26 فبراير, 2017

التجديد واجتزاء النصوص

بعض من يخوضون في التجديد في هذا الزمان يسلكون مسلكا عجيبا يكفي لتشويه الدين ويجعل مهمة تطوير الفكر الديني مهمة صعبة، بل مستحيلة؛ إذ يفتحون أبوابا بغير مفاتيحها ولا يمكن حصر مصاريعها؛ حيث يعمدون إلى بعض النصوص الصحيحة فيقتطعونها من سياقها اللغوي ويفصلونها عن زمن ورودها وأسباب نزولها.

ومن المعلوم أن ارتباط النص بسياقه ومعرفة سبب نزوله من أهم أدوات فهم المراد منه، ولذا كان السابقون يحدثون بفضل الله عليهم بما منَّ عليهم به من معرفة أسباب نزول الآيات، فمن أقوال حَبر الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما: «ما من آية في كتاب الله إلا أعلم متى وأين وفيمن نزلت»، ولذا كان أعرف الصحابة بفهم المراد من الآيات وإدراك عمومها وخصوصها، ولأهمية معرفة أسباب النزول في فهم النص القرآني انبرت أقلام السلف الصالح من العلماء تصنيفا لأسباب النزول، فأفردوا لذلك مصنفات خاصة حتى كاد يصبح علما مستقلا وأداة لا غنى عنها لمن أراد أن يرسو إلى بر الأمان في خضم بحر العلم المتلاطم الأمواج.

ولذا، فحين ينتزع هؤلاء بعض النصوص من سياقها سهوا أو عمدا، ولا سيما تلك النصوص المتعلقة بقتال المشركين، فإنهم بذلك يظهرون ديننا وكأنه دين دموي لا يمت لاسمه بصلة؛ فديننا هو دين (الإسلام)، دين الرحمة للعالمين، فإذا جمعت آيات القتال في القرآن الكريم مقتطعة عن سياقها ومفصولة عن موضوعها الذي ربما تتعدد جوانبه؛ ظهر لنا شرع جديد متناقض في أحكامه وتوجهاته، وحاشاه أن يكون، فعندئذ نجده يدعونا مرة للسلام ويعظم من شأن الدماء ويسوي بين قتل النفس الواحدة وقتل الناس جميعا ويبين أن إحياء نفس واحدة يعدل إحياء العالمين، ومرة أخرى يحض على قتال المشركين، وقد يترتب على قتالهم قتل الكثير منهم وربما قتلهم أجمعين كما ورد صراحة في غير موضع من كتاب الله! وهذا لا يقول به إلا مغرض أو جاهل؛ حيث يرده بل ينقضه الفهم الصحيح لشريعة الإسلام المنضبطة والمنتظمة كالعقد المنظوم بيد حكيم خبير لا تباين بين حباته، وامتلاك أدوات العلم الشرعي ومنها معرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والسياق اللغوي والتاريخي الذي قيلت فيه النصوص، والحكمة من هذا الحكم أو ذاك.. كل ذلك وغيره مما ينبغي أن يلم به «أنصاف المتعلمين» الذين قرروا فجأة رفع راية التجديد في الفكر الإسلامي دون امتلاك أدنى أدواته.

وللخروج من هذه اللجة التي وضع هؤلاء شرعنا فيها جهلا أو عمدا، فعليهم تصحيح المسار في تناول النصوص، فإذا ذكرت نصوص القتال مع استحضار الحملات التي قصدت بلاد المسلمين وتجمعاتهم منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرورا بعهود الخلافة وليس انتهاء بالحملات التترية والصليبية؛ وجدتها مناسبة وملائمة، ولو وضعت مكانها الآيات التي تدعو للسلم والإحسان لم تكن مناسبة بالضرورة؛ فكيف ندعو لمسالمة من يصر على قتلنا وسبي أبنائنا واستحياء نسائنا؟! ومن الخطأ البيِّن والفهم المغلوط أيضا في زماننا استحضار آيات القتال عند الحديث عن المخالفين في الدين، ولا سيما من يشاركوننا في النسيج الوطني؛ فالنصوص يجب أن تربط بسياقها اللغوي والتاريخي إن أردنا حقا فهم شريعتنا وتجديد فكرنا، فنصوص الشرع من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة أشبه بالأدوية التي على الرغم من كونها جميعا للعلاج والتداوي من الأمراض المختلفة، فإن تناول دواء معين دون تشخيص للداء من قبل طبيب متخصص مشهود له بالدقة والأمانة، قد ينهي حياة شاربه.

وهناك أمر أشد غرابة من سابقه يقع فيه بعض دعاة التجديد في أيامنا، وهو تجزيء النص الواحد وفصله عن بقيته، فعلى سبيل المثال يذكرون قوله تعالى: «وقاتلوا المشركين كافة»، مفصولا عن بقية الآية، وهي قوله تعالى: «كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين»، وهذا إن كان متعمدا فهو جناية في حق شريعتنا السمحة التي تدعو إلى السلام والرحمة وعدم البدء بالقتال، وليعلم هؤلاء أن علة الأمر بقتال المشركين هي مقاتلتهم للمسلمين، وهذا ظاهر من الآية كاملة دون اقتطاع، بل يفهم من الآية أننا إذا بادرناهم بالقتال لا نكون من المتقين. ومن ثم، فإن الاستشهاد ببعض النص يشوِّه الشرع؛ حيث يمكن الاستدلال على تحريم الفرائض عن طريق هذه الحيلة، ومن ذلك الوقوف عند قوله تعالى: «لا تقربوا الصلاة»، وقوله تعالى: «ويل للمصلين»، دون تتمة النص.

وإذا كان فصل النص عن سياقه اللغوي والتاريخي قد يوقع فيه جهل المتناول وقلة علمه وقصر همته عن معرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ؛ فإن الاجتزاء غالبا ما يكون متعمدا بغرض التدليس والتلبيس على الناس لبلوغ غاية في نفس «فلان» صاحب التوجه «الفلاني»، ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أنه قيل لشارب خمر: توقف عنها. فقال رافضا تحريم القرآن لها:

دع المساجد للعباد تسكنها .. واذهب بنا إلى الخمار يسقينا

فما قال ربك ويل للألى سكروا .. ولكن قال ويل للمصلينا


كلمات دالة: