09 ديسمبر, 2016

العقل

أما أصل فروعها، وعنصر ينابيعها، ونقطة دائرتها فالعقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفة، ويتفرع من هذا ثقوب الرأي، وجودة الفطنة، والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحسن السياسة والتدبير، واقتناء الفضائل، وتجنب الرذائل.

وقد أشرنا إلى مكانه منه ﷺ، وبلوغه منه ومن العلم الغاية التي لم يبلغها بشر سواه، وإذ جلالة محله من ذلك، ومما تفرع منه متحققة عند من تتبع مجاري أحواله، واطراد سيره، وطالع جوامع كلامه. وحسن شمائله، وبدائع سيره، وحكم حديثه، وعلمه بما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة، وحكم الحكماء، وسير الأمم الخالية، وأيامها وضرب الأمثال، وسياسات الأنام، وتقرير الشرائع، وتأصيل الآداب النفسية، والشيم الحميدة إلى فنون العلوم التي اتخذ أهلها كلامه عليه السلام فيها قدوة، وإشاراته حجة، كالعبادة، والطب، والحساب، والفرائض، والنسب، وغير ذلك مما سنبينه في معجزاته إن شاء الله، دون تعليم ولا مدارسة، ولا مطالعة كتب من تقدم، ولا الجلوس إلى علمائهم، بل نبى أمي لم يعرف بشيء من ذلك، حتى شرح الله صدره، وأبان أمره، وعلمه، وأقرأه، يعلم ذلك بالمطالعة والبحث عن حاله ضرورة، وبالبرهان القاطع على نبوته نظراً، فلا نطول بسرد الأقاصيص، وآحاد القضايا، إذ مجموعها ما لا يأخذه حصر، ولا يحيط به حفظ جامع، وبحسب عقله كانت معارفه ﷺ إلى سائر ما علمه الله تعالى، وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان، وعجائب قدرته، وعظيم ملكوته، قال الله تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113] حارت العقول في تقدير فضله عليه، وخرست الألسن دون وصف يحيط بذلك أو ينتهى إليه.

 

من كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى

للعلامة القاضي عياض


كلمات دالة:
الأبواب: النبي القدوة