المذاكرة .. من الإيمان

يأخذني المشهد إلى أكثر من 30 عامًا للوراء لأراني واقفًا أمام نتيجة السنة الأولى بقسم الإعلام، بتقدير لا يضعني مع الأوائل، لكنى مازلت أذكر فرحتي وتهنئة الزملاء الذين كان بينهم الأول على دفعتنا في التقدير العام، لكن حدث زلزال فكري جعلني أحتل قائمة الأوائل طيلة السنوات الثلاث الجامعية بعد انقضاء الأولى، فقد ذهبت لأصلي الجمعة، لا أتذكر بالضبط ماذا كان موضوع الخطبة، لكن الذي لا أنساه أبدًا، أن الجامع كان جامع عمرو بن العاص أول جامع بني بمصر، وأن الخطيب كان الشيخ محمد الغزالي، وأن كلامه هو الذي هزني فتعاقدت مع التفوق، قال الرجل ـ رحمه الله ـ إن المذاكرة من الإيمان، لأن النجاح أمر غيبي والإيمان بالغيب من شروط إيماننا، لم أفهم مقصد الشيخ جيدا، لكنه استدرك قائلًا: الإيمان بالغيب نوعان: نوع يتصل بالسلوك، ونوع يتصل بالعقيدة، فالذي يتصل بالسلوك يمس حينًا المال، وحينا الحياة، فالله سبحانه وتعالى يأمر بالصدقة والصدقة تجعل الإنسان ينزل عن المال الذي يملكه والمال حبيب إلى الانسان، عزيز عليه، فإذا قيل له: أنفق في سبيل الله وسيخلف الله عليك في المستقبل، فإن نفسه سوف تحدثه: لماذا أفقد ما بيدي اليوم في انتظار ماقد يجيء في الغد؟
فإذا قال الإنسان لنفسه: إن الله وعد وينبغي أن أثق في أنه سبحانه سيخلف، ربما حدثته نفسه: عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، هنا يتدخل الإيمان بالغيب في النفقة أو في الصدقة فيجعل الإنسان ـ لصدق إيمانه بربه وبوعده ـ يعطي ما بيده ـ الآن ـ موقنًا بأن ما غاب لابد أن يتحقق، وأن الخلف الذي لاوجود له الآن هو موجود حتمًا وسوف يجيء وهو معنى قوله تعالى (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم).
هذا إيمان يتصل بالسلوك، وهناك أيضا إيمان بالغيب يتصل بالسلوك في الجهاد والكفاح أساسه أن أصحاب الدعوات غالبا يبدأون سلوكهم في وجه جبابرة وعندما يتحرك أصحاب الحق وهم ضعاف، فإن وساوس الشيطان ستتجه إليهم: ما الذي يجعلكم تناوشون الأقوياء وتتعرضون لبطشهم؟ وما الذي يجعلكم تفقدون طمأنينتكم ـ الآن ـ في انتظار نصر يعدكم به الله في المستقبل؟ والمستقبل غيب لا تدرون متى يأتي؟ لكن المؤمنين بالغيب يسيرون في طريقهم حتى يتحقق لهم وعد الله بالنصر (وقل للذين لايؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون)  .
ورأيتني أخرج من الجامع بعد الصلاة، وصوت الشيخ يرن في أذني ويشعل داخلي جذوة التفوق، أليست المذاكرة من الإيمان؛ لأنك تسعى بها للنجاح، والنجاح يأتي لاحقا في المستقبل، والمستقبل غيب، وقد يحدث أي شيء عرضي يمنعك حتى من تأدية الامتحان، نعم كل ذلك وارد، لكن الله سبحانه وتعالى وعد (إنا لانضيع أجر من أحسن عملا)، (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لايعملون) وقبل كل ذلك الإيمان بالغيب لا يكتمل إيمان المسلم إلا به، فاعمل ماعليك وتوكل على الله (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وماربك بغافل عما تعملون) .
عطر الكلام :
إن كلمة الله العليا لا يخدمها أناس أيديهم هي السفلى.