كانت المرأة ولا تزال محل العناية والرعاية في شريعة الإسلام، ونظرة مجردة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجتهادات الفقهاء، تظهر مدى المكانة التي ارتقت إليها المرأة وتبين تبدل حالها من الذلة والمهانة في الجاهلية إلى العزة والكرامة في الإسلام، ولا نبالغ إذا قلنا إن حالها تحول من النقيض إلى النقيض؛ فقد جعل لها الإسلام ذمة مالية مستقلة لم تعرفها في الجاهلية، وجعلها جوهرة مكنونة يجب صيانتها وحمايتها، وأخبرنا الإسلام أنهن شقائق الرجال، وأن بر الأم ثلاثة أضعاف الأب واجب حتمي على الأبناء، ويكفي أن إكرام المرأة واتقاء الله فيها من خواتيم وصايا سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم.
وعلى الرغم من هذه المنزلة السامية والمكانة الرفيعة التي بلغتها المرأة في الإسلام، فإن هناك تناولا خاطئا لما يتعلق بالمرأة في زماننا؛ حيث يتأثر هذا التناول بالعاطفة الجانحة إلى التحيز للمرأة في بعض الأحيان أو ضدها في كثير من الأحيان فيما يعرف بالخطاب الذكوري الذي كثيرا ما يظلم المرأة لصالح الرجل، فيخرج مشوها لا يضيف إلى الرجل ولا ينقص من حقيقة مكانة المرأة في الإسلام، وكلا الخطابين يحيدان عن ميزان الاعتدال والإنصاف في تناول هذه المسألة، والخير كل الخير في التمسك بالتناول الإسلامي المنصف للرجال والنساء على السواء دون حاجة إلى تكلف ولا تحزب لا من الرجال ضد النساء ولا من النساء ضد الرجال، بل ربما يسيء للمرأة بعض المتحيزين لها من حيث أرادوا الإنصاف في زعمهم، فدعوى التجديد القائمة هذه الأيام على التشكيك في بعض الأحكام المتعلقة بالمرأة كفرضية الحجاب على سبيل المثال ليست من التجديد ولا من إنصاف المرأة في شيء، بل من حق المسلمة أن ترى مثل هذه الدعاوى من السعي لإفقادها بعض مكتسباتها الشرعية التي كرمها الله بها في ظل الإسلام. ودعوى التجديد لإنصاف المرأة في الميراث المحدد بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، ليست من التجديد ولا من الإنصاف في شيء، فالمتأمل في هذا الأمر يدرك أن كون المرأة على النصف من الرجل في أربع حالات فقط، هو عين العدل والإنصاف؛ وذلك لزيادة أعباء الرجل في الحياة عن المرأة، فالمرأة التي أخذت نصف ما أخذ الرجل قد لا تحتاج إلى شيء من نصيبها هذا أصلا؛ لكفالتها من رجل يتزوجها ويمهرها وينفق عليها، وهو حال أخيها الذي شاركته الميراث، ولا علاقة للذكورة والأنوثة بالقسمة في الأساس؛ حيث إن المرأة في حالات أخرى تساوي الرجل تماما في النصيب المستحق من الميراث، فالسدس هو نصيب الأب والأم في وجود الحفيد، وهو نصيب الجد والجدة، والأخ لأم والأخت لأم، والنصف هو نصيب الأخت مساوية زوج أختها المتوفاة، وهناك حالات يزيد فيها نصيب المرأة على الرجل، فللبنت النصف وللزوج الربع، وهناك حالات أخرى ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل، فالسدس هو نصيب الجدة لأم والجد لأم لا شيء له
إن بقاء كثير من الآراء الواردة عن السلف الصالح من الفقهاء فيما يتعلق بالمرأة جامدة لا ينالها التغيير أو إعادة النظر بدعوى ورودها عن فقهاء ثقات؛ لا يمت للتجديد المنشود بصلة؛ إذ إن أقوال الفقهاء المبنية على اجتهادات تستند على الأعراف الشائعة وأحوال الناس في زمانهم، أو تستدل بتأويل ما لنصوص ظنية الدلالة وإن كانت قطعية الثبوت؛ هذه الأقوال ليست ملزمة ولا مقدسة، بل يجب على أولي الأبصار إعادة النظر فيها واستظهار ما يناسب زماننا وأحوالنا منها، وهو الشيء الذي كان سيفعله هؤلاء الفقهاء الأجلاء لو كانوا بيننا الآن، فليس من المناسب في هذا الزمان مطالبة المرأة بالبقاء في بيتها حبيسة الجدران مع حاجة المجتمع إليها في كثير من الأعمال التي قد لا يحسنها الرجال. وليس من المقبول منعها من السفر مع قافلة مأمونة من الرجال والنساء على الرغم من الاتفاق على جواز سفرها مع صبي أو شيخ مريض من محارمها، وكلاهما لا يقوى على حمايتها، بل مثلهما في حاجة إلى رعايتها له ودفاعها عنه إن اعتُدي عليه. وليس من المعقول القول بأن علاج المرأة إن مرضت غير واجب على زوجها استنادا إلى قول أكثر الفقهاء قديما، وهو ما يسيء إلى الفقهاء القائلين بذلك قبل أن يكون «اعتداء» على اجتهاداتهم؛ لأن هذا الرأي وإن كان قول أكثرهم إلا أن بعضهم أوجبه على الزوج، ونظرة سريعة في بعض كتب المالكية والحنابلة تقطع الشك باليقين؛ فهناك آراء صريحة في وجوبها على الزوج كنفقة الطعام والشراب.
وقبل أن يصب بعض الناس جام غضبهم على الفقهاء ويحسبون أن ما ذكروه سقطة توجب ترك تراثهم بالجملة، فعلى هؤلاء أن يعلموا أن التداوي من الأمراض في زمن هؤلاء الفقهاء لم يكن من الحاجات الأساسية، فقلة الطعام وكثرة السعي والعمل والتزامهم بحياة خشنة أكسبهم صحة وجنَّبهم أمراضا تفتك اليوم بنسائنا ورجالنا على السواء، كما أن التداوي لم يكن مكلفا كما هو الحال في زماننا، أمَا وقد تغير الحال وأصبحت الحاجة إلى التداوي كالحاجة إلى الطعام والشراب حتى أصبح الدواء ملازما لكثير من الرجال قبل النساء يتناولونه قبل الأكل أو بعده وربما في أوسطه وكأنه جزء من الطعام والشراب؛ فتكون نفقة علاج المرأة إذن واجبة على الزوج بلا نزاع دون خروج عن اجتهاد من لم يوجبه من الفقهاء، لكن ذلك لا يعقله إلا العالمون المتجردون.