19 مارس, 2017

وكيل الأزهر يكتب.. الآثار من وجهة نظر الإسلام

مقال بقلم أ.د / عباس شومان

ترتبط كلمة الآثار في أذهان كثير ممن يعانون من مشكلة في الفهم الصحيح للديانات السماوية وبخاصة دينُنا الإسلامي، بالأصنام التي كانت تُعبد من دون الله في الجاهلية، والتي كانت محور رسالات أنبياء الله بداية من الخليل إبراهيم عليه السلام وانتهاء برسولنا الأكرم عليه الصلاة والسلام؛ حيث كان مدار دعوة الأنبياء والرسل هو توحيد الله عز وجل وترك عبادة الأوثان، وفات أصحاب هذا الفهم السقيم عدة أمور يجب عليهم معرفتها ووعيها لعلها تفيدهم في علاج حساسيتهم المفرطة تجاه التناول الفكري لقضية الآثار، تلك الحساسية التي أدت ببعضهم لارتكاب فظائع التعدي على هذه الآثار وتحطيم الكثير منها، مع ما في بعضها من قيمة كبيرة، فقد تنسى الأجيال القادمة جزءا مهما من تاريخ أمتهم وأجدادهم في حال زوال الأثر الذي كان يدل عليه دلالة ملموسة تدرك بالحواس وكأنك تعيش في زمانهم، وما فعلته طالبان وداعش عنا ليس ببعيد.

وللوقوف على حقيقة الفرق بين الآثار والأصنام التي كانت تُعبد في الجاهلية، يجب توضيح عدة أمور:

• الأمر الأول: أن كلمة الأثر لا تقتصر فقط على الأحجار التي نحتها مبدعو عصرها تجسيدا لشخصية ملك أو حاكم أو عظيم من العظماء، وهي التي كان يطلَق عليها في صدر الإسلام كلمة الأصنام أو التماثيل، وهو اسمها المسجَّل في كتاب الله عز وجل، حيث قال تعالى: «وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ» [الأنبياء: 51]، وقال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ)) [إبراهيم: 35]

وكلمة «الآثار» أعمُّ من هذه المجسَّدات، فهي تشمل كل ما يحمل رمزية تاريخية أو علمية بعد مرور فترة زمنية معينة على تشييده. وإذا كان الأمر على ما يدعي هؤلاء، فإن الكعبة المشرفة، وبيت الله الحرام، والمساجد التي تأسست في زمن النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - والقرون الأولى بعده، وتلك الكنائس والمعابد التي توارثها الناس عن أجدادهم... كل ذلك وغيره يعد من «الآثار» قولا واحدا بناء على رؤية هؤلاء، فهل يفرق هؤلاء المرضى فكريا بين أثر وأثر فيحرمون بعضها ويقدسون الآخر، أم أنهم يعتقدون وثنية الكعبة المشرفة التي طاف الجاهليون حولها عُراة وازدحمت الممرات حولها بالأصنام إلى أن أزالها الإسلام؟! لقد استمرت الكعبة يُطاف حولها، ويسعى الحجاج بين أثري الصفا والمروة، ويقفون وجوبا على أثر عرفات، ويرمون الجمرات، ويزورون المشاهد، وكلها من الآثار بالمعنى الواسع للكلمة وليس كما يفهم هؤلاء! فإن كانت حساسيتهم مطلقة ضد «الآثار» من غير تفريق، ففي عقيدتهم مقال! كيف لا وهم يصطدمون مع ركن من أركان الدين على الأقل، وهو حج بيت الله الحرام؟! وإن كانوا يفرقون بين «الآثار» الدينية وغيرها، فلا يخلو موقفهم من أمرين: إما أنهم يحترمون الإسلامي منها وغير الإسلامي، فيُحمد هذا لهم، ولكن عليهم الاستدلال على هذا التفريق بين الديني والدنيوي من الآثار حتى لا يكون تفريقا بلا مفرق، وهو ما يعبر عنه الأصوليون بالتحكم.

أو أنهم يفرقون بين الإسلامي وغير الإسلامي، فالمشكلة أكبر؛ لأنهم بذلك لا يدركون أن الرسالات السماوية كلها رسالات إسلام وسلام، غاية الأمر أن الرسالة التي جاء بها سيد المرسلين هي الخاتمة والمتممة، ولا أعتقد أن أحدا يجهل أن مناسك الحج تكرار لأفعال فعلها أبو الأنبياء خليل الرحمن وولده إسماعيل وأمه، سلام الله على الجميع، وأحسب أنهم تلوا يوما أو سمعوا قول ربنا عن سيدنا إبراهيم: «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» [الحج:78]، وقوله تعالى: ((وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)). [البقرة: 125]

الأمر الثاني: أن هؤلاء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون بفكرهم المختل هذا، لا يدركون أن تحطيم الأنبياء للأصنام لم يكن لذات الأصنام والتماثيل لكونها على صورة إنسان أو حيوان ونحوهما من مخلوقات الله، وإنما كان لتصحيح معتقد الناس فيها باعتبارها آلهة تُعبد من دون الله، أو لأنها على أقل تقدير يُتوسَّل بها إلى الله عز وجل وكأنها واسطة بينهم وبين الخالق، كما جاء في قول الله تعالى على لسانهم: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» [الزمر: 3]، ولذا لم يتعرض الأنبياء ولا من جاء بعدهم للمجسَّدات التي افتقدت هذا التقديس من الناس حولها في مصر والعراق وغيرهما. وهذه التماثيل التي توجد في متاحف العالم الآن لا قداسة لها ولا اعتقاد في نفعها أو ضرها من قبل المعاصرين أو حتى في صلاحيتها للتوسط بينهم وبين الخالق جل وعلا، ونعلم من شريعتنا وما استقر عليه سلفنا الصالح أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وحيث خلت هذه الآثار وما تشتمل عليه من تماثيل من شبه الإضرار بالعقيدة؛ فلا مدخل للمطالبة بتحطيمها أو التخلص منها، بل يجب اعتبار هذا الفعل جناية على ذاكرة الأمم منافية للفهم الصحيح لحقيقة الأديان ومراميها.

الأمر الثالث: هناك عدة أسئلة لا بد من طرحها على هؤلاء ربما يكون لديهم إجابات بشأنها فيفيدوننا بها: إذا كان الأنبياء ومن جاء بعدهم في القرون الأولى قد تصدوا لتقديس الأصنام وحطموا الكثير منها، فلماذا لم يتعرض من خلفهم لتراث العراق كما يفعل الدواعش الآن، وقد كانت حاضرة الخلافة وبها عاش ومات جموع من كبار الصحابة؟! ولماذا بقيت آثار مصر وغيرها بعد الفتوحات الإسلامية لم تُمس بسوء من الفاتحين الذين تعلموا صحيح الدين على يد المعلم الأول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؟! ومن أين أتى أصحاب الفهم السقيم هؤلاء أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أو من جاء بعده من الصحابة هدموا كنيسة أو معبدا وحطموا ما به من تماثيل، أم أن لهؤلاء مصادر تشريع أخرى لا نعرفها؟! وهل حققت «طالبان» ومن بعدهم من الدواعش نصرا للإسلام وتحسينا لصورته وإثباتا لتحضره ورقيه بأفعالهم الإجرامية التي شملت البشر والحجر؟ وهل أدركوا أن كل مِعول ضربوه في تمثال طمس مظهرا حضاريا مشرقا في شريعتنا السمحة يحتاج إظهاره ربما أطول من عمر التمثال الذي لم يكن يعرفه كثير من الناس قبل أن يشتهر بتحطيمه على يد هؤلاء؟! وهل تحطيم هؤلاء الدواعش المجرمين للتماثيل نابع من اعتقاد حقيقي بأضرارها ومنافاتها لصحيح عقيدة المسلمين؟! وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يحطمون تمثالا ويبيعون العشرات؟!