22 نوفمبر, 2018

تقييد الزواج بين الشريعة والقانون

من المسائل القديمة الجديدة التي تخبو حينًا وتظهر أحيانًا مسألة زواج القاصرات أو الصغيرات، والناس فيها فرق شتى؛ فمنهم مَن يتوسع فيها غاية التوسع بما يخرج عن حد المعقول والمألوف، حتى إنه ليجيز زواج الطفلة ربما في مهدها، ومنهم مَن يضيِّق فيطالب برفع سن الزواج إلى ما بعد العشرين، وبين هذا وذاك يتوسط آخرون فيطالبون بترك الأمر للجهات المختصة في كل بلد لتحدد السن المناسبة للزواج بناء على بعض المعطيات التي منها المناخ البيئي وطبيعة النمو البدني والعقلي في هذا البلد أو ذاك؛ حيث إن لاختلاف البيئة ومناخها تأثيرًا لا يُنكر على نمو الأبدان وما يتبعه من نمو عقلي وفكري. وهناك فريق آخر يجتهد في تحديد سِن معينة يرون تعميمها وسَن القوانين الملزمة بها وتطبيقها في سائر البلدان دون تفرقة، وهؤلاء يختلفون في تحديد هذه السن، وغالبهم يرى أنها بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة، فهذه السن هي سن بلوغ الفتاة غالبًا، وهي التي تكون فيها الفتاة قادرة على القيام بأعباء الزوجية وما يتبعها من أمومة.

وسبب الخلاف في هذه المسألة بين الفقهاء قديمًا وحديثًا أن نصوص الشريعة لم تحسم سنًّا معينة للزواج، وفي الوقت نفسه نقلت كتب السنة والسير وجود حالات زواج بنى عليها البعض موقفه من زواج الصغيرات، وأشهر هذه الحالات زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فالسن المنقولة في كتب السنة والسير لخطبتها والبناء بها لا تتجاوز نصف سن الطفولة في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو ما دعا إلى التشكيك في هذا النقل وادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها في سن أكبر من السن المنقولة في غالب المصادر، في حين برر البعض ذلك باختلاف الزمان والمكان وأثرهما في نمو الأجساد والعقول.

وأيًّا كان الأمر، فالجميع متفق على أن للزواج أعباء وتبعات يتحملها الزوجان معًا ولا تقتصر على البنية الجسدية فقط، بل لا يقل النمو العقلي والفكري أهمية عن القدرة الجسمانية؛ فالزوج سيصبح والدًا، وستكون في رقبته مسئولية رعاية الزوجة والأبناء، ويا لها من مسئولية جسيمة خاصة في هذا الزمان! والزوجة كذلك يقع على عاتقها مسئولية كبيرة؛ فهي ليست لمتعة الأبدان وقضاء الشهوة فقط، بل إن الزوجة شريك في إدارة بيت الزوجية وتربية الأولاد، وربما تتحمل وحدها هذه الأعباء مضطرة أو مختارة، ناهيك بمحيطها العائلي - سواء كان هذا المحيط قرابة الزوج أو الزوجة - الذي يكون في بعض الأحيان أكثر عبئًا وأشد ثقلًا من أعباء الحياة وضغوط المعيشة بين الزوجة وزوجها، ولا شك أن ذلك يتطلب قدرة عقلية أكثر مما يتطلب من بنية جسمانية، فيكون الاتفاق عندئذ على عدم صلاحية الأطفال للزواج؛ لأن الزواج لا يقدر على أعبائه إلا البالغون الراشدون.

ومن ثم، يمكن حسم المسألة فقهيًّا ومجتمعيًّا؛ لأن غاية ما ذهب إليه مَن أجازوا زواج الصغار - ذكورًا كانوا أو إناثًا - هي الإباحة، وهذه الإباحة شرعًا لا تقتضي الوجوب ولا الإلزام؛ فالزواج في حكمه العام ليس واجبًا حتى للكبار، وما دام الأمر كذلك، فيمكن لولي الأمر المتمثل في جهات الاختصاص تقييد هذا المباح ببعض الضوابط التي تحقق المصلحة، بل يمكن لولي الأمر منع بعض المباحات إذا تبين إضرارها بأمن المجتمع واستقراره.

والمتتبع لنصوص شرعنا الحنيف يجد ذلك جليًّا؛ فحين أمَّنت أم هانئ بنت أبي طالب يوم فتح مكة صهرين لها من المشركين - وقيل زوجها - احتميا بها، وأراد سيدنا علي بن أبي طالب قتلهما، اختصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنصفها النبي وأمضى أمانها قائلًا: «أجرنا مَن أجرتِ يا أم هانئ»، ومعنى ذلك أن الشريعة تمكِّن آحاد الرعية من منح ما يمكن أن نسميه تأشيرة دخول لأراضي الدولة، مع ما يقتضيه ذلك من تمتع حامل هذه التأشيرة بحقوق الإقامة طوال المدة المتفق عليها، ومع ذلك لا يعمل أي ولي أمر في أي دولة بهذا المباح، ولا يمكن أن ينكر أحد ذلك على ولي الأمر بحجة ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الجميع يسلِّم بأن هذا الثابت عن النبي لا يفيد أكثر من الإباحة، ومن المسلَّمات كذلك أن هذا المباح أصبح لا يناسب زماننا وطبيعة العلاقات بين الدول في عصرنا، بل إنه بات يمثل خطورة على أمن المجتمع؛ فحُق لأولياء الأمر منعه وعدم الأخذ به.

ومع أن الزواج الذي هو مباح شرعًا لا يملك منعه ولي الأمر ولا غيره، إلا أنه يمكن تقييده، بل إنه في الحقيقة مقيد أصلًا بضمانات الصلاحية والقدرة بمعانيها كافة. وتقييد الزواج بسن محددة يراها الخبراء مناسبة لتكوين الأسرة، حق تكفله الشريعة لولي الأمر، بل تلزمه به عند اقتضاء الضرورة؛ فهو راعٍ ومسئول عن منع كل أمر يضر برعيته. ولا مراء ولا جدال في إضرار الزواج بالصغار وبخاصة الفتيات.

وإذ بات جليًّا جواز تقييد الزواج بسن معينة؛ فقد بقي تحديد السن المناسبة. وما دام هناك ما يشبه الاتفاق على عدم زواج الصغار ذكورًا كانوا أو إناثًا، فإن القوانين والمواثيق الدولية قد انتهت إلى أن سن الطفولة تمتد إلى الثامنة عشرة، ومن ثم تكون هذه السن هي الحد الأدنى لسن الزواج، ويحق لولي الأمر عندئذ معاقبة المخالف، لكن ينبغي إبقاء الباب مفتوحًا لولي الأمر - الذي يمثله هنا القضاء - للإذن بالتزويج قبل هذه السن متى رأى المصلحة في ذلك؛ فالواقع العملي يجعل من المهم جدًّا بقاء هذا الباب مفتوحًا، فمثلًا لو أن فتاة في السادسة عشرة تعرضت أسرتها لحادثة لم تبقِ منهم أحدًا، وهو ما يقع كثيرًا في الحروب وحوادث السير والحرائق وغير ذلك، وكانت هذه الفتاة تصلح للزواج ووُجد الشخص المناسب الذي يريد زواجها، لكنها دون السن المحددة، وانتظار بلوغها هذه السن قد يسلك بها طريق المعصية والضياع؛ فعندئذ يكون من المناسب جدًّا الإذن بتزويجها فورًا، وكذا حال مَن وقعت في الخطيئة والعياذ بالله، ثم تيسر تزويجها للستر وإن كانت دون السن المحددة. فمثل هذه الحالات يترتب على انتظار بلوغ السن فيها ضرر بالغ على الفرد والمجتمع.

 


كلمات دالة:
الأبواب: أخبار, مقالات