الإمام الأكبر شيخ الأزهر :
ـ مشاركة الأزهر في هذه الاحتفالية تأتي في إطار جهوده من أجل نشر السلام وثقافة الحوار بين الأديان
ـ للدين أهمية قصوى في حياة الناس .. والتدين نزعةٌ خالدة متأصلة وشعور متجذر في أعماق الإنسان
ـ ما أحوج الإنسانية اليوم إلى الدين وتعاليمه وأخلاقه من أي وقت مضى
ـ الأديان السماوية رسالة سلام إلى البشر و الحيوان والنبات والطبيعة بأسرها .. وجئت إلى هنا لإقامة جسور المؤاخاة والتعارف
ـ الإسلام منفتح على الأديان الإلهية.. وحضارة المسلمين لم تخرج عن إطار المؤاخاة مع أبناء الأديان الأخرى
ـ شريعة الإسلام تفرض على ولاة أمور المسلمين حماية غير المسلمين وضمان أمنهم وسلامتهم
ـ كيف يُصدِّق الناسُ أن الإسلام هو دين الإرهاب مع أن الغالبية العظمى من ضحاياه هم المسلمون؟
ـ أدعو رجال الدين في الغرب أن يسهموا في تصحيح الصورة المغلوطة في أذهان الغربيين عن الإسلام والمسلمين "الإسلاموفوبيا"
ـ آن الأوان لأن تتجاوب أجراس الكنائس في الغرب ونداء المآذن في الشرق لتقول: لا لهذا العبث باسم الأديان
ـ على الشباب أن يأخذ دوره في نشر ثقافة السلام والإخاء وإقامة جسور التفاهم والحوار
ـ لا حل لأزمة العالم المعاصر وانتشاله من مآسيه التي تكاد تعود به إلى فوضى القرون الوسطى إلا بالرجوع إلى تعاليم الأديان الإلهية
دعا فضيلة الإمام اإلأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رجال الدين في الغرب أن يسهموا في تصحيح الصورة المغلوطة في أذهان الغربيين عن الإسلام والمسلمين، مؤكدًا أنه آنَ الأوانُ لأن تتجاوب أجراس الكنائس في الغرب ونداء المآذن في الشرق لتقول: لا لهذا العبث باسم الأديان.
وقال فضيلته، في كلمته باحتفالية الحركة الإصلاحية في أوروبا: إنه لا حل لأزمة العالَم المعاصر وانتشاله من مآسيه التي تكاد تعود به إلى فوضى القرون الوسطى إلا التعاليم الإلهية، موضحًا أن للدين أهميةً قصوى في حياة الناس، فما أحوج الإنسانية اليوم إلى الدين وتعاليمه وأخلاقه من أي وقتٍ مضى.
وأكّد شيخ الأزهر، أن ديننا ينص على أن عَلاقة المسلمين بغيرهم من المسالمين هي عَلاقة البر والإنصاف، وأن شريعة الإسلام تفرض على ولاة أمور المسلمين حماية غير المسلمين وضمان أمنهم وسلامتهم، متسائلًا: كيف يُصدِّق الناسُ أن الإسلام هو دين الإرهاب مع أن الغالبية العظمى من ضحاياه هم المسلمون؟
وذكر فضيلة الإمام الأكبر، أن الإسلام منفتح على الأديان الإلهية، مشيرًا إلى أن الأديان السماوية هي رسالةُ سلامٍ إلى البشر و الحيوان والنبات والطبيعة بأسرها، وأن حضارة المسلمين لم تخرج عن إطار المؤاخاة مع أبناء الأديان الأخرى.
ودعا شيخ الأزهر الشباب إلى أن يأخذوا دورهم في نشر ثقافة السلام والإخاء وإقامة جسور التفاهم والحوار، موضحًا أن مشاركة الأزهر في هذه الاحتفالية تأتي في إطار جهوده؛ من أجل نشر السلام وثقافة الحوار بين الأديان.
وفيما يلي نَصُّ كلمة فضيلة الإمام الأكبر :
بسم الله الرحمن الرحيم
التسامُح والتعايُش السلمي
السيدة البروفيسور كريستينا أَوْسْ دير آوْ Christina Aus der Au - رئيس يوم الكنيسة الألماني البروتستانتية
معالي السيد توماس دي ميزيير Thomas de Maizière - وزير الداخلية
السَّـــادَة الحضور!
السَّلامُ عليكُم جميعًا ورحمةُ الله وبركاتُه؛
يسرني في بداية كلمتي أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير للدكتوره "أَوْسْ دير أَوْ"، والسيد دي ميزيير؛ على دعوتي للمشاركة في هذا الاحتفال الكبير، وأخصّ بالشكر هذا الجمهورَ الكريم؛ لتفضله بالحضور لاستماع هذه المحاضرة، ولمناقشتي فيما عساه أن تثيره من أسئلة أو استفسارات، فتحية لكل من شارك وأسهم في تنظيم يوم الكنيسة الألماني هذا العام، وتحية لمن أسسوه وساهموا فيه على مدى السنوات الماضية.
وتأتي مشاركة الأزهر اليوم في احتفال يوم الكنيسة الألماني كخطوةٍ مشجعة على طريق الحوار بين الأديان من أجل السلام والتعارف وثقافة التسامح، بعد أن أتم الأزهر الشريف جولاتٍ حواريةً مكثفةً مع المؤسسات الدينية الكبرى في الغرب، وبعد أن استقبل شخصياتٍ دوليةً بارزة، في مقدمتها: بابا الفاتيكان، والمستشارةُ الألمانية، السيدة "ميركل"، والسيدُ وزيرُ الداخلية، "دي ميزيير"، الذي ألقى محاضرة عن التسامح بين الأديان في جامعة الأزهر، وقد لمسنا أثرًا طيبًا يُشجّع على هذا الحراك الفكري بين الشرق والغرب.
وأما كلمتي اليوم فإني أعترف بدايةً أنها ربما قد تقع في عيب الاختصار المخل؛ لأنها لا تدور على موضوعٍ واحد، بل على موضوعاتٍ شتّى، كلٌّ منها يستحق أن تُـفرد له محاضرةٌ مستقلة.
هذا، وإن احتفال اليوم هو في الوقت نفسه احتفالٌ يُذكِّر بالدين وبضرورته وأهميته القصوى في حياة الناس، وتصحيح مسيرتهم، وإنقاذهم من غواية الشيطان، وفلسفات الالتصاق بالأرض وظلمتها، وطغيان المادة وثوران الأنانية، وأنّ الدين ليس -كما يقال- شأنًا من الشؤون تخطّاه الناس، وخلّفته الحضارة العلمية والحداثة اللادينية وراء ظهرها، وأنه أصبح في ذمة التاريخ ومتاحف الآثار، كما بشّرَنا بذلك طائفةٌ من الفلاسفة المعاصرين .. واليوم يأتي هذا الاحتفالُ ليُقَدِّم الدليلَ المتجدد على بطلان هذه المزاعم، وليُثبِتَ –من جديدٍ– أن الدين فطرةٌ فَطَرَ الله الناس عليها، وليس ظاهرةً مرتبطة بأسباب طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، أو غير ذلك من النظريات التي قيلت في تحليل الدين ونشأته، واستبعدتْ أن يكون اللهُ هو مصدرَهُ الذي لا مصدرَ له سواه.
وقد عادت بي الذاكرة -وأنا أُعِدُّ هذه الكلمة– إلى زمنٍ مضى، كنت فيه طالبًا بقسم الفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر، في ستينات القرن الماضي، ودرستُ نظرية الأدوار الثلاثة المعروفة في فلسفة العالِم الاجتماعي الكبير "أوجيست كومت"، في القرن التاسعَ عشرَ، التي يؤكد فيها هذا الفيلسوف على أن الحياة العقلية الإنسانية مرّت بأدوارٍ ثلاثة: دور الفلسفة الدينية، ثم دور الفلسفة التجريبية، ثم دور الفلسفة الواقعية، وهو الدور الأخير، الذي اكتمل به رشدُ العقل الإنساني، فخلع ثوب اللاهوت والميتافيزيقا، ولبس حُلّتَه الجديدة والأخيرة من العلوم الوضعية والمنهج الحسي التجريبي، وقد درَسْنا في نقد هذه النظرية أنها تحريفٌ للواقعِ والتاريخ؛ لأننا ما زلنا نرى المؤمنين بالدين في القرن العشرين، وفي قلب الحضارة الأوروبية، وبين علماء الطبيعة والطب وكبار الفلاسفة والأدباء .. واليوم يزدادُ الناسُ يقينًا بأن التدينَ نزعةٌ خالدة متأصلة في طبيعة الإنسان، وشعورٌ مُتجذّرٌ في أعماق النفس البشرية، وأن هذه النزعة لن تزول عن الأرض قبل أن يزول الإنسان"[1]
ودرسٌ آخَرُ نستخلصُهُ من وحي الذكرى السادسة والثلاثين، وبمناسبة مرور خمسةِ قرون على حركة الإصلاح الديني، هو أن إحياء الشعور الديني يأتي اليوم من عاصمة الدولة الألمانية، أنموذج الدول الرائدة في النهضة العلمية والعلوم التجريبية، ليس في أوروبا فقط، بل في العالم كله؛ لأنك حيثما وجدتَ صناعةً دقيقة، أو تقدّمًا تقنيًّا مدهشًا، وجدتَ وراءه - في الغالب - عقلًا ألمانيًّا مُبدعًا، ولعلي لا أبالغ لو قُلتُ: إن الدرس الأهم الذي قد لا ينتبه له كثيرون من المَعنيين بالبحث في صراع العصر الحديث بين الدين والعلم، أن هذا الاحتفال ليس دلالةً على المصالحة بين الدين والعلم فحسب، بل هو اعترافٌ صريح من العلم بالدين وأهميته في حياة الإنسان.
وما أظن أن الإنسانية كانت بأحوجَ إلى الدين وتعاليمه وأخلاقه من حاجتها إليه اليوم، في ظل حضارةٍ سخّرَت كل إمكاناتها الذهنية ونشاطاتها العقلية من أجل الخبز وحده، والذي حذّرَنا السيدُ المسيح -عليه السلام- من اتخاذه "محورًا" تدور عليه فلسفة الحضارات، وحاكمًا مطاعًا في عَلاقات الناس والتعاون بين الأمم والشعوب؛ فقد قال السيد المسيح: "مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (إنجيل متى: 4:4) في إشارةٍ قويةٍ إلى أن سياسة الإنتاج والاستهلاك والتسلّط على الضعفاء لا تستحق أن يحيا الإنسان في هجيرها يومًا واحدًا، وأن مثل هذه الحياة ليست في حقيقتها إلا صورةً من أقبح صور الموت وأشدها بؤسًا.
ونحن المؤمنين بالله الخالق وبحكمته وبرحمته التي وسعت كل شيء، متيقنون من أن الأديان ما نزلت إلّا لتَهديَ الإنسان إلى الخير، وتُعرِّفَه به وتحثَّه على فعله، وتُعرِّفَه بالشر وقواه الظاهرة والخفية، وتُحذّرَه من عواقبه، كما نتيقن بأن هناك خطابًا إلهيًّا للإنسان حافلًا بنداءات السلام والأخوة والتعاون على الخير؛ لعمارةِ هذا الكون واكتشاف أسرارِهِ وتَبادُل منافعه بين الناس، وأن هذا الخطاب حمله الرسل والأنبياء وبلّغوه للناس بدءًا بآدمَ ومرورًا بنوحٍٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى بن مريم وانتهاءً بخاتَمِهم محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كلهم غرَّدوا في سربٍ واحد وصدَّق اللاحقُ منهم السابقَ، وبنى على دعوته وتعاليمه، وهذا ما يُفسّر لنا أوجه الشبه القوية التي تبلغ درجة التطابُق في كثيرٍ من تعاليمها، ولا غَرابةَ في ذلك، فما دام المصدرُ الذي نبعت منه هذه الأديان واحدًا، فمِن المُحَتّم أن تَتّحد هذه الرسالات في الغاية والمقصد والتوجّه.
"إن الأديان السماوية – أيها السادة – هي أولًا وأخيرًا ليست إلّا رسالةَ سلامٍ إلى البشر، بل أزعم أنها رسالةُ سلامٍ إلى الحيوان والنبات والطبيعة بأسرها، وعلينا أن نَعلم أن الإسلام لا يُبيحُ للمسلمين أن يَشهَروا السلاحَ، إلّا في حالةٍ واحدة، هي دفع العدوان عن النفسِ والأرضِ والوطنِ، ولم يحدث قَطُّ أن قاتل المسلمون غيرهم؛ لإجبارهم على الدخول في دين الإسلام، بل إن الإسلام لا ينظر لغير المسلمين من المسيحيين واليهود إلا من منظور المودة والأخوة الإنسانية، وهناك آياتٌ صريحة في القرآن – لا يتّسع لذكرها المَقام – تنصّ على أن عَلاقة المسلمين بغيرهم من المسالمين لهم أيًّا كانت أديانُهم أو مذاهبهم هي عَلاقة البِرّ والإنصاف، ويكفي أن نُذَكِّر هنا بأن الإسلام الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- يُقدّم نفسه بحُسبانه الحلقةَ الأخيرة في سلسلة الدين الإلهي، كما يُقرّر أن أصل الدين واحدٌ في جميع هذه الرسالات، ومِن هنا يَذكُر القرآنُ التوراةَ والإنجيلَ بعباراتٍ غاية في الاحترام ويَعترف بأثرهما القوي في هداية البشرية من التِّيه والضلال؛ ولذلك يَصِفُ الله تعالى – في القرآن الكريم – كلًّا من التوراة والإنجيل بأنهما "هدًى ونورٌ"، كما يَصِفُ القرآنُ نفسَهُ بأنَّه الكتاب المُصَدِّق لما سبقه من الكتابين المُقَدَّسين؛ التوراة والإنجيل.
والإسلام تربطه بالأديان السماوية كلِّها عَلاقةٌ عضوية، يتضح ذلك مثلًا في عَلاقة المسلمين بالمسيحيين، فهم – فيما يقرر القرآن – أقرب الناس قاطبةً للمسلمين، والعَلاقة بين أهل الدينين عَلاقةُ مودّةٍ وإخاء وتراحُم."[2]
ومن دواعي سروري أن أقول لكم: إن أصول مصادرنا الدينية التي نعتمد عليها في الفتوى والتشريع قديمًا وحديثًا تَصِفُ المسيحيين بخصالٍ أربع، وخصلةٍ خامسةٍ جميلة، هذه الخصال هي: أنكم أكثر الناس حلمًا حين تَسود الفتن، وأسرع الناس عافيةً مما تصابون به من نوازلَ وأزماتٍ، وأنكم أكثر الناس استعادةً للعزم والحزم، وأنكم خير الناس لليتامى والمساكينِ والضعفاء .. والخامسة الحسنة الجميلة هي أنكم تُنصفون المظلوم وتَحولون بين المُستضعفين وبين المتسلطين عليهم ظلمًا وعدوانًا.
هذه الشهادة المُنصفة لكم درسناها ونُدَرّسها لطلابنا في أصح الكتب بعد كتاب الله عندنا وهو صحيح الإمام مسلم .. بل هذا ما يدرسه المسلمون من مراكش في المغرب إلى جاكرتا في أندونيسيا.
هذا وعلماء المسلمين لا يَنسَوْن ما قدّمته المسيحيةُ للمسلمين من حمايةٍ وإنقاذٍ من تربّصاتِ الوثنية بهم، ومحاولات القضاء عليهم وعلى دينهم، وكانت المسيحيةُ هي الحاضنةَ الأولى للإسلام .. حدث هذا عندما اشتد الأذى على المسلمين الضعفاء من أصحاب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وضاقت عليهم الأرض بما رَحُبَتْ، فقال لهم: "اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملِكًا لا يُظلم أحد في جواره"؛ وهكذا لجأ المسلمون الأولون إلى هذا البلد المسيحي وملكها المسيحي في هجرتين متتاليتين: رجالًا ونساءً وأطفالًا، ووجدوا عند ملكها "النجاشي" الحماية والحرية والأمن والسلام، وما كان للنبي أن يأتمن الحبشة المسيحية على أتباعه الذين هم رأس مال رسالته في ذَلك الوقت لولا يقينُه أن الدّينَين شقيقان يتلاقيان ويقفان صفًّا واحدًا ضد عدوٍّ مشترَك هو الوثنيّة التي كانت تتعقّب هذا الدين وتحاول القضاء عليه في مهده.
السيدات والسادة!
هذه هي صورة الإسلام في انفتاحه على الأديان الإلهية، وتاريخُ المسلمين يَشهد بأن حضارتهم لم تخرج عن إطار المؤاخاة مع أبناء الأديان الأخرى، وكانت تتعامل معهم من مُنطلَق القاعدة الشرعية: "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا"، والتي تُقِرّ بقاء غير المسلمين على أديانهم وعقائدهم، وتَضمن حرية إقامةِ شعائِرهِم، وحماية كنائسهم وأماكن عبادتهم، وكل عاداتهم الدينية والاجتماعية.
ولا يعني ذلك أن صورة المجتمع الإسلامي مع غير المسلمين كانت صورة ملائكية ومنزهة عن الأخطاء والعيوب، وأنه لم يحدث من التوترات وبعض الانحرافات، سواء من الحكام أو المحكومين ما يُزري بهذه الصورة، فقد كان يحدث من ذلك شيءٌ قليل أو كثير، لكنه يبقى دائمًا من باب الاستثناءات التي لا يخلو منها مجتمعٌ، تتعدد فيه الأديان أو الأعراق أو المذاهب.
وقد سجّل كثيرٌ من المؤرخين الغربيين هذه الرُّوحَ السمحة في معاملة غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، وأذكر على سبيل المثال البروفيسور السويسري الألماني "آدم ميتز"، الذي كتب دراسته المُعَمّقة عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، وقد درَسْنا هذا الكتاب في ترجمته العربية، ونحن طلاب في الدراسات العليا، وترك في نفوسنا انطباعًا عميقًا عن إنصاف المؤرخين الألمان للإسلام وموضوعيتهم في عرض تاريخ الإسلام، وقد قرر هذا الأستاذ أن المسيحيين في المجتمعات الإسلامية كانوا مواطنين لهم كل حقوق المواطن المسلم، فيما عدا الوظائفَ الدينية التي تتصل بالدِّينِ، ويُشترط فيها العلم بالشريعة، وأظنكم تتفقون معي في أن التاريخ لم يُسجّل اندلاعَ حربٍ في الشرق بين المسلمين والمسيحيين، وسببُ ذلك سببٌ شرعيٌّ خالص، هو أن شريعة الإسلام تَفرض على ولاة أمور المسلمين حمايةَ غير المسلمين وضمان أمنهم وسلامتهم، فلا يُعقل أن يُكلّف جيش المسلمين بحماية المواطنين المسيحيين، ثم يُسمح له بأن يُعلِن الحرب عليهم أو يُشارِك في حربٍ تُـعلَنُ عليهم.
السيدات والسادة:
لستُ في حاجةٍ إلى التذكير ببراءة الإسلام والمسلمين من تلكم الأعمال الإرهابية التي ارتُكبت باسمه، وأساءت إليه شرقًا وغربًا، ونجحتْ في تصويره هنا في الغرب في صورة الدين الهمجي المتعطِّش لسَفْك الدماء، وصوّرَتْ أتباعَه في صورةِ الهمج المتوحشين، واستنفرت بعض أجهزة البثّ والإعلام المُشاهَد والمقروء لتسجيل هذه الفظائع بكل ما فيها من رعبٍ وبشاعة، ثم بثّها في الفضاء لترسيخ الصورة المطلوب ترسيخُها في أذهان الناس وبخاصة الشباب منهم .. وإني لأنتهز فرصة مشاركتي في هذا الاحتفال الديني العالمي ليعلمَ الناس في العالم كله أنَّ هذه الجرائم المنكرة لا تعرف الإسلامَ ولا يعرفها المسلمون، وأنتهز الفرصة أيضًا لأدعوَ رجال الدين، ورجال الفكر والثقافة في العالَم للوقوف صفًّا واحدًا ضد الإرهاب وأن نعتبره جميعًا عدوًّا مشترَكًا، ومسؤوليتنا تجاهه مسؤوليةٌ مشتركة، كما أدعو رجال الدين في الغرب أن يُسهموا في تصحيح الصورة المغلوطة في أذهان الغربيين عن الإسلام والمسلمين .. وها هو الأزهرُ الشريفُ أكبرُ مرجعيةٍ دينية في العالم للمسلمين يسعى بنفسه إلى كبريات المؤسسات الدينية في الغرب، لا أقول لإقامة جسور المؤاخاة والتعارف، بل لاستعادة هذه الجسور، وترسيخها من أجل وقوف الأديان صفًّا واحدًا في مواجهة هذا الخطر، وتذكير الناس بأن الإهاب عمل من أعمال الشيطان وليس عملًا من أعمال المؤمنين بالله تعالى وعدلِه وحسابِه وعقابِه.
وأنا لست أدري كيف يُصَدِّق الناسُ أن الإسلام هو دين الإرهاب، مع أن الغالبية العظمى من ضحاياه هم المسلمون أنفسهم .. رجالًا ونساءً وأطفالًا وجنودًا وآمنين في المنازل والطرقات ووسائل المواصلات وغيرها .. وفي اعتقادي أنه آنَ الأوانُ لأن تتجاوب أجراس الكنائس في الغرب ونداء المآذن في الشرق لتقولَ: لا لهذا العبث باسم الأديان ولا للعبث بالفقراء والمساكين والبؤساء والنساء والأطفال، هؤلاء الذين يدفعون من دمائهم وأجسامهم وأشلائهم فاتورةَ حربٍ ليس لهم فيها ناقةٌ ولا جملٌ، بعد أن تراخى القادرون على وَقْف هذه الحروب، التي أكلت الأخضر واليابس في عالمنا العربي.
وعلى الشباب الذي هو عُدَّةُ المستقبل وقوةُ الحاضر أن يأخذ دوره في نشر ثقافة السلام والإخاء والتعارف بين الناس وتفكيك ثقافة الكراهية، وإسقاط الحوائط العازلة المصنوعة بين الحضارات لأغراض تسلطية ومصالح ضيقة وإقامة جسورِ التفاهُم والحوار المشترك؛ من أجل حياةٍ إنسانية تليق بالقرن الواحد والعشرين.
وأنا شخصيًّا أُعَوِّل عليكم أيها الشباب في صنعِ مستقبلٍ خالٍ من الحروب التي شقي بها جيلي في القرن الماضي والقرن الحاضر أيضًا، فأنا – مثلًا – وُلدت في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية بعامٍ واحد ولم تَمضِ عشرُ سنواتٍ بعد مولدي حتى شهدتُ حرب العدوان الثلاثي على مصر، وفي ذاكرتي ومخيلتي من الصور المروعة لهذه الحرب ما لم يستطع الزمن أن يمحوَه حتى الآن، ولم تمرَّ بعد ذلك عشرُ سنوات أخرى حتى دهمَـتْـنا حربُ سبعةٍ وستين بكل ما خلفته من أزماتٍ واختناقاتٍ واقتصادِ حروب، ثم جاءت حرب العبور عام 73 التي أعادت إلينا نحن شبابَ العرب كثيرًا من الثقة ورَدّ الاعتبار والشعور بالنصر، لكن سرعان ما دخلْنا بعدها في دوامة الإرهاب التي لم تتوقف حتى هذه اللحظة، أَضِفْ إلى ذلك الحروب التي تشتعل في عالمنا العربي ولم ينطفئ لهيبُها حتى هذه الساعة التي أحدثكم فيها .. ولنا أن نتساءل: ماذا ننتظر من انطباعاتِ جيلي الذي بلغ السبعين من العمر عن كل ما قرأه – وهو كثيرٌ جدًّا – عن السلام الدولي وحق الإنسان في الحياة، دع عنك حقوقَه الأخرى في توفير الأمن والعيش الكريم والعدالة والمساواة إلى آخر ما نحفظه عن ظهرِ قلبٍ عن حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، والتي يتكشف رصيدُها في الواقع المُعاش عن سرابٍ خادع أو عن مجرد حبرٍ على ورق في أفضل الأحوال؟!
وإذا كان لي من كلمة أخيرة أختم بها هذه التأملاتِ المكلومةَ التي يمتزج فيها الألم بالأمل، فهي أنه لا حل لأزمة العالَم المعاصر وانتشاله من مآسيه التي تكاد تعود به إلى فوضى القرون الوسطى إلا التعاليم الإلهية التي تحتفلون بها اليوم وتؤكدون للعالم من خلالها أن الدين ضرورةٌ حتميةٌ لا يمكن أن تتحقق الأخوة ولا العدل ولا المساواة إلا في ظلاله.
شكرًا لحسن استماعكم
والسَّلامُ عليكُم ورَحمـــةُ الله وبركاتُه؛
[1] دراز، محمد عبد الله: الدين، ص 131 –بتصرّفٍ- دار العلم 2010 م
[2] من كلمةٍ ألقيتُها بمجلس اللوردات البريطاني، 11 يونيو 2015م