بسم الله الرحمن الرحيم

دور المنظمة الإسلامية في إندونيسيا في تجديد الفكر الإسلامي للتنمية الوطنية
أ.د. محمد دين شمس الدين
رئيس المجلس الاستشاري لمجلس علماء إندونيسيا
المبعوث الخاص السابق للرئيس الإندونيسي للحوار و التعاون بين الأديان والحضارة

التمهيد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. فأتوجه بالشكر والتقدير لراعي المؤتمر السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى رئيس جمهورية مصر العربية، وإلى جمهورية مصر العربية الشقيقة حكومة وشعبا على حسن الاستقبال وكرم الضيافة والاهتمام.

والشكر موصول لفضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد محمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، ولأصحاب الفضيلة علماء الأزهر الشريف على الدعوة الكريمة للمشاركة في أعمال وفعاليات المؤتمر.

ويشرفنى أن أنقل لأصحاب الفضيلة علماء الأمة الإسلامية أعضاء المؤتمر تحيات ودعوات مجلس علماء إندونيسيا بأن يكلل الله سبحانه وتعالى جهودكم وأعمالكم بالتوفيق والسداد لما فيه خير الإنسانية و الأمة الإسلامية .

هذا المؤتمر مهم وفي وقت مناسب حيث ينعقد أثناء فساد العالم المتراكم الذي يظهر و يؤلم الحضارة الإنسانية. وصدر هذا الفساد المتراكم من النظام العالمي المبني على نظرية علمانية الليبرالية الذي حمل ليبراليات فى مجال الاقتصاد والسياسة والثقافة والخلقية وما أوسع من ذلك. ومن ثم فإن الحضارة الإنسانية العالمية فى حاجة ماسة إلى التغيير والإصلاح. انطلاقا من الإسلام كدين الحضارة والوسطية فللمسلمين مسؤولية كبيرة لتقديم البديل الحضاري. ولذلك تجديد الفكر الاسلامي يصبح برامجا مهما لابد إقامته.

هذا، وإن المسلمين يحملون على عاتقهم مسؤولية كبيرة تجاه جيلهم والأجيال القادمة- خاصة في هذا الوقت- حتى تنتقل الإصلاحات إلى الأجيال القادمة قبل تدهورها أكثر فأكثر، وقد أخذ المسلمون في إندونيسيا- بحمد الله- هذا الدور الإيجابي الرائع، وأصبحوا مضرب المثل في التعاون والتنمية والإصلاح والانفتاح على جميع الأديان والطوائف مجتمعًا وحكومةً.

المنظمات الإسلامية والدولة في إندونيسيا
1. تتمتع إندونيسيا بوجود عدد كبير من المنظمات الإسلامية، التي تبلغ أكثر من مائة منظمة، حيث يصل أتباعهم إلى الملايين، وتعرف هذه المنظمات (بمنظمات المجتمع المدني)، وهي حركات ثقافية تهدف إلى ترسيخ القواعد الأساسية في الحياة الاجتماعية، إضافة إلى ذلك فهذه المنظمات تقدم خدمات صحية، وتربوية، واجتماعية، واقتصادية، إلى قطاعات كبيرة في المجتمع.

2. تأسست بعض هذه المنظمات في أوائل القرن العشرين قبل استقلال إندونيسيا، ومن المسلم به أن أفكار قادتها ألهمت كثيرًا من المناضلين في سبيل تحرير البلاد. لقد سجل التاريخ الإندونيسي أن عددًا كبيرًا من قادة البلاد كانوا رؤساء للمنظمات الإسلامية، منهم: المهندس أحمد سوكارنو -مؤسس الدولة ومعلنها-، والجنرال سوديرمان، وهما من الجمعية المحمدية، والشيخ واحد هاشم –عضو اللجنة التسعة للتخطيط الدستور الوطني- من جمعية نهضة العلماء، بينما السيد سوكرو أمينوطو من شركة الإسلام. وقد إشتهر هؤلاء بأنهم أصحاب الأفكار الرئيسية والمبادرة للدستور الوطني المعروف بالدستور 1945. وقرر فيه أساس الدولة الذي سمي ببانجاسيلا أو (المبادئ الْخَمْسَة): 1). الإلهِيَّة الْواحدة، 2). الإِنسانية الْعاد لة الْمُهذَّ بة، 3). وحدة إندونيسيا، 4). الشَّعبيّة الموجّهة بالحكمة في الشُّورى النيابية 5). العدالة الإِجتماعيَّة لِكافة الشعب الإندونيسي. وهذه المبادئ الخمسة لإندونيسيا تمتاز بصبغة إسلامية ذات مفاهيم وسطية.

3. إن بانجاسيلا أو المبادئ الخمسة تحتوي على قيم إسلامية، وهو ما ظهر بمعرض خطاب شيخ الأزهر الشريف الافتتاحي بالملتقى التشاوري العالمي للعلماء والمثقفين عن وسطية الإسلام، بمدينة بوجور، عام ٢٠١٨م، حيث قال: إن بانجاسيلا إسلامية الاتجاه، علمًا بأن جميع مبادئها الخمسة بعد دراسة معمقة تمثل قيمًا إسلاميةً.

4. كما يكون الدستور الإندونيسي الذي سُمِّيَ بالدستور ألف وتسعمائة خمسة وأربعين 1945 هو بلورة القيم الإسلامية في حياة الأمة والدولة. إندونيسيا هي دولة تقوم على نظام الحكم الجمهوري الرئاسي ومع مؤسسات الدولة مثل مجلس النواب تمثل أحد مظاهر الفكر السياسي لأهل السنة والجماعة في السياق المحلي الإندونيسي. بالإضافة إلى ذلك ، فإن النظام الاقتصادي المطبق، وهو ليس الرأسمالية وليس الاشتراكية، ولكنه نظام إقتصادي تقوم على أساس الأسرة، يعكس الطريق الأوسط ويعزز مبدأ التعاون المتبادل المدروس في الإسلام. وكذلك، يجب أن تتحكم الدولة في الموارد الطبيعية (لا يتم تسليمها إلى آلية السوق الحرة) وهي ممارسة حديثة في أن الماء والنار والأعشاب لا يتم تسليمها لكثير من الناس. هناك العديد من الأشياء الأخرى التي يمكن أن تثار باعتبارها انعكاسًا للتعاليم الإسلامية. بما في ذلك في هذه الحالة ، فإن شعار الأمة "الوحدة في التنوع"، على الرغم من الاختلاف الديني والعرقي و اللون وخلفيات أخرى ولكنهم"واحد" ، وهذا هي تعاليم إسلامية حول الحاجة إلى الأخوة الوطنية والإنسانية.

5. هذا هو الإسلام والمسلمين في إندونيسيا. باعتباره الجزء الأكبر من الشعب الإندونيسي (88٪ من حوالي 260 مليون نسمة)، فقد لعب المسلمون دورًا رئيسيًا في الكفاح من أجل دعم الاستقلال الإندونيسي. عندها يتحمل المسلمون مسؤولية كبيرة عن تقدم إندونيسيا في الحال والمستقبل. ومع ذلك ، لم يختار مؤسسو دولة إندونيسيا وضع الدولة الثيوقراطية كما لم يختاروا أيضًا شكل دولة علمانية. العلاقة بين الدين والدولة في إطار المبادئ الخمسة هي علاقة تكافلية متبادلة. على الرغم من أنها ليست دولة دينية ، فهي تحترم الدين وتمنح المواطنين الحرية الدينية والعبادة وفقًا لدينهم. يمكن مقارنة هذه الصيغ مع صيغ العالم السني الغزالي القائل"إن الدين والملك توأمان". هذا هو مبدأ الوسطية في تصميم المباني الضخمة في إندونيسيا. لذلك بالنسبة للمنظمات الإسلامية ، مثل "نهضة العلماء" ، فإن بنجاسيلا أو المبادئ الخمسة هي الشكل المثالي والأخير للشعب الإندونيسي المتعدد. هناك منظمة إسلامية أخرى مثل"محمدية" تعتبر بنجاسيلا أو المبادئ الخمسة دار العهد في الشهادة. دار العهد تعني البلد الإندونيسي الذي إتفق فيه شعبه بتوافق وطني، البلد بكل تنوع الأمة والطبقات والمناطق والقوى السياسية ، وافق على تأسيس إندونيسيا. أما دار الشهادة يعني البلد الإندونيسي بعد إستقلاله يجب على شعبه الحضور والشهادة بالجدية لتطوير الدولة بالعدالة والكرامة والازدهار، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بمشاركة جميع عناصر الدولة والشعب.

٦. على ضوء ذلك، تواصل المنظمات الإسلامية الإندونيسية مساعيها، لتسهم بفعالية فى الحياة الاجتماعية والشعبية وفقا لأهداف مؤسسي هذه البلاد، فإن إندونيسيا التى تتمتع بالوحدة والعدالة والرفاهية والاعتماد على النفس، بمثابة بلدة طيبة ورب غفور عند بعض المنظمات الإسلامية في حين يقارنها الآخرون بالمدينة الفاضلة عند الفيلسوف الفارابي.

الجمعية المحمدية
المنظمات الإسلامية بإندونيسيا تشكل جزءًا أساسيًّا من المجتمعات المدنية، وهذه المنظمات تعمل على تقوية الثقافة الاجتماعية؛ ولذلك تقوم- من خلال المجهودات الذاتية- بإنشاء المدارس، والمعاهد الإسلامية، والجامعات، والمستشفيات، ودور الأيتام، والمصارف الشعبية (صندوق المال الشرعي)، والشركات، ومراكز الإعلام.
وعلى سبيل المثال: الجمعية المحمدية، التي تأسست عام ١٩١٢م، من أقدم و كبار المنظمات الإسلامية بإندونيسيا، و تمتاز هذه المنظمة بنفوذها السياسي الهائل على الرغم من أنها ليست منظمة سياسية؛ بل إن السياسة التي تمارسها لا تهدف أبدًا للحصول على السلطة، وإنما تهدف سياستها لتقوية الأخلاق وتدعيمها في المجتمع، ومن ثم ليس هناك صراع بين الحكومة والمحمدية، علمًا بأن لهما مصالح مشتركة متبادلة. فالمحمدية تلتزم بموقفها الموالي تجاه الحكومة مع ممارسة النقد البناء إذا وجدت أسبابه، فهي خاضعة لسياسة الحكومة الشرعية، وموقفها النقدي إنما يكون من أجل الخير و الإصلاح لصالح البلاد والعباد. إن الجمعية المحمدية حركة إسلامية تواصل جهودها لتنمية المفاهيم الدينية الصحيحة على منهج القرآن والسنة النبوية. ويقوم منهجها على الجمع بين التجريد والتجديد بصورة متوازنة، فيكون الثبات في العقيدة والعبادة، كما تراعي المتغيرات في المعاملات والأمور الدنيوية. وبناء على هذا المنهج المتوازن، لا تقتصر المحمدية على تدريس العلوم الدينية الشرعية فحسب، ولكنها تضم إليها العلوم الحديثة، فتجمع بذلك بين النظرية والتطبيق.

اختارت المحمدية- كجميعة دعوية إسلامية- منذ إنشائها الدعوة التنويرية، التي تقوم على ثلاثة مفاهيم ومضامين كبرى، هي: التحرير، والتقدير، والتطوير. واتبعت في تحقيق أهدافها وإيصال رسالتها أسلوب التخطيط الاستراتيجي وحسن التدبير والتصرف. فالإسلام خاتم الرسالات السماوية، وعقيدته وشريعته تأسست على العبودية لله سبحانه وتعالى، والعلم النافع والعمل المتقن؛ من أجل عمارة الأرض، وتزكية النفس، والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي. ويرشدنا القرآن الكريم إلى احترام التنوع والتعدد العرقي والديني واللغوي، وهذا التنوع والتعدد من أجل التعارف والتعاون، وتبادل المنافع والمصالح.

لقد حمل مؤسس المحمدية رسالة ومهمة احترام الإنسانية، والاهتمام بالضعفاء والمستضعفين، واحترام قيمة الوقت والانضباط، والإسهام الفعال في الإنتاج مستلهمًا ذلك من سورتي الماعون والعصر، مما أسهم في تنمية وتطوير الأفراد والأسر والمجتمع في إندونيسيا. وبهذه القيم والمبادئ تقدمت الأمة الإسلامية، ونشرت الإسلام في ربوع العالم، وأسهمت الحضارة الإسلامية مساهمة فعالة في الحضارة الإنسانية والتقدم العلمي.

المحمدية تدير١٤٠٠٠ مدرسة بجميع مراحلها التعليمية، و١٧٠ جامعة، و٤٨٠ مستشفى، و٣٠٠ دار للأيتام، و٣٥٠ بيتًا للمال، بالإضافة إلى العديد من الشركات التجارية في أنحاء إندونيسيا و خارج إندونيسيا. وبالدعم من ٣٥ مليون عضو أصبحت المحمدية قوة اجتماعية متحضرة وفعالة.

الختام
في ضوء ما سبق، يظهر لنا واضحًا جليًّا أن موقف جمعية المحمدية والمنظمات الإسلامية الإندونيسية هو تحقيق مبادئ وسطية الإسلام التي تشمل: الاعتدال، والتوازن، والشورى، والتسامح، والقدوة، والمواطنة. فإن المواطنة- كما بحثها العلماء والمثقفون بالملتقى العالمي عن وسطية الإسلام، الذي حضره الإمام الأكبر أ.د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وألقى الكلمة الرئيسة له، في ١-٣ مايو ٢٠١٨ بإندونيسيا- عنصر مهم من عناصر وسطية الإسلام تهدف إلى أداء الواجبات لتنمية البلاد والشعب وفقًا لمبدأ "حب الوطن من الإيمان"، وهو ما يفسر لنا أن العديد من المنظمات الإسلامية شعارها الخاص، هو: خادم الأمة، وصديق الحكومة.

وجدير بالذكر، أن مفهوم الوطنية فى الثقافة الإندونيسية له دلالة شرعية، وهو من اجتهاد مؤسسي الدولة وعلى رأسهم شيوخ وقيادات المنظمات الإسلامية بعد الاستقلال لتأثرهم بمفاهيم السياسة الشرعية المبنية على المصالح المرسلة وتبادل المنافع ودرء المفاسد وجلب المصالح وتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية، حيث يعد الإسلام المكون الرئيس فى الثقافة الإندونيسية متعددة الأديان والأعراق. وهذا يختلف عن المنظور الاندماجي الذي يرى ضرورة الجمع بين الدين والدولة وكذلك منظور علمانية الليبرالية الذي يفصل الدين عن الدولة. وهذا الاجتهاد الاندونيسي ينطبق مع الرأي العام لسكان البلاد علما أن الأغلبية مسلمون ولا شك أن الإسلام له دور كبير فى تكوين الثقافة الشعبية.