له أوسط الأوقات، أي: أشرفها، فبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والوسطية في العبادات يسيرة على الذين هدى الله، عظيمة في الأجر والثواب، والوسطية في الأخلاق التي تمم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارمها، فما كان من خلق حميد أقره وتممه، وما كان من خلق ذميم أنكره وبيَّنه.
وبيَّن أصحاب التفسير وجهًا آخر للتطرف الفكري لدى السابقين مثل: حيي بن أخطب، وأصحابه من اليهود، حين قالوا للمسلمين: "أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هُدًى فقد تحولتم عنها، وإن كانت ضلالة فقد دِنْتُم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة"، فقال المسلمون: "إنما الهدى ما أمر الله به، والضلالة مانهى الله عنه".
قالوا: "فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة، وكانوا من النقباء، ورجال آخرون، فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى قوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. {إن الله بالناس لرؤوف رحيم}. ([3])
ومن خلال السياق القرآني لآيات الوسطية يتضح أن للوسطية في الإسلام مرتكزات ثلاث:
الأول: التأني في إصدار الأحكام على الخلق، وعدم التسرع في رمي الناس بالضلالة.
الثاني: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يلزم منه اتباع الأمر الإلهي، سواء تبينت الحكمة أو لم تتبين، طالما ثبت الأمر عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب الاتباع.
الثالث: إيمان هذه الأمة وسط لا غلو فيه ولا شطط: فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بأن جعلها أمة وسطًا لتتمسك بالوسطية، والاعتدال عقيدة ،وعبادة، وأخلاقًا. كما أن من أهم سمات هذه الأمة الوسطية في التفاعل الحضاري، وفي رعاية فقه الاختلاف، والحوار مع الآخر، والتعايش معه.
إجمالًا، إن حدث تحويل القبلة من المسجد الأقصى المبارك إلى المسجد الحرام درس عظيم تضمن العديد من الحكم الإلهية، منها: اختبار المؤمنين في طاعتهم لله ورسوله؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، ويبقي على من يستحق أن يوسم بأنه أحد أفراد الأمة الوسط، كما جمع الله – جلّ وعلا – في هذا الأمر لرسوله وأمته بين التكليف والتشريف حيث الأمر بالتحوّل عن قبلة إلى المسجد الأقصى المبارك ذي المكانة العظيمة في نفوس المسلمين والرسول الكريم – صلى الله عليه وسلّم – إلى المسجد الحرام الذي تعلق قلب الرسول به ولطالما كان يقلّب وجهه في السماء ولسان حاله الدعاء والتضرع إلى الله أن يمكن لهذا الدين في جزيرة العرب، وأقدس ما فيها، بيت الله الحرام.
إن تحويل القبلة ليس مجرد تغيير وجهة للمسلمين في صلاتهم من جهة إلى أخرى؛ إذ "لله المشرق والمغرب"، بل هو حدث من الأحداث الفارقة في تاريخ الإسلام خلَّص الله – سبحانه وتعالى – من خلاله الدين، ونقّى أتباعه من بعض المتطرفين فكريًّا المتشددين في آرائهم، وكشف خبيئة المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام وفي باطنهم كراهية وبغض للإسلام والمسلمين، حتى صاروا أشد خطرًا على الدين ممن يعلنون له العداء، ورغم تحول المسلمين في صلاتهم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فإن القلوب والعقول ما زالت متعلقة بأولى القبلتين المسجد الأقصى الشريف، مبتهلة إلى الله أن يخلِّصه من دنس الاحتلال ويردسه إلى المسلمين ردًّا جميلًا عاجلًا غير آجل.
وحدة البحوث والدراسات
([1] ) سورة البقرة آية (142)
([2] ) تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله (4/10)
([3] ) تفسير الإمام البغوي رحمه الله تعالى (11/16)