10 سبتمبر, 2017

فــي كلمته التاريخية بمؤتمـر السَّلام العالمي بألمانيا... الإمام الأكبر: نمدُّ أيديَنا لكل محب للسلام كائنًا ما كان دينه أو عرقه

-       أغلَب المُنظَّمات الأُمَمِيَّة وجمعيات حقوق الإنسان في وادٍ والدِّماء والجُثَث والأشْلَاء وصراخ الأطفال ودموع اليَـتامَى وأنين الثَّكَالى في وادٍ آخَرَ

-       الحرب في هذا العَصْرِ تغيَّر مفهومها بسبب مَصَانِع المَوت التي تَحصد الآمنين وتضطر الكثيرين إلى الفِرارِ من جحيمِ الأسلِحَة الفتَّاكة

-       التَّفْرِقةُ في الحقوق على أسَاسٍ من الفَقْرِ والغِنَى أو العِرْق أو اللَّون أو الدِّين عملٌ لاإنسانيّ بكُلِّ ما تَحْمِلُه هذه الكلمة من معنى

-       الشَّرقُ الآنَ يَعِجّ بالأسى والألم ويدفع ثمنًا فادِحًا من الدِّماء والجُثَث والمقابِر الجماعيَّة نتيجة سياساتٍ إقليميَّةٍ وعالميَّةٍ دُمِّرَتْ بها شُعُوبٌ وحضاراتٌ عَريقةٌ

-       ما يَحْدُث اليَوْم لمسلمي "الرُّوهِينجا" من إبادةٍ جماعيَّةٍ وتَهجيرٍ قَسْريٍّ هو أحدَث فصول المسـرحيَّات العبثيَّة في الشَّـرقِ

-       المُجتمعُ الدوليُّ عجَز عن إنقاذ مسلمي "الرُّوهِينجا" من تلك المآسي التي يَئنّ لها ضميرُ الإنسانيَّة

-       ما يحدث في الشرق سببه هو الإصرار على إبقاء المنطقة في حالةِ صراعٍ دائمٍ

-       الإرهاب وُلد بأنيابٍ ومخالبَ جاهزةٍ مخالفًا بقدراته الخارقة كلَّ قوانين التطور الطبيعي

-       الشرق سبق أن قدَّم للغرب أياديَ بيضاءَ وحمَل الكثير لحضارته وأشعل في ربوعه جذوات العلم والثقافة والأدب والفنون

-       عالمنا المعاصر في حاجة إلى أخلاقٍ إنسانية عامة عابرة للقارات تسوده وتحكم مسيرته وتكون بديلًا للأخلاق المتناقضة المتضاربة

-       تعاوُن الأزهر الشريف مع المؤسَّسات الدينية الكبرى في أوروبا هو من أجل تحقيق خطوةٍ  على طريق السلام الذي تدعو إليه جميع الأديان

 

نصّ كلمة فضيلة الإمام الأكــــبر أ.د/ أحـمــد الطــيب، شــيخ الأزهــــر رئيس مجلس حكماء المسلمين، فــي مؤتمـــرٍ حـــول السَّــــلام العــالميّ بعنوان: «طُــرُق السَّـــــلام» المنعقد بمدينة «مونستر» بألمانيا

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الدكتوره/ أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية

القائمون على ترتيب هذا المؤتمر الهامّ من مجلس حكماء المسلمين!

الحَفْــلُ الكَـــريم!

أُحَييكُم بتحيَّةِ الإسْلَام، وبتحيَّة الأدْيَان السَّمَاويَّة كلِّها وَهِيَ: السَّلَامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.. وأشْكُركُم جَميعًا على حضوركم هذا المُؤتمر الذي يَضُمّ نُخْبَةً مُتمَيِّزة من رِجَالِ الأدْيَان وقادَة السِّياسَة والفِكْر، والاقتِصاد والإعْلَام، وبخاصَّةٍ هذا الشَّبَاب الذي أَرَاهُ أمَامِي اليَوْم بوجُوهٍ مُشْرِقَةٍ واعِدَةٍ في عَزْمٍ وتصْمِيمٍ بصُنْعِ مُسْتَقبَلٍ إنسانيٍّ يُظلِّلُه الأمن والسَّلام والعَيْش المشْتَرَك والتَّعارُف المُـتبَادَل القائِم على مبادِئ العَدْلِ والحُريَّةِ والمُسَاواة بين الناس، هذا وأرجو أنْ تَجِيءَ كَلِمَتِي أمَامكُم -رغم المُدَّة القصيرة المُحَدَّدة لإلقائِها- مُعَبِّرةً عن شيءٍ مِن مُشكلاتِ عالَمنا الُمعاصِر وما يُعانيه الناس، وبخاصّةٍ في شَرقِنَا العَربيِّ والإِسْلَاميِّ مِن أهْوالٍ وعَبَثٍ بالأرواحِ والدِّماء، وإهدارِ الحُقُوق الآدميَّة بصُورةٍ بَشِعَة، تُذكِّرنا بحُرُوبِ الماضي التي كُنَّا نَظُنُّ أنَّها أصْبَحَت في ذِمَّةِ التَّاريخ.

واليَوْم.. وفي عصر التقدُّم العلمي والتِّقني والفَنِّي، وفي عَصْرِ الرُّقِيِّ والمُنظَّمات الأُمَمِيَّة، والجمعيات العالمية لحقوق الإنسان، ومنظَّمات المجتمعات المدنيَّة والمواثيق الدولية، التي أخذت على عاتِقها حِمايَة البُؤسَاء والأطفال والعَجَزة والأرَامِل، وتعهَّدَت بتوفيرِ مُقَوِّمات الأمن والأمان للنَّاسِ؛ ثُم تبيَّن أن أغلَب هذه المؤسَّسَات في وادٍ، والدِّماء والجُثَث والأشْلَاء وصراخ الأطفال ودموع اليَـتامَى وأنين الثَّكالى في وادٍ آخَرَ- في هذا العَصْرِ الجديد، تغيَّر مفهوم الحَرب بسبب مَصَانِع المَوت المُتطَوِّرة تِقنيًّا وعِلْميًّا: فأصبحت رَحَى الحرب تَحصد الآمنين في بيوتهم وشوارعهم وقُراهم ومُدنهم، ومدارسهم وأنديتهم، وتضطر الكثيرين إلى الفِرارِ من جحيمِ الأسلِحَة الفتَّاكة، تاركين أوطانَهم إلى مجهولٍ لا يعرفون عنه شيئًا، أو يضطرهم الرُّعب والخَوف إلى ركوبِ البَحْرِ لينتهيَ بهم الأمرُ في أعماقِه غَرَقًا وهَلَاكًا.

هذه الشَّريحة البائِسة الُمعذَّبة، هي شريحةٌ إنسانيَّةٌ لها ما لأيِّ آدميٍّ في الشَّرقِ والغَربِ من حقِّ الحياة وحقِّ الحُريَّة وحقِّ الاستِقرار على أرضِه والتمسُّك بوطنِهِ.

 والتَّفْرِقةُ في هذه الحقوق على أسَاسٍ من الفَقْرِ والغِنَى أو العِرْق أو اللَّون أو الدِّين هو –في مفهومِ الإسلام، بل في مفهوم الأديان الإلهيَّة جَمعَاءَ- عملٌ لاإنساني بكُلِّ ما تَحْمِلُه هذه الكلمة من معنى. والذين تربَّوا مِنَّا على مائدة الأنبياء والرسل وأخلاقِهِم يَعْلَمُونَ حَقَّ العِلْم أنَّ الإنْسَانَ أخو الإنسان، وأنَّ كل بني آدمَ  نُظراءُ في الإنسانيَّةِ، وأنَّها وَشيجةٌ من وشائِج القُرْبَى تترتَّبُ عليها حُقُوقٌ وواجباتٌ مُتبادَلة بين الناس؛ أفرادًا كانوا أو جماعاتٍ أو شعُوبًا.

أَيُّها السيِّداتُ والسَّـادَة!

لا تستغربوا  هذه اللُّغَة المتشَائِمة الَّتي افْتَتَحْتُ بها كلمتي في مؤتمرٍ كهذا، كُل ما فيه يَدعو إلى التَّفاؤُل والأمَل، فأنا قادِمٌ من الشَّرقِ الذي يَعِجّ بالأسى والألم، ويدفع –الآنَ- رجالُه ونساؤه وعجائزه وأطفاله ثمنًا فادِحًا من الدِّماء والجُثَث والمقابِر الجماعيَّة، لسياساتٍ إقليميَّةٍ وعالميَّةٍ دُمِّرَتْ بها شُعُوبٌ وحضاراتٌ عَريقةٌ؛ ومنها دولٌ دُمِّرت في ساعاتٍ محدودة، ثُمَّ تُركت رُكامًا هامدًا حتى هذه اللَّحْظَة التي أُحَدِّثُ فيها حضراتكم، ومنها دول لا تزال ماكينة القَتْل والتَّدمير تَعْمَل في البَشَرِ والحَجَرِ، بل منها ما تَعْمَل فيه هذه الآلة الجَهنَّمِيَّة قريبًا من خمسةَ عشرَ عامًا، ومنها ما انضافت إلى قائمة القتل والدَّمار فيها قائمة الأوبئة والأمراض الفتَّاكة.

وأحدَث فصول هذه المسـرحيَّات العبثيَّة في الشَّـرقِ؛ ما يَحْدُث اليَوْم لمواطنِي "الرُّوهِينجا" من المسلمين من إبادةٍ جماعيَّةٍ وتَهجيرٍ قَسْريٍّ، وعَجَزَ المُجتمعُ الدوليّ عن إنقاذهم مِمَّا يَعْلَمه الجميع ومِمَّا تنقله لنا شاشات التِّلفَاز ومواقع التواصل الاجتماعي من مآسٍ يَئنّ لها ضميرُ الإنسانيَّة، إن كان قد بقي للإنسانية ضميرٌ في الشرق أو الغرب.

هذه المآسي –أَيُّها السَّيِّداتُ والسَّادَة- تَعْرِفُونها جَيِّدًا، ونَحْنُ نَعْرِفُها مَعَكُم حَقَّ المعرفة، وربَّما تردَّدَت على مسامِعنا وأَلِفْناها ولم تَعُدْ تستحق من اهتماماتنا شيئًا يُذكر من كثرة ما سمعنا عنها ورأينا منها، ومن هذا المُنْطَلَق لَا أكرر القول في هذا الشَّأنِ، وقد قُلْتُ في بيانٍ صدرَ عن الأزهرِ أمس الأوَّل عن قضيَّة المواطنين المسلمين "الرُّوهينجا": إنَّ بياناتِ الإدانة والشَّجب والاستِنكَار لَمْ تَعُد ذاتَ معنى، وهي تضييعٌ للوقتِ وإهدارٌ للطَّاقةِ.

 لكن لا أستطيع أن أُفارِقَ هذا المؤتمر الغنيّ بهذه القيادات الكبيرة الموقَّرة، وبقيادات المستقبل من هذا الشباب المفعم بالأمل والعزيمة والإصرار والذي نعقد عليه –بعد الله تعالى- آمالًا عريضة في إنقاذ الإنسانية مما ألمَّ بها من رعبٍ وإحباط -لا أستطيع أن أتركَ مكاني هذا دون أن ألخِّص ما يدور في ذهني من خواطرَ عن هذه الأزمة، وأعترف أن منها رؤى وأحلام يقظة من قسوة الواقع الذي نعيش فيه، وعذري أن الأحلام هي كل ما يتبقى للعاجز من حيلة.

 فأولًا: معظم ما حلّ بنا في الشرق من دمار منظَّم سبَبُه –فيما يقول لنا مُنظّرو السياسات الدولية والإقليمية – هو الإرهاب الإسلامي، ومن ثَمَّ وجب التدخلُ لوقف خطره وإنقاذ الشعوب منه، واسمحوا لي حضراتكم إن شئنا أن نتحدث في شيءٍ من الصراحة ووضْع النقاط على الحروف أن أقول: إن ما يحدث في الشرق سببه هو الإصرار على إبقاء المنطقة في حالة صراعٍ دائم، والبحثُ عن مناطقَ يسهلُ فيها إذكاءُ صراعاتٍ دينية أو مذهبية تُؤدِّي إلى صِدَامٍ دمويٍّ مسلح، والصَّمت المطبق على مصادرَ تُموِّل هذا الإرهاب وتدعمه وتشجعه ليلَ نهارَ.

أمّا قصة الإرهاب فإنها تبقى -حتى هذه اللحظة-  قصةً محيرة في وعي الأغلبية الكاسحة من العرب والمسلمين، فلا يزال الإرهاب يشبه أن يكون لقيطًا مجهول النسب لا نعرف من أبوه ولا من هي أمه.. ولا أريد أن أسترسل في سرد باقي الأسئلة المحيرة عن هذا الكائن العجيب الذي وُلد بأنيابٍ ومخالبَ جاهزةٍ، مخالفًا بقدراته الخارقة كل قوانين التطور الطبيعي، فهو لم يَكَدْ يبلغ مرحلة الفطام حتى أعلن دولته المزعومة المنسوبة للإسلام والتي يتصدر اسمُها نشراتِ الأنباء العالمية حتى الآنَ.

وأنا لا أُعفي شرقنا العربي والإسلامي من أن يتحمل نصيبه الأوفى من المسئولية التاريخية عن هذا الإرهاب، والإنصاف يقتضي أن نسجل كثيرًا من الأسباب السياسية والدينية والتعليمية والاجتماعية، التي ساعدت بشكلٍ أو بآخَرَ في تهيئة المسرح لهذا اللامعقول، لكني لا أستطيع أن أفهم أنّ إمكاناتِ المنطقة العلمية والتقنية والتسليحية وحدها كافية لتفسير القفزات والطفرات في قدرات هذا التنظيم  وتوسعاته، كما لا أفهم سياسة الكَرّ والفَرّ في التصدي وإنقاذ الناس من شروره وأخطاره.

ثانية هذه الخواطر: أن هذا الشرق الذي يَئنّ أهله تحت وطأة أزماتٍ بالغة التقعيد، سبق أن قدَّم للغرب أياديَ بيضاءَ، وحمَل الكثير لحضارته، وأشعل في ربوعه جذوات العلم والثقافة والأدب والفنون، وتكفيني الإشارة السريعة لما يقوله أحد علماء الغرب المعاصرين من «أن الثقافة الأوروبية تدين بدَينٍ ضخم وهائل لعالَم الإسلام، وأن المسلمين حافظوا على علوم اليونان القديمة وحسَّنوها وأضافوا إليها، وأنهم وضعوا أُسس العلوم والطب والفلك والملاحة الحديثة، وأنهم كانوا المُلهِمين لكثيرٍ من إنجازات الغرب الحديثة».

ويُقرّر هذا الكاتب المنصف أنه لولا التسامحُ المتأصّل في الإسلام مع غير المسلمين داخل العالم الإسلامي طَوال خمسةَ عشرَ قرنًا لكان من المشكوك فيه بقاء اليهود ككِيانٍ عِرقيٍّ ودينيٍّ مستقل، ولكان الغرب قد حُرم من إسهاماتهم الرائعة في الفن والطب والعلم والأدب والموسيقى، والتي لا حدود لها على وجه التقريب، ومن هنا فإن الصورة السائدة في الذهنية الغربية عن العالم الإسلامي بحسبانه عالمًا راكدًا «يسكنه شعبٌ ذو عاداتٍ غريبة واعتقاداتٍ مُبهمة تقريبًا، وأن نظرة الغرب المتحضر إلى الدول العربية على أنها مجموعة من محطات الوقود العملاقة، ومجرد مصدرٍ مُزوِّدٍ للمواد الخام التي يعمل بها الاقتصاد الغربي»، هذه الصورة رُغم أنها لا تعكس واقع العالم الإسلامي فإنها لا يمكن أن تُشكِّل أساسًا لأيِّ تفاهُمٍ حقيقيٍّ بين شعوبٍ ذاتِ ثقافاتٍ ومعتقدات مختلفة.

ويمضي الأستاذ في استنتاجاته المنطقية الموثَّقة بالاطلاع الواسع، فيقول: «إن الأمم الأوروبية كلَّها مَرّت بمراحلَ من الاستبداد والديكتاتورية والصراع المُدَمِّر، وأن تحركها نحو الديموقراطية إنما جاء في القرن الأخير تقريبًا، فإن المشكلاتِ السياسيّةَ الداخلية للدول الإسلامية يجب أن يُترك حلُّها لشعوب هذه الدول، وقد أثبت التاريخ  أن العالَم الإسلاميّ يمتلك مبادئَ روحيّةً وأخلاقيّةً كفيلة بتشجيعه على سياسة التسامح والأخوة المشتركة بين جميع الأعراق والمذاهب.. ومن حقه أن يتطوَّر بما يتفق وحاجات شعوبه وتطلعاتها، مثلما فعلت الأمم الأوروبية من قَبْله. وقد شاركت أوروبا وأميركا وروسيا في التوقيع على ميثاق تأسيس منظمة الأمم المتحدة الذي تنص بنوده الأولى على أنه ليس من حقِّ أيِّ دولةٍ أن تتدخل في الشئون السياسية الداخلية لدولةٍ أخرى» .

وأعتذر لكم مرّةً أخرى عن طول هذا الاقتباس، ولكن أردت أن أُطِلَّ على عالمنا الإسلامي من منظورٍ غربيٍّ مُنصِفٍ؛ لأرى حجمَ التناقض والمسافة البعيدة جدًّا بين القول والعمل.. وكيف أن شرقنا العربي الذي كنت أتغنَّى وأنا طالبٌ بالمرحلة الثانوية بتحرره من الاستعمار، وببناء السَّد العالي في أُسوان، وبالأنظمة السياسية والاقتصادية الجديدة، وبحركات التحرُّر التي كانت تتنقل بين أقطاره بصورةٍ متلاحقة، كيف عاد هذا الشرق مسـرحًا لصـراع الأسلحة والسياسات والمطامع الإقليمية والدولية، وأن الشعوب الفقيرة البائسة التي أنتمي إليها مولدًا ونشأة وتعليمًا هي التي دَفعت، ولازالت تَدفع ثمن هذا العبث الإقليمي والدولي، وأنها تُنفِّذ حروبًا بالوكالة لا ناقةَ لها فيها ولا جمل؛ كما يقول المثل العربي.

ثالثًا وأخيرًا: أرى – من وجهةِ نَظَرٍ أعياها طُولُ البحث والتأمُّل- أنّ مَكْمَنَ الداء هو ضعف العنصـر الأخلاقي في توجيه حضارتنا اليوم ولَـجْمِها حين تَستبدّ بها الشهوات والأغراض، وليس الحلّ في مزيدٍ من التطور العلمي والتقدُّم التقني، رغم أهميتهما وضرورتهما لحياةٍ أفضلَ وأكثرَ رقيًّا، وليس الحلّ في الفلسفات المادية وما إليها من توجهاتٍ عَلمانيّةٍ، التي تنكَّرت لله وللأديان وللأخلاق، وليس الحل في المذاهب النفعية ولا المذاهب الإنسانية، فكلها فلسفاتٌ تدور حول الفرد بحُسبانه شخصًا، وليس باعتباره عضوًا في جماعةٍ إنسانية يرتبط بها، ولها حقوقٌ تجب مراعاتها وإلّا فَسدت الجمعية الإنسانية وأصبح بأسُها بينها شديدًا.

والحل –فيما أرى- هو في أخلاقٍ إنسانيّةٍ عامّةٍ عابرةٍ للقارات، مُجْمعٍ عليها شرقًا وغربًا، تسود عالمَنا المعاصر وتَحكُم مسيرتَه، وتكون بديلًا للأخلاق المتناقضة المتضاربة التي دَفعتْ عالمَنا المعاصر إلى ما يُشبه حالة الانتحار الحضاري، وليس من سبيلٍ إلى بَرنامجٍ أخلاقيٍّ عالميٍّ –فيما يقول كينج- إلا مائدة الأديان، والأديان وحدها، ولكن ذلك مشروطٌ بإقامةِ سلامٍ بين الأديانِ نفسِها أوَّلًا.

  ومن أجل تحقيق خطوةٍ على طريق السلام الذي تدعو إليه جميع الأديان؛ سَعَى الأزهر ليتعاونَ مع المؤسَّسات الدينية الكبرى في أوروبا، وبخاصّةٍ جمعية «سانت إيجيديو» والتي أَحضُرُ مؤتمرَها للسلام للمرة الرابعة؛ ليؤكّدَ الأزهر الشريف مع هذه المؤسسات استعدادَه لصُنعِ سلامٍ مع كافّة الأديان والمذاهب.

نعم! ومن أجل ذلكم جئت أمدُّ يدي – بصفتي مسلمًا – لكلِّ مُحِبٍّ للسلام كائنًا ما كان دينُه، وكائنًا ما كان عِرْقُه، وشُـكْــرًا لِحُسنِ استماعكم.