13 مايو, 2025

الرؤية النقدية للسياسة الغربية في نصوص يورغن تودنهوفر.. تحليل لقضايا العدالة والحرب

الرؤية النقدية للسياسة الغربية في نصوص يورغن تودنهوفر.. تحليل لقضايا العدالة والحرب

     تُمثل نصوص الكاتب والصحفي الألماني يورغن تودنهوفر(·) إحدى أهم الأصوات النقدية في المشهد السياسي الغربي المعاصر، خاصةً في زمن كثرت فيه الانحيازيات الإعلامية، وتراجعت الموضوعية الأخلاقية في التعامل مع قضايا الحرب والعدالة، ونشير بداية أنه إلى جانب نقده الشامل للسياسات الغربية، فقد سعى يورغن تودنهوفر بجهود شخصية مباشرة -كما قال هو- لفهم جذور التطرف العنيف ومواجهته، في عام 2014م، حيث قام بمغامرة غير مسبوقة عندما دخل مناطق سيطرة تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق، كونه أول صحفي غربي يُسمح له بالدخول والبقاء لمدة 10 أيام؛ ففي رحلته الخطرة هذه، أجرى مقابلات مع مقاتلين وقادة محليين، موثِّقًا بالرصد المباشر طبيعة الحياة تحت حكم التنظيم، وأساليب تجنيدهم للشباب، وقد نشر لاحقًا خلاصة تجربته في كتابه الشهير "Inside IS – 10 Tage im Islamischen Staat"  ("داخل الدولة الإسلامية – عشرة أيام").

وفي هذا العمل الجريء أبرز تودنهوفر الفرق الكبير بين الصورة الإعلامية للدولة الإسلامية، والدعاية الداخلية للتنظيم، مؤكدًا أن الفهم الحقيقي للتطرف لا يمكن أن يتم عن بُعد أو عبر الخطابات الدعائية فقط، بل يتطلب المواجهة المباشرة والفهم العميق للسياق الاجتماعي والسياسي الذي يغذي تلك التنظيمات؛ فرؤية تودنهوفر لمكافحة التطرف تعتمد على تفكيك البيئة النفسية والاجتماعية التي تسمح بانتشار الفكر العنيف، وليس فقط على المواجهة الأمنية أو العسكرية التقليدية.    

وقد كتب مؤخرًا على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك في أبريل 2025م، عددًا من المنشورات، والتي تمثل شهادات حيَّة على ما يجري في العالم من ظلم وتناقضات، ونستطيع استكشاف رؤية نقدية متماسكة توجه اللوم إلى السياسات الغربية في عدة ملفات بارزة مثل: معايير العدالة، ودعم الحروب، والكيل بمكيالين في النزاعات، واستغلال الذاكرة التاريخية لمآرب سياسية.

وفي واحد من أبرز منشوراته، يلفت تودنهوفر الانتباه إلى ظاهرة ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا العنف، فيكتب: »العقوبة الشديدة التي صدرت بحق الشاب المسلم الذي ضرب زميله اليهودي حتى أُدخل المستشفى كانت في مجملها عادلة، ولكن، لماذا لا تصدر مثل هذه الأحكام القاسية عندما يتعرض الشباب المسلمون للضرب؟ وهو أمر يحدث يوميًّا«!، تأتي هذه الكلمات تعليقًا على حادثة مشهورة هزت الرأي العام الألماني؛ حيث اعتدى الطالب الفلسطيني مصطفى بعنف على زميل يهودي في جامعة برلين الحرة في فبراير 2024م، إثر جدال حول الصراع الفلسطيني، وقد أدى الاعتداء إلى إصابات خطيرة شملت كسورًا في الوجه ونزيفًا دماغيًّا، وأصدرت المحكمة لاحقًا حكمًا يقضي بسجن مصطفى لمدة 3 سنوات، معتبرة أن الجريمة كانت بدافع معاداة السامية، وهنا يطرح تودنهوفر سؤالًا جوهريًّا: لماذا لا تلقى الجرائم المرتكبة بحق المسلمين القدر نفسه من الاهتمام والصرامة القضائية؟ وهو يُثير بذلك قضية بنيوية تتعلق بالتحامل المؤسساتي، والانتقائية في تطبيق مبادئ العدالة، مما يضرب مصداقية القيم الغربية المعلنة.

وفي منشور آخر يسلط تودنهوفر الضوء على التناقض الغربي الصارخ تجاه الاحتلال وغزة؛ إذ يكتب: «تصف وزيرة الخارجية الألمانية بيربوك وعدد من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الحصار -الذي يقوم به الاحتلال- للمساعدات الإنسانية إلى غزة بأنه "غير مقبول ولا يمكن تحمله"، فلماذا إذن يواصلون تزويد -الاحتلال- بالأسلحة بل وتستعد ألمانيا قريبًا لتسليمها غواصة نووية؟«، وهو يبرز هنا تناقضًا صارخًا، ففي الوقت الذي يدين فيه الغرب الحصار الإنساني على غزة، يواصل دعم الاحتلال عسكريًّا وبسخاء، ويكشف تودنهوفر عن معادلة مأساوية؛ حيث إن الخطاب السياسي يتغنى بحقوق الإنسان، بينما الدعم الفعلي يُوجه لاستمرار الانتهاكات، فهذا التناقض يطرح أسئلة حول مصداقية الالتزام الغربي بالقانون الدولي، ويظهر أن الاعتبارات الإستراتيجية تغلب على القيم الإنسانية عندما تتعلق الأمور بحلفاء مثل الكيان المحتل.

ويصل تودنهوفر إلى ذروة نقده عند معالجته لمسألة استغلال الهولوكوست سياسيًّا، فينتقد تودنهوفر تصريحات رئيس وزراء الاحتلال، الذي قارن حركة حماس بالنازيين، قائلًا: «إذا كانت حركة -إرهابية- قتلت أكثر من ألف إسرائيلي تُقارَن بهتلر، فماذا عن نتنياهو الذي تسبب في مقتل أكثر من عشرين ألف طفل فلسطيني؟».  

وهنا نؤكد أن منشورات يورغن تودنهوفر تظهر أن الأزمات العالمية ليست مجرد انعكاس لصراعات قوى مادية، بل تجسيد لأزمة ضمير أخلاقي عميقة يعيشها الغرب الحديث؛ فهو يدعو بوضوح إلى مراجعة القيم المزدوجة، ومساءلة الذات عن الانحيازات والتناقضات بين الخطاب والممارسة، إنها رسائل تستحق الإصغاء، لا سيما في زمن أصبحت فيه المواقف الإنسانية الحقيقية نادرة وسط صخب المصالح والسياسات.

كما نبين أن موقف الصحفي والسياسي البارز "يورغن تودنهوفر" من القضية الفلسطينية أحد أبرز تجليات مخالفته للتيار العام في السياسة والإعلام الألماني، ففي الوقت الذي تميل فيه معظم الأصوات إلى دعم غير مشروط للاحتلال، وتتبنى خطابًا يركز بشكل أساسي على حماية أمنه بوصفها أولوية مطلقة، حيث يتبنى تودنهوفر موقفًا أكثر توازنًا ونقدًا؛ فهو لا يتردد في توجيه انتقادات حادة لسياسات الاحتلال تجاه الفلسطينيين، خاصة فيما يتعلق بالحصار المفروض على غزة، والاستيطان، وانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة.

كما يؤكد في كتاباته ومداخلاته أن الدفاع عن حقوق الفلسطينيين لا يعني بأي حال من الأحوال معاداة السامية، بل هو التزام أخلاقي بمبادئ العدالة والإنصاف، ولقد أثارت مواقفه هذه انتقادات حادة من بعض الدوائر السياسية والإعلامية داخل ألمانيا، ومع ذلك، يتمسك تودنهوفر بموقفه المبدئي، رافضًا الانصياع للضغوط، ومؤكدًا أن التضامن الحقيقي مع ضحايا الحروب والانتهاكات يجب أن يكون شاملًا وعابرًا للانتماءات القومية أو الدينية، وبهذا الموقف يُمثل تودنهوفر صوتًا أخلاقيًّا نادرًا في المشهد الألماني، يُعيد التذكير بضرورة تطبيق مبادئ حقوق الإنسان والعدالة الدولية بشكل متساوٍ على جميع الأطراف.

وحدة الرصد باللغة الألمانية

 

 


(·) يعد تودنهوفر من أبرز الأصوات المستقلة التي وثقت معاناة المدنيين في الحروب الحديثة، وساهمت في تقديم رؤية نقدية لواقع السياسة الدولية، وقد تم الاستشهاد في هذا المقال بآراء وتحليلات هذا الكاتب والصحفي الألماني المعروف بانتقاداته الجريئة للسياسات الغربية، وزياراته الميدانية لمناطق النزاع.

قراءة (6)/تعليقات (0)

1345الأخير