عقد الجامع الأزهر اللقاء الأسبوعي من البرامج الموجهة للمرأة، عن “جهاد النفس بعد الحج”، بحضور: د/ منال مصباح، أستاذ البلاغة والنقد بجامعة الأزهر، ود/ غادة البغدادي، مدرس الفقه بجامعة الأزهر، ود/ حياة العيسوي، الباحثة بالجامع الأزهر.
وخلال اللقاء، أوضحت د/ منال مصباح، أن الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فمَنْ أنعم الله عليه بهذه الفريضة فقد استكمل أركان الإسلام، ومن وَفَّقه الله لأداء هذه الفريضة فقد أتى من العمل أفضله؛ ففي الصحيحين: من حديث أبي هريرة: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور". فحري لمن وُفِّق إلى هذه الشعيرة أن يضطلع بآثارها الروحية وفيوضاتها الإيمانية، وحتى يكون للحج أثره في نفس صاحبه وسلوكه وإيمانه بعد الرجوع إلى بلده، فعليه بمجموعة من الآداب، منها: شكر الله على توفيقه على أداء هذه الشعيرة، والمحافظة على نقاء صحيفته؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". فمن رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر، وليعلم المرء أن أعدى أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أَمِنَهُ الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب". فجهاد النفس من أفضل أنواع الجهاد، والمسلم وهو يجاهد نفسه لا بُدَّ له من عُدَّة يتسلح بها، وأقوى الأسلحة التي يستخدمها المسلم في مجاهدة نفسه سلاحُ الصبر؛ فمن صبر على جهاد نفسه وهواه وشيطانه؛ غلبهم وكُتب له النصر والغلبة، وملك نفسه؛ فصار ملكًا عزيزًا؛ قال الله تعالى: {وَالَّذيِنَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهْدينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنِّ اللهَ لَمَعَ المُحْسنينَ}، وليعلم العبد أن الجنة حُفَّت بالمكاره، وأن النار حُفَّت بالشهوات.
وتابعت أستاذ البلاغة والنقد بجامعة الأزهر، أن مما يعين على تهذيب النفس ومجاهدتها سوء الظن بها؛ فإن الإنسان إذا ما عرف حقيقة نفسه لم يركن إليها، ولم ينقد لها، بل أساء بها الظن؛ قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}، وقد كان من وصايا الصديق -رضي الله عنه- للفاروق حين استخلفه: إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك، وكان ابن القيم رحمه الله يقول: لا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن الظن بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه. كما أن من أعظم أسباب الإعانة على المجاهدة: الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، والاستعانة بالصلاة.
من جانبها، ذكرت د/ غادة البغدادي، أن هناك طرقًا كثيرة لمجاهدة النفس، منها: معرفة الله عز وجل، ومعرفة صفاته وأسمائه؛ مما يترتب عليه محبته -عز وجل- وتقديره حق قدره، وهذا يُيسر طاعته تبارك وتعالى، ويحفز على السعي لعمل كل ما يرضي الله، وتجنب ما يسخطه، واستشعار نعمة الإسلام، والاستعانة بالله عز وجل؛ فنحن بشرٌ ضعاف لا حول لنا ولا قوة إلا أن يعيننا الله عز وجل، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم. يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليلِ والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم" [رواه مسلم في صحيحه]. ولقد طلب سيدنا يوسف -عليه السلام- العون من الله، وهو نبي ابن نبي، قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.
وأشارت مدرس الفقه بجامعة الأزهر، إلى أن معرفة ما عند الله من ثواب يكون له كبير الأثر في تيسير الطاعات وتجنب المحرمات؛ فتهون المشقة حين نعلم أن الله تعالى أعد لعباده المؤمنين من النعيم المقيم الأبدي في دار كرامته، ما لم تَرَ عينٌ قط مثله، ولم تسمع أذنٌ بوصفه، ولم يخطر على القلب تصوره، وأنه لا يعلم عظمته إلا الله تعالى؛ ففي الحديث القدسي : عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر” [رواه البخاري ومسلم].
وفي السياق ذاته، بيَّنت د/ حياة العيسوي، أن من أهم طرق جهاد النفس الاستقامة؛ فيجب على العبد أن يستقيم على طاعة الله وألا ينقطع عنها؛ فيعتصم بالسير على الطريق ولا يحيد عنه؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذين قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تتَنَزلُ عَلَيهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلاَتَحزَنُوا}. كما أن المداومة على الطاعة من علامات قبولها؛ فيجب مواصلة الطاعات حتى يشعر المرء بلذة العبادة، فلقد حذرنا الله تعالى أن نكون مثل الذي أذاقه الله حلاوة الإيمان وآتاه آياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ}. كما حذَّرنا ربنا سبحانه أن نكون مثل التي كانت تغزل طول يومها غزلًا قويًّا محكمًا، ثم آخر النهار تنقضه أنكاثًا، وتفسده بعد إحكامه؛ فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}، وحذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنْ ترك الطاعة بعد التعود عليها؛ فقال لعبد الله بن عمرو: "يا عبْد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل". وقد قال أهل العلم: إن من أعظم علامات الرد وعدم القبول، عودة المرء إلى قبيح الأعمال بمجرد انتهاء زمان الطاعة.