23 مارس, 2017

حرية الفن والإبداع من وجهة نظر إسلامية

مقال بقلم وكيل الأزهر أ.د / عباس شومان

لسنا في حاجة عند حديثنا عن نظرة الشريعة للآداب والفنون إلى إفراط المغالين الذين صبغوا الفنون والآداب بأحكام التحريم والمنع دون تفريق، ولا إلى تفريط المفرطين الذين يطلقون العنان حتى للتطاول على المقدسات، بل والذات الإلهية في بعض الأحيان بدعوى حرية الفن والإبداع، فالشريعة الإسلامية لا تقف عائقا أمام استفادة الناس بما تتفتق عنه العقول البشرية مما ينفع الناس، بما في ذلك الأدب والفن الذي يعد سجلا لتدوين أفراح الشعوب وأتراحها، وإحدى وسائل الترفيه على الناس وتخفيف ضغوط الحياة وصخبها عنهم، وتصوير آلامهم ومعاناتهم وتقديم حلول واقعية لمشكلاتهم، وقد أذن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - باستمرار غناء فتيات في بيته في يوم عيدهن، ونحفظ جميعا مشاركته لصحابته الكرام شحذ الهمم في حفر الخندق بقوله فيما روي عنه: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة»، وكان - صلى الله عليه وسلم- يسمع الشعر من الشعراء ويكافئ عليه، ومن أشهر شعراء الصحابة حسان بن ثابت، وقد تسببت أبيات من قصيدة شعرية في العفو عن هاجي الرسول بعد إهدار دمه، ومما نحفظ في هذا الإطار: «روّحوا عن القلوب ساعة، فإن القلوب إذا كلّت عميت».

لكن هذا الفن الذي تقره الشريعة يختلف اختلافا كبيرا عن كثير من ألوان الفن في زماننا، فالفن الذي لا يتنافى مع الشريعة هو الفن الذي يلتزم بضوابط الشرع ولا يخرج عن أعراف المجتمعات وأخلاقياتها، ويحسب كثير من العاملين في مجال الفنون والآداب أن العمل الفني أو الأدبي لن يلقى قبولا إذا تقيد بضوابط الشرع لأنها تحده بالمألوف المتعارف عليه، بينما «الإبداع» كما يحلو للكثيرين إطلاقه على بعض الفنون لا يحده حد وإنما ينطلق إلى المدى الذي يبلغه خيال مبدعه، وهذا اعتقاد خاطئ تماما بدليل إقبال السواد الأعظم من الناس على متابعة الأعمال الفنية التي اقتربت كثيرا من الواقع الذي يعرفه الناس من خلال الكتابات التاريخية التي تناولتها أعمال فنية سواء تعلقت بجوانب دينية أو ملاحم وبطولات شعبية من دون حاجة إلى إثارة أو إسفاف بزعم رغبة المتابعين في ذلك وإقبالهم عليه، والواقع أن المتابع «تعود» على هذا النوع دون أن يرغب فيه، بل إن هذا النوع من الفن فُرض على المشاهد فرضا وإن صادف حاجة في نفوس البعض ولا سيما بعض الشباب، ولذا امتنع كثيرون وابتعدوا عن متابعة مثل هذا الفن الهابط الذي يتعارض مع ما استقر في وجدانهم وتأصل في نفوسهم من أخلاقيات وقيم تمنع فتح حدود الإبداع إلى ما لا نهاية.

ولذا، تجد التناوش بين بعض القائمين على الفن والعاملين في مجالاته، والراغبين في تقييد الفنون بالضوابط التي تراعي ثقافات المتابعين وأخلاقيات المجتمع، ولما كان علماء الدين في غالبهم من هذا النوع الأخير فإنهم يوصفون بالجمود ويتهمون بتقييد حرية الفن والإبداع، وربما التخلف عن ركب الحضارة والتطور، وأن عليهم أن يجددوا فكرهم ليستوعب مستحدثات الفنون على إطلاقها، بل لاستنباط حكم شرعيتها من نصوص الشرائع التي يتبعونها بما في ذلك شريعة الإسلام بطبيعة الحال! ولست أدري كيف يمكن أن تستوعب شريعة الإسلام الكذب الذي لا تكتمل الحبكة الدرامية من دونه غالبا؟! وكيف يمكن أن نستدل من خلال نصوصها على كشف العورات وتبادل القبلات وما بعدها؟! وكيف تقر الشريعة الغراء المجون والانحلال، والتنابز بالألقاب، والهمز واللمز بالآخرين، وتعليم العنف للأطفال والشباب تقليدا لأبطال تلك الأعمال، وغير ذلك مما يفسد حياة الناس ويتصادم ونصوص الشرائع السماوية الواضحة وليس فقط شريعة الإسلام؟!

إن التعبير الفني بكل صوره وأشكاله يمكن أن يمارس دون أن يتصادم مع أحكام الشرائع السماوية، بل إنه يعول عليه أحيانا في الإسهام بقدر كبير في تقديم حلول لمشكلات البطالة والإدمان والتفكك الأسري وغيرها من الأمراض الاجتماعية، وتوعية النشء والشباب بتاريخهم وثقافتهم وحضارتهم الممتدة في أعماق التاريخ، وتقوية النسيج المجتمعي بين شركاء الوطن الواحد، ونبذ العنف والتطرف، وغرس روح الانتماء والوطنية في نفوس الصغار والكبار، ودفع عجلة التنمية، وتمتين العلاقات والشراكات بين الأمم والشعوب... إلخ. هذا ما ينبغي أن يكون، وهذه هي الرسالة السامية للفن والإبداع، وما على القائمين على هذه الصناعة إلا تحويل مسارها وهدفها من مجرد التسلية وكسب بعض المال أو كثيره إلى فن نظيف هادف يقترح حلولا للمشكلات يمكن تطبيقها على أرض الواقع، ويظهر مساوئ السير في عكس الاتجاه الصحيح كما يحدث في كثير من الأحيان، فعلاج التطرف والإرهاب لا يكون بالدخول في تفاصيل كيفية صنع الإرهابيين للقنابل ووسائل تفجيرها، ولا بشرح تفاصيل كيفية التخطيط لتنفيذ الهجمات دون افتضاح أمر المنفذين، وعلاج الإدمان لا يكون بتعليم تجاره كيفية تهريبه من دون الوقوع في قبضة رجال الشرطة ولا حراس الحدود، وتنفير الناس من المخدرات والخمور لا يكون بإظهار النشوى والفحولة المزعومة التي تغري المراهقين بالتجربة، وهكذا. ولو أن كل مبدع فكر قليلا في أثر إبداعه على عقول وأفكار المتلقين له وتحلى ببعض الضمير لاستقام الأمر في طريقه الصحيح، وحقق الفن هدفه المرجو بتصحيح الفكر المعوج والسلوكيات الخاطئة أكثر من خطب العلماء على المنابر وكتابات الكتّاب في صفحات الكتب والجرائد، وحتى لا تكون الصورة شديدة القتامة فإن من بين القائمين على صناعة الفنون والآداب من يسلكون هذه المسالك القويمة ويعالجون بفنونهم بعض مشكلات المجتمع، ولكنهم غرباء في أوساطهم!