14 ديسمبر, 2017

موضوع 8

إذا كان الحديث النبوي الشريف يجعل القدس ثالث الحرمين – بعد مكة والمدينة – فإنه يجعلها أولى القبلتين، أي يقدمها – في الترتيب التاريخي كقبلة للمسلمين – على مكة المكرمة والكعبة المشرفة، لقد صلى إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ستة عشر شهرًا، ثم توجه إلى الكعبة بالصلاة قبل وفاته بثماني سنوات.

ثم إن السنة النبوية قد جعلت القدس على قدم المساواة مع مكة والمدينة في الاختصاص بشد الرحال، أي السفر للصلاة في مساجدها الجامعة – الحرم المكي، والحرم المدني، والحرم القدسي فهي القدس المقدمة تاريخيًّا كقِبلة إسلامية لصلاة المسلمين، وهي المساوية، لمكة والمدينة في شد الرحال إليها للصلاة: (لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" رواه البخاري ومسلم.

وعبارة (المسجد الأقصى) في آية سورة الإسراء تعني مدينة القدس – كل القدس – ولا تعني المسجد بمعنى البناء المعماري للجامع، فلم يكن هذا البناء ـ الجامع ـ قائمًا بالقدس سنة ٦٢١ م ليلة الإسراء، وكذلك عبارة (المسجد الحرام) في هذه الآية، تعني مكة – كل مكة – ولا تقتصر على الكعبة والمسجد الحرام، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم- عندما أُسري به لم يكن ساكنًا ولا نائمًا في المسجد الحرام – الجامع – وإنما كان في مكة، فالإسراء به قد تمَّ من (المسجد الحرام – أي مكة – إلى المسجد الأقصى – أي القدس)، وفي ذلك دلالة على اعتبار القرآن كل مكة مسجدًا حرامًا – أي حرمًا مكيّا – وكل القدس مسجدًا أقصى – أي حرمًا قدسيّا.

ويزكي هذه الحقيقة ويشهد لها وعليها وبها أن المسلمين، ومنذ فجر الإسلام، قد عاملوا القدس، كمكة، معاملة الحرم الشريف، ومن مميزات وامتيازات الحرم في الإسلام تنزيهه بتحريم القتال وسفك الدماء فيه، وعندما فتح المسلمون بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم – مكة سنة ٨هـ حرصوا على فتحها سلمًا دون قتال؛ لأن الحرم لا يجوز فيه القتال، وهم قد صنعوا ذلك مع القدس عندما فتحوها سنة ١٥ هـ (٦٣٦ م)، فلقد حاصروها حتى صالح أهلُها على فتحها سلمًا، وتفردت مكة والقدس بذلك دون جميع المدن التي فتحها المسلمون، وكما تسلَّم رسول الله مكة يوم الفتح، تفردت القدس – دون كل مدن الفتوحات الإسلامية – بأن استلامها كان من اختصاص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وليس من قبل قائد الجيش الفاتح، رغم أن هذا القائد كان هو أمين الأمة الإسلامية أبو عبيدة بن الجراح.

أما دعوى أن القدس لا تذكر في صلاة المسلمين، فهي قد تهاوت، عندما ثبت أن المراد ب(المسجد الأقصى) في آية سورة الإسراء – وهي التي يصلي بها المسلمون في صلواتهم على امتداد أقطار الأرض، وآناء الليل وأطراف النهار – هو مدينة القدس الشريف، كما أن آيات المعراج في سورة( النجم:13ـ18) والتي يتعبد بها المسلمون في الصلاة وغير الصلاة، إنما تذكرهم بالمعراج من القدس الشريف.

وإذا كان الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حدث من مكة إلى القدس، وإذا كان معراجه قد تمَّ من القدس. فهل يجوز بعد ذلك أن تدعي وثيقة رابطة الدفاع اليهودية أن القدس ليست مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالأحداث التي جرت في حياة الرسول؟!

فالرابطة بين القدس ومكة عقيدة دينية إسلامية، وآية تتلى في القرآن، وترتل في الصلوات الإسلامية، ومعجزة من معجزات الرسالة الإسلامية، وواحدة من عقائد الجهاد الإسلامي، تحدث عنها صلاح الدين الأيوبي (532 ـ 589 هـ/ 1137 ـ 1193م) في رسالته إلى ريتشارد قلب الأسد (1157 ـ 1199م) إبان الحروب الصليبية – فقال عن القدس: "من القدس عرج نبينا إلى السماء، وفي القدس تجتمع الملائكة، لا تفكر بأنه يمكن لنا أن نتخلى عنها أبدًا، كما لا يمكن بحال أن نتخلى عن حقوقنا فيها كأمة مسلمة، ولن يمكنكم الله أن تشيدوا حجرًا واحدًا في هذه الأرض طالما استمر الجهاد".

أما دعوى وثيقة رابطة الدفاع اليهودية، أن القدس لم تتحول في يوم من الأيام إلى مركز ثقافي إسلامي، فيفندها ويدحضها مكانة القدس في الثقافة الإسلامية عبر أكثر من أربعة عشر قرنًا متواصلة.

فالمسلمون هم الذين أطلقوا على هذه المدينة اسم: القدس، وبيت المقدس، والحرم القدسي، والقدس الشريف، فجعلوا من القداسة اسمًا لها، وعنوانًا عليها، يعبر عن قداستها ومكانتها المقدسة في الثقافة الإسلامية والعقل الإسلامي والوجدان الديني الإسلامي.

وحجم الأشعار التي نظمها شعراء الإسلام في الحرم القدسي يبلغ المجلدات في ديوان الأدب الإسلامي؛ فلقد كانت دائمًا – عندهم – رمز الصراع بين الحق والباطل، ومفتاح الانتصارات، ورمز الاستقلال والتحرير من موجات الغزو والغزاة، فضلًا عن مئات المخطوطات التي كتبت في مناقب وفضائل هذا الحرم القدسي الشريف.


كلمات دالة: