بين تكاملية الأزهر و"صدامية" صراع الحضارات
في عام 1993 نشر الأكاديمي الأمريكي الشهير، صامويل هنتنجتون، مقالته الشهيرة بعنوان: صراع الحضارات، والتي طوّرها فيما بعدُ إلى الكتاب المعروف، والذي حمل نفس الاسم: "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي".
الأُطروحة تتنبّأ بأن الاختلافاتِ الثقافيةَ بين الشعوب هي التي ستكون المحرك القادم للحروب، وليس مجرد فكرة الدول القومية والأنظمة السياسية.
تلقّفت بعض المنظمات السياسية الدولية التي تعيش على الصراعات وتبني اقتصادها من الحروب هذه الأطروحة؛ لتكونَ نقطةً جديدة لانطلاق سياساتها المتطرفة في زرْع الفُرقَة بين الشعوب، أو فلنقل: لتَعميقها؛ للوصول للنتيجة المحتومة التي تنبّأت بها الأطروحة.
واليومَ، يواجه العالم موجاتٍ إرهابيةً على أكثرَ من صعيد، وفي مناطقَ مختلفةٍ، تَتزايَد معها أعدادُ المنكوبين واللاجئين، الذين يُشَكِّلون معادلةً صعبة أمام الجهود الدولية الرامية للإصلاح، وصُعودًا قويًّا لليمين المتطرف في أكثرَ من مكانٍ في العالم، وتَسارُع مُعَدَّل الحروب، وبالتالي: فالعالم يعاني أزمةً حقيقية تدعو حكماءَ العالم للتحرك الفوري؛ لوقف شلالاتِ دماءٍ قد لا تنتهي.
في هذا الوقت العصيب يظهر الأزهر الشريف وبقيادة إمامه الأكبر؛ ليؤسّسَ لمنهجٍ عالميّ نظريّ وعَمَليّ يدعو لنَبْذ ثقافة الصراع وتَبَنّي ثقافة التكامل، فعلى مدار ثلاثة أيام عقد الأزهر ندوةً دولية متميزة حملت عنوان: "الإسلام والغرب.. تنوُّعٌ وتَكامُل"؛ في محاولةٍ لبناء الجسور ليس فقط بين الإسلام والمسيحية، وإنما بين الشرق والغرب، باعتبارها ثنائية طالما اعتبرها البعض وَقودًا للصراعات.
لم تكن هذه الندوة المتميزة هي الخطوة الوحيدة في هذا الصدد، ولا يمكن اختزال مجهود الأزهر في هذا الشأن في ندوة واحدة استمرت لمدة ثلاثة أيام، لكننا بالفعل نتحدث عن منهجٍ مُتكامِلِ الأركان لمواجهة ثقافة صراع الحضارات، وقد ارتكز هذا على أكثرَ من ركيزةٍ يمكن إجمالها فيما يلي:
أوّلًا: مشروع حوار الشرق والغرب
وهو المشروع الذي أطلقه الإمام الأكبر بصفته شيخ الأزهر الشريف ورئيس مجلس حكماء المسلمين، وهو يُعَدّ النَّواة الأساسية لمفهوم التعددية والتكامل بين الشرق والغرب، ففي الاجتماع الأول لجولات حوار حكماء الشرق والغرب، في جمعية "سانت إيجيديو"، أعرب فضيلة الإمام الأكبر عن هذه الأمنية، ولن نتحدث هنا طويلًا، بل فقط سنقتبس من كلام فضيلته في هذا الاجتماع حيث قال: "إن هذا العمل الذي نشهد اليوم أولى حلقاته، ولا ندري شيئًا عن بقية مراحله، كان فكرةً مُجَرَّدةً في عالم الأحلام والأماني، حين زارني في منزلي، بحيّ مصرَ الجديدةِ بالقاهرة، أصدقاؤنا القدامى؛ الأب/ فيتوريو يناري، والأستاذة/ باولا بيتزو، والسيد/ أندريا ترتيني، منذ عامٍ أو أكثر، وكان الحديث فيها يدور حول موضوع «حوار الأديان والحضارات»، ومدى تأثيره في العَلاقة بين الشرق والغرب، وهل آتى ثمارَه المرجوّة في التقريب بين الحضارات، أو تخفيف التوتر والاحتقان في عَلاقة كلٍّ منهما بالآخَر، بعد أن آلت هذه العَلاقة في الآونة الأخيرة –وبكلِّ أسفٍ-إلى عَلاقةِ صِراعٍ مُخيف"، ثم قال فضيلته: "أعتقدُ أنَّ هذه العناصرَ المُتداخلة بين الشَّرق والغرب، والتي تتمثَّلُ في تَبادُلِ العناصر العلمية والثقافية والفنية بين الحضارتين، ربما تُشَكِّل أرضيةً مشترَكة تساعد في بناء تقارُبٍ حضاريّ، يقوم على التكامل وتَبادُل المنافع، وترسيخ مبادئ الديموقراطية والحرية وحَقِّ الإنسان الشرقي – مثل أخيه الغربي- في حياةٍ آمِنةٍ كريمة".
ثانيًا: نبذ الخلافات الشخصية ومدّ يد التواصل مع الآخَر
في وقتٍ سابق، وقعت بعض الخلافات بين الفاتيكان والأزهر بعد موقف بابا الفاتيكان الأسبق، "بينديكت السادسَ عشرَ"، لكن مع قدوم فضيلة الإمام الأكبر، رأى أنه لا مكان في ظل هذه الظروف لمثل هذا الانقطاع، فكان أن زار بابا الفاتيكان بمبادرة شخصية من فضيلته، وهي الزيارة التي أعقبتها زيارةٌ أخرى من قداسة البابا في مؤتمر السلام العالمي، ولم تكن هذه الزيارات مُجَرَّدَ زيارةِ رجلِ دينٍ لرجلِ دينٍ آخَرَ، وإنما تمثيلٌ عَمَليٌّ للقيَم التي يُنادي بها الأزهر من التسامح والمحبة، وقَبول الآخَر.
ثالثًا: بناء أرضية من الشباب الذي يحمل همّ هذا التواصل الحضاري
لم يرغب فضيلة الإمام الأكبر أن يكون هذا الطرح الذي يتبنّاه مجرد محاضرات علمية تُلقى في ندوات، وتكون حبيسةَ الجدران، ولكنه أراد نقل هذا العمل إلى الإطار الحَرَكي الشبابي؛ بهدف بناء أرضيّةٍ شابّة من الشرق والغرب، تحمل هذه الشعلة على أمل أن تضيءَ بها ظلمات المستقبل الغامض.
في هذا المضمار، عقد الأزهر الشريف، بالتعاون مع مجلس الكنائس العالمي، "الملتقى الأول للشباب المسلم المسيحي"، والذي عُقد في الأزهر الشريف، وشارَكَ فيه خمسون شابًّا يُمَثِّلون الإسلامَ والمسيحية، لكنهم من مناطقَ مختلفةٍ من الشرق والغرب، ولم تكن مجرد محاضرات، بل تخللتها وِرَشُ عملٍ تَفاعُليّة؛ بهدف إذابة الجليد، وتحقيقًا للتقارب بين هؤلاء الشباب.
تَكَرّر الأمر مرّةً أخرى في الأشهر القليلة الماضية؛ حيث عقَد الأزهر الشريف، بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين وأسقفية كانتربري، "منتدى شباب صُنّاع السلام"، والذي جَرَتْ فعالياته في جامعة كامبريدج، ولم يكن مجرد ندواتٍ علمية، بقدر ما كان حلقاتِ عملٍ تفاعلية.
ولا نُجاوز الحقيقة إن قلنا: إن هذا كلَّه إنما هو مجرد لمحاتٍ للمحطات البارزة في مشروع التنوع والتكامل، الذي يطرحه الأزهر، بقيادة الإمام الأكبر، الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب؛ وبالتالي: فهو مشروعٌ متكامل بُذلت فيه جهودٌ مضنية –ولا تزال- بهدف نقله من الإطار النظري إلى الإطار العملي.
إن ما يريده الأزهر هو أن تتحمّل القيادات العالمية مسئوليّتها في دعم هذا المشروع البَنّاء؛ فإذا كانت نظرية "صراع الحضارات" قد لاقت قَبولًا ودعمًا لدى بعض الكِيانات، فإن المسئولية الإنسانية الأخلاقية تُلزِم الجميعَ أن يؤمنوا بنظرية التكامل والتنوُّع، التي لا مَناصَ لنا منها، خاصّةً أنها تُثير لدينا فِطرةً إلهية، خَلقَها اللهُ فينا؛ ألَا وهي فطرة التعارُف، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" {49الحجرات: 13}
وحدة الرصد باللغة الإنجليزية
8814