سيظل التاريخ شاهدًا على صراعات تندسّ في صفحاته كهمس عابر، لكنّ دويّها يتردّد عبر العقود، مُخلّفًا وراءه ندوبًا لا تُمحى. لعلّ "الحرب الإيرانية مع الكيان الصهيوني"، التي انبلجت فجأة في فجر القرن الحادي والعشرين، هي إحدى تلك الفصول التي سُجّلت قصيرة المدى، بيد أنها عميقة الأثر، لتُصبح من أعقد الصراعات التي شهدتها المنطقة. فما بين شهقة ليل وزفير فجر، تبدّلت خريطة التوازنات، وتحوّلت الأرض إلى حلبة صراع وجودي بين قوتين تكتنزان من أدوات القوة، بين ناعم وخشن، ما يكفي لإشعال محرقة إقليمية لا تُبقي ولا تذر. لكنّ تجلت الأقدار في خروج كلا الطرفين من هذه المواجهة الدامية، وهما يلوّحان براية النصر المزعوم، بينما الحقيقة أكثر قسوة وإيلامًا مما يتصوره أي منتصر. ولقد صدرت هذه الحرب كيف سطر الكيان المزعوم إرهابه الدولي، وفكره المتطرف الذي لوث به المنطقة بأسرها في بوتقة الشر المظلم. ولقد كشفت الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل عن وجه الكيان الحقيقي: آلة عسكرية متطرفة لا تعرف سوى لغة الدم والدمار، تستخدم أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والحرب الإلكترونية لضرب مقومات الحياة نفسها. ولكن وراء كل هذه القوة المادية، يختبئ خوف عميق من إرادة الشعوب وقدرتها على المقاومة.
لقد شنّ الكيان الصهيوني سلسلة من الضربات الجوية المتزامنة، استهدفت قلب العمق الإيراني. لم تكن هذه الضربات تقليدية بالمعنى العسكري المألوف، بل كانت تجسيدًا حيًّا لتطور مفهوم الحرب في العصر الحديث. ولم تكن الضربات الإسرائيلية على إيران سوى حلقة جديدة في سلسلة الجرائم الصهيونية التي تمتد لعقود. استخدم فيها الكيان الصهيوني أدوات العصر بلا هوادة، والتي ارتكزت على:
الذكاء الاصطناعي: في توجيه الضربات، مُحوّلةً الأهداف إلى نقاط رقمية تُصيبها القذائف بدقة فائقة، وتُقلّص هامش الخطأ البشري إلى حدّ العدم. ولقد حوّلت إسرائيل التكنولوجيا الحديثة إلى أداة قتل دقيقة، تستهدف البشر والحجر بلا تمييز، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية.
الحرب الإلكترونية: التي اجتاحت الأجواء الإيرانية كعاصفة صامتة، اخترقت أنظمة الدفاع الجوي، وأعمت عيون الرادارات، وأبقت المجال الجوي مفتوحًا أمام الأهداف المحددة. ولقد شلّت الأنظمة الحيوية الحديثة، في سابقة خطيرة تهدد أمن العالم أجمع.
الاغتيالات الدقيقة: التي طالت نخبة من القادة العسكريين والعلماء البارزين، في محاولة لضرب عصب القدرة الإيرانية وتقويض ركائزها البحثية والعسكرية. لقد مثّلت هذه الاغتيالات جانبًا من الإرهاب الدولي الذي مارسه الكيان الصهيوني، متجاوزًا كل الأعراف والقوانين الدولية.
حرب الجواسيس: لقد ركز الكيان على شراء ثلة من الجواسيس للوصول إلى أهداف دقيقة وضربات موجعة، ولكن سرعان ما توقف الأمر. وقد أضاف هذا الجانب بعدًا آخر لاتهامات الإرهاب الدولي الموجهة ضد ممارسات الكيان.
لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هنا: هل كانت هذه الضربات كافية لحصد "النصر المنشود"؟ الواقع المرير يهمس بأن الكيان قد وقع في شرك المبالغة في تقدير عضلاته، والتقليل من شأن خصمه الذي أثبت قدرة على التكيّف والصمود.
تكاليف الحرب
على المستوى العلمي: فقدت إيران خسائر لا تُعوّض باغتيال عشرات العلماء النوويين، مما يترك فراغًا عميقًا قد يستغرق أجيالًا لملئه، ويُفرغ القدرات الإستراتيجية من محتواها العلمي الثمين.
على المستوى المادي: تحوّلت البنى التحتية الحيوية إلى ركام، تحتاج الي وقت وإمكانيات اقتصادية هائلة لإعادة الإعمار، مما يُثقل كاهل الاقتصادات المنهكة بالفعل، ويُعيق مسيرة التنمية والازدهار.
على المستوى الإستراتيجي: كشفت هذه المواجهة عن نقاط الضعف الكامنة في درع كل طرف، أمام خصومهم وأعدائهم على حد سواء، مما قد يفتح شهية لدول أخري لاستغلال هذه الثغرات، ويُدخل المنطقة في دوامة جديدة من التوترات.
ضحايا أبرياء: دماء الأطفال والنساء والشيوخ تلطخ يد الكيان.
تأجيج التطرف: جرائم إسرائيل تزرع بذور الكراهية للأجيال القادمة.
الدرس الأكبر: خطر التطرف الصهيوني على العالم.
الدرس المستفاد: حرب لا تعرف الحدود
لقد كشفت هذه المواجهة عن عدة حقائق جيوسياسية فكرية جوهرية، ربما كانت الأكثر إيلامًا وواقعية:
أن عصر الحروب التقليدية قد ولى إلى غير رجعة، وأن الصراعات المستقبلية لن تُحسم فقط بالقوة النارية المباشرة، بل ستعتمد بشكل متزايد على أبعاد جديدة كالتكنولوجيا المتقدمة، والحرب السيبرانية، والعمليات الاستخباراتية المعقدة، وحرب الإشاعات.
أن التحالفات الإقليمية والدولية هي التي تحدد ميزان القوى الحقيقي، وأن أية قوة منفردة، مهما بلغت من قوة، لا يمكنها تحقيق نصر مستدام أو فرض هيمنة دائمة بمعزل عن دعم حلفائها وشبكة علاقاتها الدولية.
لقد كانت الادوات الإلكترونية الخبيثة صنيعة الشيطان بمثابة تدمير للبشرية والأخضر واليابس فقد تم استعمال الذكاء الاصطناعي والتقدم التكنولوجي في تدمير الإنسانية.
إسرائيل ليست دولة عادية، بل مشروع إرهاب دولي منظم.
التكنولوجيا في يد الكيان أصبحت سلاح دمار شامل.
الصمت الدولي يشجع على المزيد من الجرائم.
المقاومة هي السبيل الوحيد لمواجهة هذا الخطر الداهم.
سلام هش على بركان خامد
إن وقف إطلاق النار الحالي، الذي يسود المنطقة، لا يعدو كونه هدوءًا زائفًا، أشبه بالسكينة التي تسبق العاصفة الكبرى. فكلا الطرفين يعيد ترتيب أوراقه، ويُعدّ العدة لجولة جديدة قد تكون أكثر دموية وخرابًا، تحمل في طياتها بذور تصعيد لا يمكن التكهن بعواقبه. السؤال الذي يبقى معلقًا في الأفق، ويُلقي بظلاله الثقيلة على المستقبل: هل ستتعلم القوى الإقليمية من هذه التجربة المريرة والدرس القاسي، أم أننا محكومون بحتمية صراع أبدي في هذه المنطقة المضطربة التي لا تعرف للسلام معنى؟
إن العالم أمام مفترق طرق: إما أن يقف ضد هذا الإرهاب المنظم، أو ينتظر حتى يصل الدمار إلى عقر داره. المدنيون يدفعون الثمن، والشعوب تنتظر العدالة. فهل من مستجيب؟
في النهاية، يرى مرصد الأزهر أن المدنيين الأبرياء يبقون الخاسر الأكبر في هذه المعادلة المعقدة؛ يدفعون ثمن صراعات النفوذ والهيمنة بين القوى الكبرى في واحدة من أكثر مناطق العالم توترًا واضطرابًا. فهل يمكن لصوت العقل والحكمة أن يعلو فوق ضجيج المدافع وقرع الطبول قبل أن يُبتلع الجميع في هوة العدم؟