22 أغسطس, 2016

التزام المنهج العلمي كأحد مرتكزات التقدم العلمي في الإسلام (3)

التزام المنهج العلمي كأحد مرتكزات التقدم العلمي في الإسلام (3)

7- من أسس منهج البحث العلمي في الفكر الإسلامي، طرح المسألة لاختبار الأفهام فيها لإثارة النشاط الذهني للسبق في الوصول لأفضل النتائج.

وقد أشار إلى هذا النهج قوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 31]، فكان هذا بمثابة اختبار للملائكة.

قال المبرد: معنى صادقين: عالمين، أي أخبروني إن كنتم عالمين بأسماء ما عرضته عليكم من المسميات، فكان جوابهم لا علم لنا بها لأنه لم يكن لهم سبق علم فيها فتوقفوا، بينما فاز بالجواب آدم عليه السلام لسبق علمه بها، بإلهام الله تعالى له، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31].

واستنبط القرطبي من الآية مبدأ علميا سديدا، وهو أن من سأل علم فلم يعلمه، أن يقول الله أعلم، أو يقول لا أدري، اقتداء بالملائكة في هذا الموضع([1])، لأن من أجاب فيما لم يعلم لا يُؤمن صدقه ولا آمانته في العلم.

وفي السنة مارواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»([2]).

فالشاهد في الحديث: قوله: "فوقع الناس في شجر البوادي"، وهو إشارة إلى أن من طرحت عليهم المسألة ذهبت أفكارهم في أشجار البوادي، فجعل فكل منهما يفسر الشجرة بنوع منها، ما يرمز إلى أن التوصل إلى النتائج الصحيحة إنما يسبقه إثارة أذهان طلاب العلم بامتحانهم فيما يخفى عليهم، مع كشف الجواب لهم إن لم يفهموه، مما يساعد على استقرار المعلومة في الأذهان.

قال البغوي: "في الحديث دليل على أنه يجوز للعالم أن يطرح على أصحابه ما يختبر به علمهم"([3]).

8- تداول العلم ومناولته لتوسيع دائرة الاستفادة منه، فإبلاغ الناس بالعلم النافع، أصل من أصول المنهج الإسلامي، لما يتعلق به من نشر أمور الدين والدنيا، ولأن الإسلام رسالة عالمية فإن منهجه في بث معارفه للعالمين هو البلاغ والتلقي، أي الإفادة والاستفادة، ولن يكون ذلك إلا بتداول المعلومات عن طريق أدوات العصر العابرة للحدود، كالبث الفضائي وشبكات الاتصال الحديثة.

والشواهد القرآنية والأحاديث النبوية كل منها تشير بوضوح إلى أهمية تداول العلم ونشره بين الناس، لتحقيق الخير للبشرية، سواء كان علما نظريا أو تجريبيا، ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]. فالبلاغ هو نشر العلم بما أنزل الله للعالمين، ونقله من جيل إلى جيل، ليبقى الانتفاع به موصولا، ونظيره قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

ولن يتم تداول العلم إلا بأخذه من مصدره الأول ونقله إلى من بعده، ومن بعده ينقله للغير، وهكذا، وإذا كان ذلك هو الطريق في السابقين، فإن أدوات العصر يمكن أن تلعب هذا الدور للمعاصرين، وقد نبَّه الله عز وجل إلى هذا المبدأ فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

قال البغوي: الأمر عام في حق أهل زمانه ومن جاء بعدهم، ولا وصول لمن بعدهم إلا بالتبليغ([4])، أي أن قوله تعالى: { فَخُذُوهُ} خطاب لأهل كل عصر، أي يتداولوا العلم بالوسائل المعاصرة، ولذلك لما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم في الناس لينقل إليهم رسالة الإسلام قال: " فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ "([5])، وهذا الغائب بنقل المادة العلمية إليه صار شاهدا فيلزمه إبلاغ الغائب ممن بعده وهكذا، ولأن الإسلام دين عالمي فلابد أن تكون رسالته منفتحة على الآخرين للوقوف على النافع المفيد لتحقيق أقصى خير للمسلمين في أمور المعاش، تحقيقا لمقاصد الشرع في مصالح الخلق، أشار إلى ذلك قوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

قال القرطبي: هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم، ولأهمية البلاغ في أمور العلم حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على تحريك المعلومة للغير بعد تصورها ووعيها، فقال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»([6]).

قال الخطابي: فيه دليل على كراهية اختصار الحديث، أي العلم لمن ليس بالمتناهي في الفقه، لأنه إذا فعل ذلك قطع طريق الاستنباط والاستدلال، والمعنى المقصود أن الحديث ينبِّه إلى أن حبس العلم ووقفه على من سمعه فقط أو قصره على بحث معين في العلم التجريبي مثلا يؤدي إلى قطع الاجتهاد ووأد العلم، مما يؤدي إلى التخلف عن مواكبة العصر والوقوف عند القديم وعدم وصول العلم إلى آخر القرون من الأمة، وهو ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "...فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ". لأن المتلقي من السامع ربما يكون أوسع إدراكا وتصورا للمادة العلمية، وأقوى ملكة في التأمل والتحليل فيكون أنفع في البحث العلمي، وهو ما يستدعي وجوب نشر العلم وتداوله دون الإخلال بحق الملكية الفكرية.

فالنشر والتداول إنما يكون للنتائج ليبني عليها الآخرون بحوثهم واستنباطاتهم، ليبقى التواصل العلمي جيلاً بعد جيل.

وتشجيعا لهذا كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالنضارة لمن يناول العلم وينقله للآخرين، وإذا كانت النضارة حسن الوجه والبهجة، فالمراد بها هنا حسن الجاه والقدر في الخلق([7]).

في نفس الوقت حذر صلى الله عليه وسلم من سوء عاقبة من حبس العلم وأمسك عن الإخبار به وإظهاره، ففي رواية أبي داوود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([8]).

قال الخطابي: والمعنى "أن الملجم لسانه عن قول الحق والإخبار عن العلم والإظهار له يعاقب في الآخرة بلجام من نار"([9]).

9- من ملامح المنهج العلمي في الإسلام لتشجيع التقدم في العلم بكل توجهاته ومجالاته، الاعتراف بالفوارق الذهنية وتقدير النابهين وتشجيعهم ورصد المكافآت لإعانتهم على السير في البحوث العلمية لتحقيق أقصى خير للبشرية.

وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقوله سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

المعنى: أعطوا العلم لتعلقهم بأدواته وتطلعهم إلى البلوغ فيه مبلغا عظيما فإن من تعلق بشيء ناله. أخذا من تأتَّى له العلم، أي تسهل له وتيسر، مما يدل على تفاوت منازل العلوم، وتفاوت أربابها. ومنه قوله عز وجل: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].

قال الأصفهاني: فعلم يصح أن يكون إشارة إلى الإنسان الذي فوق آخر في العلم.

وهو ما يرمز إليه قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40].

قال الإمام الغزالي رحمه الله: هذه الآية تنبيه على أنه اقتدر على عرش بلقيس قبل تمام طرفة العين بقوة العلم، ولا غرابة في ذلك، لأن هذه الطفرة العلمية لمن عنده علم الكتاب إنما كانت بإلهام الله تعالى فاستعمل فيها قانون" كن فيكون"، وفي هذا أقوى إشارة إلى التفاوت في العلم وإلى الاعتراف بالفوارق الذهنية والترقي في الملكيات العقلية،كما أنه إشارة إلى أن المنهج العلمي في الإسلامي يتميز بأنه ذو طابع إيماني يقوم على جلب المنفعة ودرأ المفسدة ليقيم أمر الدين والدنيا معا، لأن مبناه على الحكمة والهدى للسعادة في الدنيا والآخرة، مصداقا لقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا»([10]).

 

 

([1])  تفسير القرطبي (1/329).

([2])  صحيح البخاري- كتاب العلم- بَابُ قَوْلِ المُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَأَنْبَأَنَا (1/22- رقم 61).

([3])  شرح السنة للبغوي (1/308).

([4])  شرح السنة (1/235).

([5])  صحيح البخاري (2/176- رقم 1741).

([6])  سنن أبي داود (3/322- رقم : 3660) المكتبة العصرية – بيروت.

([7])  شرح السنة (1/236).

([8])  سنن أبي داود (3/321- رقم : 3658).

([9])  معالم السنن (1/171).

([10])  سنن ابن ماجة (2/ 1395- رقم: 4169).

قراءة (2746)/تعليقات (0)

كلمات دالة: