اهتمت شريعتنا الإسلامية اهتمامًا بالغًا بالأسرة من بداية التفكير في تكوينها من خلال الزواج الذي يبدأ بالخطبة وما يتعلق بها من مسائل تفصيلية تبدأ بمواصفات الخاطب والمخطوبة، تلك المواصفات التي تضمن عند مراعاتها وضع لبنات الأسرة السعيدة القادرة على الاستمرارية ومواجهة مشكلات الحياة، وتحقق مقاصد الزواج التي منها إنجاب الأولاد وتربيتهم تربية سليمة في كنف ورعاية الوالدين.
وتبقى أحكام الشريعة موجهة وراعية لسفينة الأسرة ومحددة لحقوق وواجبات أطرافها تجاه بعضهم حتى بعد انتهاء رحلة بعض أطرافها بالموت، وذلك ببيان كيفية ميراث الأحياء تركة مَن مات، لكن هذه السفينة قد تتعرض رحلتها لعواصف لا تقوى على مجابهتها، وهي غالبًا ما ترجع إلى بداية تكوين الأسرة من عدم مراعاة توجيه شرعنا في مواصفات الخاطب والمخطوبة؛ حيث يختار الخاطب مَن لا تناسب حاله، وتقبل المخطوبة بمن لا تقوى على احتمال عشرته، إضافة إلى ترك المعالجة الشرعية في حل النزاعات التي تطرأ بين الزوجين من الوعظ والهجر والضرب الرمزي غير المبرح الذي يحذر من قرب انهيار الزوجية ما لم يتم التدارك، ثم تأتي مرحلة التحكيم من قبل أمناء على الطرفين ليقرر الحكمان مصير سفينة الزوجية سواء بمواصلة الإبحار بضوابط ملزمة لطرفيها أو إعلان نهاية الرحلة لاستحالة مواصلتها.
فإذا ما توقفت سفينة الزوجية عن الإبحار بدأت مشكلات حمولتها التي لا تسلم من الأضرار غالبًا، ويكون الخاسر الأكبر فيها غالبًا هم الأطفال الذين يخسرون دفء الوالدين وحنانهما؛ حيث غالبًا ما يبقى لهم حضن واحد هو حضن الأم الذي قد لا يبقى دافئًا نتيجة دخولها حربًا ضروسًا مع مطلقها، فإن كانت عاملة في وظيفة من الوظائف فإنه يضاف إليها وظيفة جديدة، وهي الذهاب والإياب بين أقسام الشرطة وقاعات المحاكم للحصول على النفقة وبقاء أطفالها في حضانتها؛ حيث يقاتل مطلقها هو الآخر أو قرابته في انتزاعهم منها!
وتعد حضانة الأطفال من أعقد المشكلات الناجمة عن انهيار العلاقة الزوجية، ففي كثير من الأحيان تُتخذ الحضانة ساحة لتصفية الحسابات والتنافس غير الشريف بين الأبوين، بداية من التنازع على الأحق بها، ومرورًا بتنافس كل من الأبوين على استمالة المحضون إليه وتنفيره من الآخر ولو باختلاق الأكاذيب، وليس انتهاء بنفقة المحضون ورؤية غير الحاضن له. وفي خضم هذا المعترك لا يمانع بعض الآباء من اتهام أم المحضون التي كانت زوجة له بعظائم الأمور التي يعد أقلها تسميم فكر المحضون بأن أمه هي مَن تسببت في حرمانه من أبيه، وفي المقابل تتشفى بعض الأمهات بغرس كراهية الأب في نفس المحضون حتى لا يقبل بانتقاله إلى حضانة أبيه يومًا ما. كل ذلك يحدث دون انتباه الآباء والأمهات إلى الأثر السلبي الخطير وحجم الأضرار النفسية التي تصيب الأطفال جراء هذه الحرب الضروس التي تدور بينهم والتي يشارك فيها قرابتهم مع الأسف من باب انتصار ابنهم أو بنتهم في هذه المعركة!
وهذه المعركة الشرسة التي تشتعل بين الأبوين المطلقين لا داعي لها من الأساس إذا التزم كل طرف بما أقرته الشريعة في هذا الباب؛ فقد وضحت شريعتنا الغراء كل ما يتعلق بالحضانة، وضمنت عدم تضرر الأطفال قدر الإمكان، وضمنت كذلك عدم ظلم أو حرمان أحد الأبوين من حقه الطبيعي في رؤية ابنه ورعايته ومتابعته في مراحله العمرية المختلفة، وما تقديم الشريعة لجانب الأم في الحضانة على جانب الأب إلا لحاجة الطفل في صغره إلى رعاية خاصة لا يقوى عليها الرجال، ولكون الطفل في صغره يحتاج إلى قدر كبير من الحنان والعطف والرعاية، والأم أقدر على ذلك نفسيًّا وعمليًّا، لكن إذا رأت الأم من نفسها أنها غير قادرة على القيام بأعباء الحضانة لانشغالها بعملها الوظيفي مثلًا، أو لعامل نفسي أو صحي؛ وجب عليها إسقاط حضانتها والتنازل عنها من أجل مصلحة ولدها حتى وإن لم يلزمها القانون.
وهذا التقديم للأم في الحضانة لا يعني بحال من الأحوال حرمان الوالد من ولده وانقطاع صلته به؛ فيبقى للوالد حق رؤية ولده ومتابعة أحواله والإشراف على تربيته وتهذيبه من غير تضييق ولا اقتحام لخصوصية الحاضنة، وليس للأم الحاضنة منع والد المحضون من رؤيته بالصورة التي نظمها القانون على الأقل، وإلا فالأفضل أن يتفق الأبوان المطلقان على ذلك حسب حال كل منهما وحاجة المحضون، وليس لها كذلك أن تسافر به من غير إذن والده، وكل واحد من الأبوين المطلقين أمين على ولده المحضون، فليحذر تضييع الأمانة بالتفريط فيما يجب عليه من حقوق، فكل ما يلزم المحضون من نفقة في حدود الاعتدال والقدرة واجب على الأب ولو كانت النفقة أكبر مما ألزمه به القانون نتيجة تفننه في إثبات ضعف دخله، ولو قتر في النفقة على الرغم من سعته كان عاصيًا لله، لقوله تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ».
ويجدر التنبيه في هذا السياق إلى أن تمسك الأب القادر بما حُكم عليه به من نفقة مع علمه أنها لا تكفي لرعاية ولده، هو عقوق لولده وظلم لحاضنته سيحاسب عليه يوم القيامة على الرغم من عدم مخالفته للقانون؛ لأن الحكم القانوني تقدير من القاضي بناء على ما قدمه الأب المطلق من مستندات وبيانات تحدد دخله، وغالبًا لا تكون معبرة عن دخله الحقيقي، وحتى لو كانت كذلك فإن حاجة الطفل للنفقة تتغير من آن لآخر تبعًا للظروف الاقتصادية والمرحلة العمرية، وهو ما يقتضي أن يزيد الوالد في النفقة من تلقاء نفسه.
ويحرم على أي من الأبوين المطلقين استغلال خلافه مع الآخر لغرس الكراهية في نفس المحضون، ففوق إثم فاعل ذلك وما سيجازى به في الآخرة على تنفير الطفل من أحد أبويه، فإنه يرتكب جريمة بتحطيمه نفسية المحضون، وهي جريمة من شأنها عدم سويته بعد كبره؛ حيث يكون كارهًا لوالده أو والدته قاطعًا لرحمه، وربما يتجاوز ذلك إلى سعيه للانتقام من مجتمعه!
ومن ثم، فإن على الآباء والأمهات أن يتقوا الله في أبنائهم بداية من حسن اختيار شريك الحياة، ومرورًا بحسن العشرة والإمساك بالمعروف، والصبر على مشكلات الحياة وأعبائها، وعدم التعجل بهدم الأسرة، وإن كان هناك تسريح فليكن بإحسان مع حسن المعاملة والمشاركة في تربية الأبناء حتى بعد الطلاق، وليضع كل من الأبوين المطلقين نصب أعينهما قول ربنا عز وجل: «وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ»، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته»، وليدرك كل منهما أن مصلحة الأطفال يجب أن تكون الهدف الأسمى بعيدًا عن النكاية وتصفية الحسابات.