11 يونيو, 2018

الإمام الأكبر في كلمته خلال الاحتفال بليلة القدر: القرآن هو حصن الأمة ودرعها الواقي الذي حماها من السقوط والانسحاق

- الجرأة على المقدسات الإسلامية من أقوى أسباب انتشار الإرهاب
- لا توجد آية واحدة في القرآن تدعو إلى القتل

قال فضيلة الإمام الأكبر: إن ليلة القدر هي – فيما يقول الله تعالى ــ ليلة خير من ألف شهر، ولا خلاف بين علماء الإسلام في أن القرآن نزل في ليلة القدر، وأن ليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان، وهذا هو ما اتُّفق عليه بين العلماء لا خلاف بينهم فيه ولا جدال، وإن كانوا يختلفون فيما عدا ذلكم اختلافًا يتسع له الفهم والتأويل، وتحتمله ظواهر النصوص القرآنية احتمالًا قريبًا أو بعيدًا.
وأضاف فضيلته في كلمته خلال الاحتفال بليلة القدر: أن الدرس الذي يجب أن يستخلصه المسلم في ذكرى هذه الليلة ليس ما هو درج عليه المسلمون من رصدها أملًا في إجابة الطلبات وتحصيل أمور الدنيا وتحقيق الأغراض والمصالح، بل الدرس هو: نزول القرآن في هذه الليلة فرقانًا بين الحق والباطل، وتمييزًا للخير من الشر، وبيانًا للمباح والمحظور، وبدايةً لعهدٍ جديد أصبح الإنسان فيه خليفة عن الله تعالى في عمارة الكون وتسخيره، ومسئولًا مسئولية كاملة عن السير على منهج الله من أجل إقامة العدل والحكم بالحق، وتطبيق المساواة بين الناس، ودفع البغي والعدوان والظلم والتظالم بينهم .. وهذه هي أبرز القيَم التي يرتفع بها مجتمع ويهبط بدونها مجتمعٌ آخَرُ في منطق القرآن وفلسفة الإسلام.
وتابع فضيلة الإمام الأكبر: هذا القرآن هو الكتاب الإلهي الذي شكّل حصن الأمة، وكان ــ وسيظل ــ درعها الواقي، وسياجها الفولاذي الذي حماها ــ على طول تاريخها ــ من السقوط والانسحاق والذوبان، وانظروا أيها السادة الأجلاء إلى أعتى حضارتين عرفهما التاريخ في عصر ظهور الإسلام؛ وهما الحضارة الفارسية والحضارة البيزنطية، أو دولة الأكاسرة في الشرق، ودولة القياصرة في الغرب، وكانتا حديثَ الدنيا قوّةً وصراعًا واستعمارًا للأرض، حتى لم تَكَدْ بقعة من بقاع جنوب جزيرة العرب وشمالها، ومن بقاع وادي النيل، تخلو من سيطرة جيش من جيوش إحدى هاتين الدولتين، ولم تكن هاتان القوتان تتحسبان لأيّ خطر يأتيهما إلا من خطر إحداهما على الأخرى، غير أن ما حدث لهاتين الدولتين يومئذٍ كان أمرًا من أعجب العجب، فيما يقول مؤرخو الحضارات، فقد جاءهما الخطر من قلب الجزيرة العربية، ومن جيشٍ مجهولٍ قليلِ العدد، ضعيف العتاد فقير السلاح.. ولم تَمْضِ بضع سنين حتى هُزمت الدولتان أمام هذا الجيش، وأصبحتا أثرًا بعد عَين، بينما بقيت حضارة المسلمين تتحدى الزمن وتراهن على البقاء والتشبث بالوجود، رغم تلاحق الضربات، ومحاولات التمزيق والتفريق وطمس الهُوِيَّة وإثارة الفتن وإشعال الحروب.

وأوضح فضيلته: أن السبب الحقيقي وراء انهيار القوتين العظميين، وانتصار الإسلام وانتشاره في الأرض غربًا وشرقًا، والذي حرَص أعداء الإسلام على استبعاده، هو «القرآن الكريم» الذي كان بأيدي هذه القلة الضعيفة: يعرضون قيَمه وأخلاقه على الناس، فيسارعون إليه فرارًا من رهق الظلم والعبودية، والتمييز والطبقية والعنصرية التي لبست رداء الدين زورًا وبهتانًا، وغير ذلك من أمراض الدول العظمى في ذلكم الوقت، والتي كانت تَنخُر في بنيانها العميق؛ قبل أن يجيئها أمر الله ويجعلها حصيدًا كأن لم تَغْنَ بالأمس، قائلًا: لقد نزل القرآن – في ليلة القدر ليعلن احترام الإنسان ويؤكد تكريمه وتفضيله على سائر المخلوقات، ويفتح أمامه آفاق العلم وأبواب المعرفة بلا حدود، ويدفعه دفعًا للتفكير والنظر والبحث والتأمل، بعد ما حرّر عقله من أغلال الجهل والجمود والتقليد والاتباع الأعمى بغير حجة ولا دليل. كما أعلن القرآن تحرير المرأة، وأعاد لها ما صادرته عليها أنظمة المجتمعات في ذلكم الوقت من حقوق لا يتسع المقام لتَعدادها وبيانها.
وجاء بفلسفة جديدة للحكم؛ تقوم على العدل والمساواة والشورى ومنع الاستبداد.

وبيّن فضيلة الإمام الأكبر؛ أن القرآن جاء بأمهات الفضائل وجوامع الأخلاق والآداب، وقرّر المسئولية الفردية ومسئولية المجتمع كذلك، ومع أن القرآن الكريم قد أقرّ سُنّة التفاوت بين الناس في العلم والخلق والرزق والمعيشة، إلا أنه هدم العصبية وأتى على بنيانها الجاهلي من القواعد، فساوى بين الناس ولم يُفَرِّق بين إنسان وإنسان، ولا بين جنس وجنس، ولا بين أمة وأمة، إلا بالعمل الصالح، وكان التعدد والاختلاف بين عقائد الناس وألوانهم ولغاتهم وسيلة لتعارفهم واجتماعهم وتعاونهم ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾ [الحجرات: 13]، وهناك الكثير –أيها السادة الفضلاء!- مما نزل به القرآن الكريم في شئون المجتمعات وفي العَلاقات الدولية وفي أمر العقوبات وفي الأسرة وغير ذلك.. دع عنك ما يتعلق بالعقيدة والعبادة والمعاملات بتنوعاتها والغيبيات والدار الآخرة.

وردًّا على الحداثيين؛ قال فضيلته: كان أمرًا طبيعيًّا أن يتعرض القرآن على مدى أربعةَ عشرَ قرنًا لحملات التشويه والازدراء وتنفير الناس منه، ولايزال يتعرض لهذه الحملات المضلِّلة في عصرنا هذا، ومن أقلامٍ ينتمي أصحابها إلى الإسلام، ممن يؤمنون بالمذاهب الأدبية النقدية في الغرب، وبخاصة ما يسمى بالحداثة وما بعد الحداثة، وهي مذاهبُ تقوم في صورتها الأخيرة على قواعدَ صنعوها، ومُسَلَّماتٍ اخترعوها اختراعًا، مثل: إلغاء كل حقيقة دينية فوقية، والتمسك بالأنسنة أو الذاتية الإنسانية كمصدرٍ أوحدَ للمعرفة أيًّا كان نوع هذه المعرفة، وأن الإنسان وحده قادر على أن يمتلك الحقيقة، وهو بعلمه المحدود ورغم أهوائه وشهواته - وتقاطعاته مع الغير - معيارٌ للحق وللباطل وللخير والشر، ومقياس لكل حقيقة، ولا حقيقة خارج الإنسان، ولا توجد أية سلطة تعلو عليه أو على العالم «حتى لو كانت هذه السلطة هي الله تعالى» وهذا المذهب يستدعي معظم العناوين الاجتماعية الحديثة التي تتطاير غربًا وشرقًا؛ كالديموقراطية «وحقوق الإنسان والعَلمانية، والدولة الليبرالية والملكية الفردية».
وفي معرض الرد على البيان الذي وقّعه 300 شخصية عامة من المثقفين والسياسيين، والذي يطالب بحذف وإبطال سورٍ من القرآن الكريم؛ قال فضيلة الإمام الأكبر: وآخِر ما حملته إلينا الأنباء ونحن نحتفل بنزول القرآن الكريم من ثمرات الحداثة المُرَّة، البيان الذي صدر بعنوان «المسيرة البيضاء» في الغرب الأوروبي بعد مقتل سيدة فرنسية يهودية مسنة تبلغ من العمر خمسة وثمانين عامًا في شقتها، ورغم ما في البيان من إشارات سلبية واضحة للإسلام والمسلمين يمكن التغاضي عنها من كثرة ما ترددت على مسامعنا وتَكرارها، إلا أن الذي لا يمكن التغاضي عنه عبارة وردت في البيان تطالب السلطاتِ الدينيةَ الإسلامية: «بأن تعلن أن آياتِ القرآن التي تدعو إلى قتل اليهود والمسيحيين وغير المؤمنين ومعاقبتهم قد عفا عليها الزمن - كما كان حال التناقضات في الإنجيل- "كما جاء في الترجمة العربية للبيان"، ومعاداة السامية التي تتبنّاها الكنيسة الكاثوليكية من قِبَل المجلس الفاتيكاني الثاني.. بحيث لا يستطيع أيّ مؤمن الاستناد إلى نَصٍّ مُقَدَّس لارتكاب جريمة».

وأبادر بالقول: إن هذه الجرأة على مقدسات الآخرين هي من أقوى أسباب الإرهاب وأشدها وأكبر مُشَجِّع على إهدار دماء الآمنين، ويحزنني كثيرًا ألّا ينتبه قائلو هذا الكلام إلى كمّ الحقد والكراهية الذي يتركه كلامهم في قلوب أكثرَ من مليار ونصف مليار ممن يقدّسون هذا الكتاب، وقد رجعنا إلى مضابط الفاتيكان فلم نجد حذفًا ولا تجميدًا لأيّ حرف من الكتاب المقدس، وما وجدناه هو: أن المجمع الفاتيكاني وإن كان يُقِرّ بأن بعض اليهود من ذوي السلطان وأتباعهم هم المسئولون عن قتل المسيح، إلّا أن المجمع يرى أن ما اقترفته هذه الأيدي الآثمة لا يمكن أن يُنسب إلى كافّة اليهود في عصر المسيح عليه السلام ولا في عصرنا الحاضر، ثم يطالب المجمع سائر الكنائس بأن تراعيَ هذه الروح وهي تُعَلّم الإنجيل أو تَكْرِز به.

وأكد فضيلة الإمام الأكبر؛ أنه لا توجد آيةٌ واحدة في القرآن الكريم تدعو إلى قتل اليهود والنصارى، وليس في هذا الكتاب مكان لمثل هذه القسوة والوحشية.. وما ورد في القرآن من آيات تدعو إلى القتال إنما ورد في شأن العدوان ووجوب التصدي للمعتدي ومقاتلته، حتى لو جاء هذا العدوان من بعض المسلمين: ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ [الحجرات:9]، ولماذا يأمر القرآن بقتل النصارى واليهود؟ هل لإجبارهم على الإسلام وكيف يقول عاقل بذلك؟ وماذا يصنع بالآية التي تقرع أسماع الجميع بأنه: ﴿لا إكراه في الدين﴾ [البقرة: 256]؟ بل كيف يصنع بالحديث النبوي الشريف: «وأنه من كره الإسلام من يهودي أو نصراني، فلا يغير عن دينه...»؟ هل يأمر بقتالهم لأنهم آخر مغاير من الأميين؟! وكيف والقرآن يأمر بالبِرّ وبالقسط مع كل مَن لا يقاتل المسلمين حتى لو كان وثنيًّا! كيف والمنصفون من اليهود أنفسهم يُقِرّون بما نعموا به من العيش الآمن مع المسلمين، ويعترفون به للدولة الإسلامية في الأندلس وفي مصرَ وغيرِهما.

ونوّه فضيلته إلى أن الإسلام لم يأخذ اليهود المعاصرين بجريرة الأسلاف، ولم يخاطب يهود المدينة بخطابٍ واحد، بل كان في غاية الدقة وهو يتحدث عن اليهود بحسبانهم أمّةً فيها البَرُّ والفاجر مثل سائر الأمم بما فيهم المسلمون.. وقد سمع يهود المدينة هذه التفرقة بآذانهم بين المحسن والمسيء من أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين﴾ [آل عمران: 113-115]، كما سمعوا قوله تعالى في السورة نفسها: ﴿ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون﴾ [آل عمران: 75]، ثم يقول الله تعالى في الآية التالية مباشرة: ﴿بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين﴾ [آل عمران: 76]. ثم إن الوصف باللعنة والذلة والغضب في القرآن الكريم لم يكن مُوَجَّهًا لليهود جميعًا كما يريد البيان أن يتهم به القرآن.. بل كان مُوَجَّهًا للذين كفروا من أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل منهم: ﴿ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون﴾ [آل عمران: 110]، ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علىٰ لسان داوود وعيسى ابن مريم ذٰلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴾ [المائدة: 78]، ولم يقل: لُعن بنو إسرائيل.

وتابَع فضيلته: ولم تكن بنا حاجة إلى هذا التعقيب الموجز على البيان المذكور لو أن لدى من كتبوه ونشروه قدرًا من الشجاعة العلمية أو الأدبية أو الفنية ليعلنوا للناس: أن اليهودية شيءٌ والصهيونية شيءٌ آخَرُ، وأن اليهود شيءٌ والكِيان الصهيوني شيءٌ آخَرُ، وأنه لا يلزم من نقد الكِيان الصهيوني نقد اليهود والدين اليهودي، وأن مسألة «عداء السامية» هي أكذوبة لم تَعُدْ تنطلي على الشعوب الآن.. وهذا الذي قلتُه هو كلام بعض الحاخامات الأفاضل من حركة "ناطوري كارتا"، الذين دعوناهم في "مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس"، وجاءوا وأعلنوا هذا الذي سمعتموه مني، بل أعلنوا أكثرَ مما سمعتموه.. وعزائي كمسلمٍ: أن الذين أصدروا هذا البيان أغلبهم من صُنّاع السياسات، وليسوا من صُنّاع العقول والمعارف.

وفي ختام كلمته، تَقَدّم فضيلة الإمام الأكبر إلى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتهنئة قائلًا: كل عام وحضرتكم بخير وعافية وسعادة.. سائلًا اللهَ تعالى لسيادته المزيدَ من التوفيق والسداد.