على وقع تصعيد عملياته .."داعش" غرب إفريقيا يهوّل المشهد بإصدار مرئي
تسعى التنظيمات المتطرفة من خلال أذرعها الإعلامية إلى بث سمومها والترويج لادعاءاتها الكاذبة، وتحاول الاستفادة من تلك الآلة لتحقيق أغراض خبيثة؛ أبرزها استقطاب أكبر عدد ممكن من الشباب للانضمام إلى صفوفها، ولتحفيز مقاتليها على الاستمرار والبقاء تحت لوائها من ناحية أخرى، من خلال عرض مشاهد توثق عملياتها الإجرامية وتصويرها على أنها فتوحات إسلامية على حد زعمها. ولا يتوقف دور الآلة الإعلامية لدى تنظيمات الدم والإرهاب عند هذا الحد فحسب، بل تسعى من خلالها إلى استعراض القوة والنفوذ وتحدي الحكومات وكل من يناهض فكرها، وكأنها تحاول إثبات ذاتها مما قد يكون له تأثير سلبي في نفوس القوات الأمنية أو حتى المواطنين، لما يرون من مشاهد عنيفة من خلال المنصات الإعلامية التابعة لهذه التنظيمات مما قد يأذن بحرب نفسية طويلة المدى.
تحت عنوان: "كتاب يهدي وسيف ينصر"، سجل تنظيم "داعش" الإرهابي ولاية غرب إفريقيا مقطع فيديو، دار محتواه حول استعراض نشاطات وتحركات وعمليات التنظيم الإرهابي ضد الجيش النيجيري، كما صور المقطع جانبًا من النشاطات الدعوية التي قام بها أعضاء تنظيم "داعش" الإرهابي لحث الناس على القتال، وذلك لتصدير رسائل أيديولوجية، وتوجيهات سلوكية وصور دعائية براقة تُسهم بدورها في استبدال أصول فكرية، ومُعتقدات، وسلوكيات بغيرها.
وافتتح الإصدار الذي بلغت مدته 39 دقيقة، بعبارة "استعطاف واستمالة" مزيلة بصور لعناصر التنظيم الإرهابي والذين قُتلوا في أثناء المواجهات، مع دمج نشيد حماسي، مفادها أن راية التوحيد ما قامت ولا رفرفت إلا على أشلاء هؤلاء الأبطال – بحسب الإصدار – ثم انتقل الإصدار ليصور عمليات التنظيم الإجرامية ضد مقاتلي الجيش النيجيري العزل وإحراق ثكناتهم العسكرية في ولايتي "برنو" و"يوبي" شمال شرق البلاد. ويهدف تنظيم "داعش" الإرهابي من بدأ المقطع بخطاب "الاستعطاف والمظلومية" أولًا بأن مقاتليه دفعوا ثمن حياتهم مقابل الدفاع عن دين الله – وفقًا لما جاء في الإصدار -، ثم خطاب "العنف" ثانيًا وذلك بتصوير تمرد التنظيم ومدى وحشيته من خلال مشاهد الإعدام الميدانية، وتحطيم الرؤوس بالحجارة، والإحراق، ليُبرر الأول ما يتم ممارسته في الثاني من وحشية وترهيب. كما حمل الإصدار عددًا من الرسائل التي تشير إلى وضع التنظيم الحالي من التقهقر والتقوقع خاصة بعد الخسائر التي تكبدها التنظيم الإرهابي بعد موجة الانشقاقات واستسلام بعض المقاتلين والتناحر بينه وبين جماعة "بوكو حرام".
ثم انتقل الإصدار ليعرض كلمات لبعض عناصر التنظيم الإرهابي لحث الناس على القتال واللحاق بركب من سبقوهم، تخللها لقطات من الهجمات على القواعد العسكرية وصور عديدة لجثث ملقاة على الأرض. ومما جاء فيها ما قاله الإرهابي "أبو ثابت البرناوي": "أيها المسلمون! لما تناهى إلينا أمر الله بأداء فريضة الجهاد، امتثلنا أمر ربنا وشرعنا في السعي لأدائها مستعينين بالله، غاضين الطرف عن مشاقه ومتاعبه من القتل والأسر والبتر والكسر، سنستمر بإذن الله حتى ننشر التوحيد ونمحو الشرك، ونحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، قال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله"، وسنبقى بإذن الله ماضين في جهادنا حتى نحكم بشرع الله في الأرض ونطبق الحدود ونحفظ للمسلمين دينهم وأنفسهم، وأعراضهم وأموالهم وعقولهم، وحتى ننتصر للمستضعفين ونفك أسرى المسلمين، وننتقم من الكفرة المرتدين، قال تعالى: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا"، وقال صلى الله عليه وسلم: "فكوا العاني". فهذه غايتنا ومقاصد جهادنا، وسنواصل بإذن الله حتى نحققها أو نهلك دونها". ثم عرض الإصدار صورًا لكميات من الأسلحة والذخائر التي استولى عليها عناصر التنظيم في أعقاب الهجوم، موضحًا حجم الدمار الذي لحق بالقواعد العسكرية، ورفع راية التنظيم، فيما يبدو أنه محاولة لرفع الحالة المعنوية لدى عناصره، والإعلان عن نفسه وأنه نجح في تنفيذ مخططاته وصد محاولات القوات الأمنية للقضاء عليه.
من ناحية أخرى، صور تنظيم "داعش" نفسه على أنه نموذج يُحتذى به في تطبيق الشريعة الإسلامية، من نشر التوحيد، والدعوة إلى الله في المساجد والقرى والأرياف، وتطبيق العدالة الاجتماعية والمعاملة الحسنة وفق الكتاب والسنة، تجاه النساء والأطفال والكهول والفقراء، وغيرهم من الفئات المُستضعفة. فادعى من خلال الإصدار المرئي أنه لم يتوان عن تأسيس الدواوين الشرعية في غرب إفريقيا، منها ديوان الحسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإرشاد الأمة وتوجيهها إلى ما فيه خيرها وصلاحها وتحذيرها مما فيه ضررها. كما أسس ديوان المحكمة الشرعية لإقامة الحدود وتطبيق شرع الله وتنفيذ حكم الردة على من ارتد. كذلك أسس ديوان الزكاة لجمع الزكاة وتوزيعها على المستحقين.
كما واصل الإصدار عرض كلمات مقتطفة من أقوال إرهابيين آخرين، في معرض الحديث عن "الجهاد" معتبرين أن عدم الانتماء للحركات "الجهادية" -على حد وصفهم- يعد أحد نواقض الإسلام، وكأن التنظيم الإرهابي أراد تقديم تبرير لأعماله الإجرامية تحت ستار التأصيل الشرعي لمسألة الجهاد ولكن حسب رؤيته، ووفق هواه، وأن ما يصدره من دعوات للشباب بالانضمام إليه والقتال تحت رايته ما هو إلا حرصٌ منه على نُصرة الدين وإقامة الشريعة. واختتم الإصدار بوصية للإرهابيين بمواصة القتال، وحث أتباعه في الداخل والخارج بأن ينفروا للقتال في سبيل الله لإقامة دولة الإسلام كما يدعون.
بالنظر إلى تحليل الإصدار المرئي، يمكن الإشارة إلى عدد من الدلالات، أبرزها ما يأتي:
اختيار عنوان الإصدار "كتاب يهدي وسيف ينصر" له دلالة على سياسة "الجذب والشد"، أي إن التنظيم قائم على أمر الدين بإرشاد الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الوقت ذاته صارم حازم في وجه أعدائه، منتصر لدين الله، رافعًا لراية الجهاد، متخذين من مقولة: "قوام الدين باللسان والسنان" شعارًا لهم، إلا أن ذلك بهدف تزيين جرائمهم الإرهابية وتضليل العقول لتصديق أن ما يقومون به من إرهاب وسفك الدماء يخدم الدين وشريعته وهو منهم براء.
اقتباس آيات قرآنية وأحاديث نبوية مقتطعة من سياقاتها لإضفاء هالة من "القدسية الدينية" على أعمالهم الإجرامية، ولتحفيز أنصاره وإثارتهم للقتال.
الاقتصار على لغة الهوسا واللغة العربية، وفي ذلك دلالة على أن الهدف مخاطبة الشعوب الناطقة بلغة الهوسا والمنطقة العربية، لجذب المقاتلين للانضمام إلى التنظيم الإرهابي وتعريفهم بماهية "دولتهم المزعومة".
دمج النصوص المكتوبة والصور والفيديوهات بمؤثرات صوتية وأناشيد حماسية تنطوي على أصوات واقعية من ميادين القتال للرصاص الحي، والتهليل والتكبير، بما يضمن فاعلية تأثيرها الفكري والنفسي على المشاهد، وتأثيرها التحفيزي على عناصر التنظيم الإرهابي أنفسهم.
استخدم التنظيم الإرهابي مصطلحات إيجابية تخدم أجندته وإستراتيجيته كمصطلح "الجهاد"، و"جنود الخلافة"، و"المجاهدين"، و"الأبطال"، و"الشهادة"، و"أولياء الرحمن"، و"أشلاء الأفذاذ"، في حين استخدم في الوقت ذاته مصطلحات سلبية وإلصاقها بالطرف الآخر ممن اختلف معه دينيًّا أو مذهبيًّا أو فكريًّا، مثل مصطلح "الطواغيت"، "أعداء الله"، "أعداء الإسلام"، "الكفرة والمرتدين"، "الخونة"، "أولياء الشيطان"، و"جيف الهلكى"... إلخ، لتحفيز روح العداء والانتقام للإسلام عند أتباعه.
استخدم التنظيم "تأثير الصورة" على عقلية المشاهد ونفسيته، وذلك بتقديم صور عناصر التنظيم الإرهابيين في ميدان القتال على أنها صورة "البطل المغوار" الذي يدافع عن دينه وبلده، ويحاول استرداد الحقوق المسلوبة منها، كما يصور قتلاهم وهم مبتسمون دلالة على نيل الشهادة في سبيل الله وفق تصورهم، وذلك لإثارة المشاعر وتحفيز المشاهد على الانضمام لصفوفهم وإلى "الدولة المزعومة". في حين يصور المخالف على أنه "الخائن المغتصب" لبلده، ويصور قتلاهم بأبشع المشاهد.
من جانبه يؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف على أن استدلالات تنظيم "داعش" الإرهابي في إصداره هذا وما سبقه من إصدارات إنما هي استدلالات باطلة، منحرفة؛ إذ تعتمد على اختطاف النصوص من سياقاتها، وتلبيس الحق بالباطل، وتزييف الحقائق، كما يجدد المرصد تأكيده على خطورة الأداة الإعلامية للتنظيمات الإرهابية باعتبارها أكثر الوسائل التي تعتمد عليها تلك التنظيمات في نشر فكرها والدعوة لتبني منهجها المنحرف وفكرها الظلامي. هذا ويرى مرصد الأزهر أن هذا الإصدار يعد حلقةً جديدة من مسلسل التحدي السافر الذي ينتهجه التنظيم الإرهابي بدعوى القتال ومحاربة الكفر ورد العدوان، والحق أنهم يحاربون الإيمان والسلام ويعملون على تحقيق مصالح أعداء الإنسانية والاستقرار.
كما يشدد المرصد على أن أسلوب ادعاء النصر والغلبة والتغني بنصرة الدين بات أسلوبًا مفضوحًا وبهتانًا مبينًا، حيث يؤكد المرصد أن إصدارًا كهذا يعطي دلالة واضحة على إفلاس تنظيم داعش الإرهابي وجماعة بوكو حرام بالتبعية، وسعيهما الحثيث على إيجاد فرصة لإثبات أن التنظيم وأذنابه لايزال لهم مكان، ويملكون حظوظهم في تهديد سلام العالم والعبث باستقراره، الأمر الذي يراه المرصد متوقّعًا في ظل تردي وضع التنظيم وتراجع قوته.
وحدة رصد اللغات الإفريقية
2022