قال فضيلة الإمام الأكبر: إن أحكام الإسلام في الحضانة أحكام دقيقة، وإذا طُبِّقت هذه الأحكام فسوف تلتقي مع مصلحة الطفل والأم والأب، وأنصح أن تطبق هذه الأحكام بعيدًا عن المعارك الجانبية التي لا تصح في الإسلام، والتي قد تُضَيِّعُ مصالح الأطفال وعند ذلك تكون المصيبة أكبر والإثم أعظم، ونحن لسنا في جانب الأم أو الأب، ولكن مع مصلحة الطفل الصغير، ويجب على الأب كذلك أن يُطَوِّعَ مصلحتَه لمصلحة هذا الصغير، أمَّا ما يحدث الآن - للأسف- من كيد فهو هدمٌ منظَّم وغير مرئي لشخصية الطفل، ولا يجب أن يسمح الأم والأب أن ينشأ ابنُهم مشوهًا نفسيًّا.
وأضاف فضيلته في حديثه الأسبوعي على الفضائية المصرية: لقد وضع الإسلام أحكامًا لحالات الانفصال، منها الحضانة، وهي حق من حقوق الأم؛ لأنه من المعلوم أن الأم لديها تجاه ابنها أو ابنتها قدر من الحنان والرحمة تجعلها تصبر على التربية وتتلذذ بالصبر، أما الأب فليس لديه هذه الطاقة على الإطلاق؛ لأن له دَوْرًا آخر نحو الصغير، وهو التثقيف والتربية والتهذيب، لذلك فدَوْرُ الحضانة لا يمكن أن يقوم به الرجل حتى لو ماتت الأم، سيضطر أن يأتي بمن يرعاه؛ لذلك فالشرع أقر بأن الصغير لأمه؛ بسبب هذه الطبيعة.
وتابع فضيلة الإمام الأكبر: "ومن المفارقات العجيبة أن الأم تُعَذَّبُ في الحمل والولادة، ولكنها تطلب الحمل والولادة، فمن لديه عمل لمدة 9 أشهر يسبب له ألمًا لن يرضى به ولا بالنتيجة المترتبة عليه، لكن الأم تعلم أن الحمل والوضع والرضاعة أمور ستُعَذِّبها، ومع ذلك تندفع إليها، تشتري الألم بسبب الفطرة، وبمجرد أن ترى الوليد وتبصره يذهب كل هذا الألم ويتبدل إلى فرحة، وهذا سِرُّ استمرار الكون، والرجل ليس لديه هذه الفطرة، فالأم هي الجسر الذي تعبر عليه الحياة وتمتد.
وأكد فضيلته أن الشرائع كلها أعطت الأم حضانة الطفل وهذه حقيقة من الحقائق، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ما تحدث عن حقيقة من الحقائق واهتزت أمام حقيقة علمية أو اجتماعية، وإذا ماتت الأم يبحث الشرع عن الأكثر حنانًا عليه من أرحامه، فأم الأم أحق به من أم الأب؛ لأنها أحن عليه، فسلسة الدم واللحم مرتبطة أكثر بأم الأم، لكن هذا الحنان بهذا القدر مقطوع في سلسلة أم الأب بالأب، ولذلك يقول الشرع: إن أم الأم أولى بالطفل، والطبيعة تثبت هذا، ونحن نبحث عن موطن الحنان؛ لأنه المطلوب للطفل، فلولاه قد يهلك.
وأوضح فضيلة الإمام الأكبر أنه لا يوجد نص صريح في القرآن أو السنة يقول: إذا بلغ الطفل سبع سنوات والبنت تسع سنوات ينزع من الأم ويذهب للأب، وهذا من إعجاز الشريعة الإسلامية التي نَصِفُها بأنها صالحة لكل زمان ومكان، والشريعة قالت: إن حضانة الأم تنتهي حين يستغني المحضون عن حضانة حاضنته، سواء أمه أو جدته من أمه، وفي زمن الفقهاء الأقدمين لم يُحدِّدوا سنًّا، بل جاء هذا الأمر متأخرًا؛ لأن السِّنَّ تقديره يختلف من جيل لجيل، وربما من بيت لبيت، ولو أن الشريعة أعطتني فترة محددة في موضوع متغير سوف نقع في حرج شديد، ولذلك تركت الشريعة هذه المسألة لتخضع لتقييم التَغَيُّر في الأحوال والمستجدات.
وأشار فضيلته إلى أنه في السابق كان من الممكن أن يستغني الولد عن أمه في سن سبع سنوات، أما الآن لا يمكن أن يستغني عن أمه في هذا السن، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بقي محضونًا من أمه في هذه السِّنِّ، ولو وُجِدَ نصٌّ لالتزمنا به، وقبل سنة 1922م كان مذهب الفقهاء الأحناف هو المعمول به، وقد كان حسب زمانهم يمكن أن يستغني الولد عن أمه في سن السابعة والبنت في التاسعة، لكن لا يمكن أن أسْحَبَ حكمًا متغيرًا من ألف سنة وأُطبِّقه الآن لأنزع الحضانة، فمن يريد ذلك يريد أن يكيد زوجته، ويريد أن يُسَوِّغَ له الشرع هذا العبث وهذه المكيدة، وبعد سنة 1922م ظل يتغير هذا السن إلى حين كنتُ في دار الإفتاء وأرسل لنا مجلس الشعب، وكان وقتَها سِنُّ الحضانة للولد 12، والبنت 15، فقلت: يتساوى الولد والبنت وتنتهي حضانة الكل في سن 15، ورَدَّ مجمع البحوث في الأزهر أيضًا أن هذا لا يتعارض مع الشرع، وهناك أقوال قديمة ترى أن حضانة البنت تنتهي بالزواج وليس بسِنٍّ معيّن، وهذا يراعي مصلحة البنت حتى بعد أن تكبر، والولد حتى يصل لسن البلوغ.
وبين فضيلة الإمام الأكبر أن امرأة جاءت للرسول -صلى الله عليه وسلم- تشكو زوجها الذي طلقها، وأراد أن ينزع منها ولدها، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنت أحقُّ به ما لم تتزوجي"، فمنطوق "ما لم تتزوجي" يُفْهَمُ منه أنها إن تزوجت تؤخذ الحضانة منها، وهي ليست أحقَّ بولدها، والأحناف لأنهم لا يُعمِلون مفهوم النصِّ في الأحكام قالوا: حتى لو تزوجت وتبيَّن أن مصلحة الصغير معها تظلُّ الحضانة لها، ومن هنا نحن لا نفهم معركة الرجال في ذلك، فهي ليست حربًا نبحث فيها عن النصر، لأن هذا يؤثر على نفسية الصغير، والأب بذلك هو الذي يضيِّع الصغير، وفي حديثٍ آخَرَ:" مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة"، وكأنه يخاطب هذه الحالات، فأرجو من الرجال أن يتفهموا الموقف الشرعي، ونحن مسئولون هنا عن بيان الحكم الشرعي، وقد أشار إلى ذلك سيدنا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بقوله: "ريقها خيرٌ له من شهْدٍ وعسل عندك يا عمر"، الذي قاله حين وقعت الفرقة بين سيدنا عمر وبين امرأته والصحابة -رضي الله عنهم- حاضرون متوافرون، مُنَوِّهًا إلى أن الأم التي طُلِّقَتْ -وقد تكون طُلِّقَتْ غصبًا عنها أو حتى برضاها- يجب أن تأخذ حقَّها في الاحترام بما أنها أم لأبنائك، وحتى مروءات الرجال تقتضي هذا.
ونبّه فضيلة الإمام الأكبر على أن هؤلاء يريدون التنقل بين المذاهب حسب المصلحة، فهم يريدون أن يتزوجوا على مذهب أبي حنيفة، وأن يعيشوا على مذهب أحمد، وأن يكون الطلاق على مذهبٍ ثالث، والحضانة على مذهبٍ آخَرَ، فليس هناك وعي إسلامي صحيح للأسرة، مع أن فقه الأسرة يُدَرَّسُ في كليات الشريعة وفي كليات الحقوق، وهناك كتب كثيرة صادرة ومؤتمرات، ثم يأتي مَن يقول: إن الولد الذي تربيه الأم لا ينشأ رَجُلًا، فهل النبي -صلى الله عليه وسلم- ربّاه أبوه أم حضنته أمه وهو أشرف الرجال على الإطلاق؟! وختم فضيلته حديثه؛ بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مدح الأم التي توفي عنها زوجها وهي في شبابها ثم تحبس نفسها على يتيمها، قال صلى الله عليه وسلم :" أنا وامرأة سَفْعاء الخدين كهاتين يوم القيامة"، وسَفْعاء الخدين: هي التي لا توجد زينةٌ في وجهها، فالمرأة التي تقوم بهذا العمل تدخل الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك حديثٌ في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، مَن أحق الناس بحُسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك"، فشُرَّاح الحديث يقولون: إن هذا الحديث دليل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثةَ أمثال محبة الأب؛ ولذلك حينما يحكم الشرع للمرأة بهذا الحكم فهو لا يجاملها ولا يجور على حق الرجل، وخَيْرٌ للرَّجل أن يترك الولد والبنت مع أمهم، وأن يقيم عَلاقة إنسانية معقولة، ويتولى النفقة، والرؤية من حق الأب، فمن حقه أن يرى ولده، وأن يأخذه عنده إذا رضيت الأم، وهنا نعود إلى المعاشرة بالمعروف والمفارقة بالمعروف التي نَصَحنا بها الإسلام.