المؤسسة المتكاملة ورفعة الإنسانية.. دور الأزهر الشريف في أزمة "تغير المناخ" أنموذجًا
يربط جميع الديانات السماوية هدف أصيل وهو رفعة الإنسانية، وقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من أجل إعمار الأرض وتطويرها ووضع البيئة والمخلوقات الأخرى أمانة بين يديه، وفي الأعوام الأخيرة يعصف بعالمنا كثير من المشكلات والظواهر التي لم يكن لها وجود في عصور سابقة، وتتباين هذه المشكلات من حيث خطورة آثارها السلبية على العالم أجمع، وقد أصبح هناك حاجة مُلحة لتدخل المؤسسات الدينية المؤثرة من أجل الوصول إلى حلول لها والمساعدة في اجتثاثها من جذورها.
وقد أدرك الأزهر -بوصفه مؤسسة دينية عالمية- دوره في مجال المحافظة على البيئة، وذلك بعدما ظهرت الكوارث الناتجة عن إساءة الإنسان التعامل معها، وطرأت مؤخرًا تغيرات على أولويات قادة الأديان حول العالم، حيث شمل خطابهم قضايا أخرى إضافة إلى الدعوة إلى الإخاء والحوار ونبذ التعصب والعنصرية، مثل الدعوة إلى الاهتمام بقضية التغيُّر المناخي وعلاقة الدين بها والتحذير من مخاطر إهمال هذه المشكلة.
وفي هذا السياق، وضع الأزهر الشريف خلال الفترة الماضية رؤية جديدة وشاملة تعمل على إظهار رسالة الإسلام الوسطية السمحة في جميع أنحاء العالم، وتصحيح المفاهيم المغلوطة المثارة حول الإسلام والتي ربطت بين الإسلام والإرهاب، بالإضافة إلى مناقشة المشكلات العالمية.
كما وُجد الأزهر بشكل فعال في عدة محافل دولية، وعمل على مَدِّ جسور التواصل مع العالم الخارجي، وقام شيخ الأزهر بزيارات خارجية متعددة؛ لإيصال رؤية الأزهر، وبيان موقفه من قضايا عالمية مُلحَّة من بينها مكافحة التطرف والإرهاب ونشر ثقافة السلام، بالإضافة إلى التوعية بمخاطر التغير المناخي من منطلق أن الدين له تأثير كبير على تغيير السلوك البشري.
كما اهتم فضيلة الإمام بالتعليق على الحوادث أو الآثار المترتبة على تغير المناخ، من بينها التغريدة التي كتبها في حسابه على تويتر، تعليقًا على الفيضانات غير المسبوقة التي شهدتها عِدّة دول وارتفاع درجة الحرارة القياسي في مناطق أخرى، ووصف هذا الأمر بأنه "بمثابة ناقوس خطرٍ يؤكِّد ضرورة التحرك الجاد والحازم لمكافحة مخاطر التغير المناخيّ، وحماية مستقبل البشرية من هذا الخطر الحقيقي"، ويأتي هذا الموقف من منطلق اهتمام المؤسسة العريقة بمخاطر التغير المناخي وبذلك تزاحم المؤسسات الدينية الكبرى في جميع العالم في مواكبة التغيُّرات التي تطرأ على الساحة العالمية.
وبعد عودة العلاقات بين الأزهر والفاتيكان، بدأت حقبة جديدة من العلاقات التعاونية بين المؤسستين اللتين يرأسهما رمزان مهمان يشغلهما الشأن الإنساني بوجه عام، وأصبح ذلك جليًّا في المناسبات التي جمعتهما على مدار السنوات القليلة الماضية، وفيما يخص قضية تغير المناخ استضاف الفاتيكان في أكتوبر 2021م أعمال قمة "قادة الأديان" التي جاءت تحت اسم قمة "الإيمان والعلم"، وحضر القمة عدد من ممثلي الأديان والطوائف الدينية على مستوى العالم.
وجاء على رأس القادة الدينيين بابا الفاتيكان البابا فرانسيس، والإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، باعتباره مُمثِّلًا عن المسلمين السُنَّة في العالم، بالإضافة إلى كبار العلماء وكبار القادة الدينيين من ممثلي كافة الطوائف الدينية الأخرى، وقد وقَّع هؤلاء القادة على نداء مُشترَك وُجِّه إلى حكومات العالم قبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة السادس والعشرين لتغير المناخ (COP26) الذي عُقد في الفترة من 1 إلى 12 نوفمبر في مدينة "جلاكسو" الاسكتلندية، وجاء النداء تحت عنوان "لقد ورثنا بستانًا.. يجب ألا نتركه صحراء لأبنائنا".
وسلط النداء الضوء على تعميق الجهود التي تبذلها المؤسسات الدينية المختلفة لإحداث تغيير في قناعات أتباعهم تجاه مخاطر البيئة وتغير المناخ، كما أكد النداء على إشراك أتباع الديانات المختلفة مع جيرانهم لبناء مجتمعات مستدامة ومرنة وعادلة.
وناشد النداء دول العالم لتحقيق مستوى الانبعاثات صفر في أقرب وقت ممكن، والضغط على الدول الغنية من أجل تحمل الجزء الأكبر من المسئولية، والقيام بتغييرات جدية لحماية البيئة، وتقديم مساعدات مالية لدعم الدول الفقيرة للتأقلم مع تغير المناخ، وقد مثلت هذه القمة تطورًا واضحًا للدور المنوط بالمؤسسات الدينية الكبرى فيما يخص القضايا التي تؤرق العالم، والتي تحتل قضية التغييرات المناخية مكانة كبيرة فيها ولم تعد الحكومات وحدها مسؤولة عنها.
وفي سياق متصل، نظمت جامعة الأزهر مؤتمر "تغير المناخ .. التحديات والمواجهة"، من 18 إلى 20 ديسمبر ٢٠٢١م، برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي وبحضور فضيلة الإمام الأكبر الذي أشار في كلمته إلى أن "التقدم المادي الذي تميز به القرن الماضي لم يُواكبه تقدم مواز في المجال الخلقي الإنساني".
ومن المؤكد أن التقهقر الخلقي قد أدى بطبيعة الحال إلى الإضرار بالبيئة وعدم احترام قدسيتها، وهو الأمر الذي يلقي بظلاله على مسألة تغير المناخ وتبعاتها الكارثية، وقد أعلنت جامعة الأزهر عام ٢٠٢٢م "عامًا للمناخ والبيئة" ووضعت أجندة متكاملة لرفع الوعي بضرورة الحفاظ على البيئة بين طلاب الجامعة وجميع من ينتسبون إليها.
وتناولت جلسات المؤتمر الرئيسة مسألة دور القيادات الدينية والروحية في قضايا التغييرات المناخية ودور المؤسسات الدولية في قضايا التغيرات المناخية بالإضافة إلى دور الدول في قضايا التغيرات المناخية.
ومن المؤكد أن علاج هذه القضية الشائكة لن يتم بين عشية وضحاها؛ لما لها من أبعاد كثيرة ومتداخلة، غير أنه وجب التنبيه إلى أن هذا الكوكب أمانة الله لنا جميعًا بصرف النظر عن أية معتقدات أو اعتبارات أخرى، وتلزمنا معتقداتنا الدينية بأن نتحرك من أجل إنقاذ عالمنا من بطش التقدم المادي وطيش الإنسان ورغبته العمياء في سيادة البيئة، ويجب أن ندرك أن القيادات الدينية الكبرى وحدها لا تستطيع إيجاد حلول جوهرية لهذه الكارثة، فالأمر يرجع إلى دول وحكومات من شأنها اتخاذ قرارات بعينها والتخلي عن أساليب وممارسات تضر البيئة وذلك بهدف إنقاذ الكوكب، وتجدر الإشارة إلى أن الأزهر الشريف عبر مؤسساته المختلفة، دقَّ ناقوس الخطر؛ حتى تضطلع المؤسسات المعنية بمكافحة التغيُّر المناخي بدورها، وإذا خاطبنا المسلمين كَفِئةٍ بحدِّ ذاتِها، فيجب أن نذكِّرَهم بسُنَّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يمثل نموذجًا يحتذى به في التعامل مع البيئة واحترامها، كما أكد القرآن الكريم في مواضع عدة على احترام الإنسان لبيئته وكافة مخلوقات الله التي تشكل جميعها الكون الواسع الذي استخلف الله الإنسان عليه وقال الله تعالى في سورة الأنعام: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}.
وحدة الرصد باللغة الإنجليزية
1346