18 مارس, 2018

خلال كلمته الافتتاحية في الندوة العلمية مع كبار علماء الدين الموريتانيين.. الإمام الأكبر: الأزهر الشريف والمحاضر الشَّنقيطيَّة حافظَا على تراثِ الأمَّةِ حِفظًا وروايةً وشَرحًا وتعليقًا

- أفضل ما يُمكِن أن نُقدِّمَه لأمَّتِنا في أزمتها هو تعميقُ الصِّلات العلميَّة بين علماءِ الأزهرِ وعُلماء شَنقيط

- الأزهر لم يَقتصِر دورُه على الحِفاظِ على تراث المسلمين بل أعاد الحياة إليه بعد ما أشرفَ على الهلاك

- الطالب الأزهري وَقَرَ في ذِهنه طَوال دراسته أنَّ الاختلافاتِ العَقَدِيَّةَ والفقهيَّة والذَّوقيَّة اختلافاتٌ مشروعةٌ

- لم ينهجِ الأزهرُ منهجَ الانتقاءِ والإقصاءِ والفَرْزِ بين عُلومٍ يَستبقيها ويَسعَى في نَشرِها، وأُخرَى يُعتِّمُ عليها ويُعَرِّضُها لعوامل البِلى والهلاك

 

ألقى فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، اليوم الأحد، الكلمة الافتتاحية في الندوة العلمية مع كبار علماء الدين في موريتانيا، تحت عنوان "واجب العلماء للتصدي لظاهرتي التطرف والانحراف الفكري"، والتي تحمل شعار علماء موريتانيا يحتفون بشيخ الأزهر، في حضور السيد مستشار الرئيس الموريتاني، ومعالي وزير الشئون الإسلامية الموريتاني أحمد بن داود، وكبار العلماء والشخصيات في موريتانيا، ووفد الأزهر الشريف.

وفي بداية كلمته عبّر فضيلة الإمام الأكبر عن سعادته الغامرةِ بوُجوده أمام نخبة متميِّزة من العلماء والأدباء والمفكِّرينَ، كما أعرب عن شُكرِه الجزيلِ للدعوة الكريمة لزيارة هذا البلد الطَّيِّب، والضَّاربِ بجُذوره في أعماقِ التَّاريخِ عِلمًا وأصالةً وحِراسةً للدِّينِ وأمَّهاتِ الأخلاق والفضائل.

وقال فضيلته: إنَّ القضايا المتداوَلة على السَّاحة الآنَ، أو كما يُسَمُّونها: القضايا السَّاخنة، وهي قضايا الغُلُوّ والعُنف والإرهاب المسلَّح، وإلصاق المسئوليَّةِ عنها بالإسلام، وأشباهها وما يتوَلَّدُ عنها؛ أصبحت من المعلومِ بالضَّرورةِ عندنا وعندكُم، ولم تَعُدْ هناك زيادةٌ لمستزيدٍ، مِن كَثرةِ ما قيلَ فيها حَقًّا أو باطلًا، أو إلباسًا للحَقِّ بالباطل، فمِنَ الحِكمَةِ إذًا –فيما أعتقدُ- أن نَغتَنِمَ فرصةَ المراجعةِ والمذاكَرةِ معكُم فيما يعودُ بالنَّفعِ على مَصلحةِ الأمَّةِ وواقِعِها الملمُوسِ على الأرضِ، بعيدًا عن أحاديثِ الأماني والأحلام، مشيرًا إلى أنَّ أفضلَ ما يُمكِن أن نُقدِّمَه لأمَّتِنا في أزمتها اليوم هو: تعميقُ الصِّلات العلميَّة الأكاديميَّة بين علماءِ الأزهرِ وعُلماء الغرب الإسلامي، مِن خلال المدرسة الشَّنقيطيَّةِ، بما لها من خصائصَ علميّةٍ وتعليمية تميَّزَت بها عن كثيرٍ منَ المدارس الإسلامية في العالَم الإسلاميِّ.

وأوضح فضيلة الإمام الأكبر أن أهم أسباب تميُّز المدرسة الشَّنقِيطيَّة؛ هو محافظة العلماء على تراثِ الأمَّةِ حِفظًا وروايةً، وشَرحًا وتعليقًا، وهو ما يتسق ورسالةَ الأزهر الشريف في حِفظِ التراث وتنميتِه وتعريف أبناء المسلمين به، متحدّثًا عن أبرز سِماتِ المنهج الأزهري والتي تتمثّل في الجمع بين علوم العقل والنَّقل والذَّوقِ في تُراث المسلمين، وهذا المنهج التَّوفيقي الذي تَصالَح فيه المعقول والمنقول، يَعكِسُ طبيعةَ هذا التراث المتعدِّدِ الأبعادِ منذُ نشأتِه وعَبْرَ تطوُّرِه على أيدي كبار الأئمة وعظماء المجتهدين، وتَشرَّب المسلمون هذا التراث من ينابيع هؤلاء الأعلام كالعَسَل المُصَفَّى.

وبَيّنَ فضيلة الإمام الأكبر أن الأزهر كان الحاضن والحافظ لهذا التراث بكلِّ أبعاده التي تَحدَّثنا عنها، ومن العجيب أن الأزهر لم يَقتصِر دورُه على الحِفاظِ على هذا التراث من التَّلَف والضَّياعِ والاندثار، وإنَّما كان له دورٌ آخَرُ كأنَّ الله اختصه به، وهو دَور إعادةِ الحياة إلى هذا التُّراث، بعد ما أشرفَ على الهلاك بالفعل، مشيرًا إلى كلمة الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود التي قال فيها: جاءتِ الحضارةُ الإسلاميَّةُ وكلُّ مسلمٍ يَعرِفُ ما هي مِصر بالنِّسبة للحضارة الإسلاميةِ؛ هي التي حفِظَتِ التُّراثَ الإسلاميَّ كلَّه، ولولا ما عَمِلَه الأزهرُ في القرون: الثانِيَ عَشَرَ، والثَّالثَ عَشَرَ، والرَّابعَ عَشَرَ، والخامسَ عَشَرَ،هذه القرونُ الأربعةُ الميلاديَّة؛ لَمَا كان هنالك ما يُسمَّى الآن بالتُّراث العربي الإسلامي، وأين كنّا نَجِدُه والتَّتارُ أحرقوه من هنا – أي من الشَّرق- وفي الأندلسِ ضاعَ من هناك على أيدي الغُزاة، لكن انكبَّ الأزهرُ على التَّجميعِ ، قبل أن يَضيعَ في الهواء، فجمّعَ، ولكن أيُّ تجميعٍ؟ تجميعٌ فيه الإيجابيَّةُ، وفيه الإبداعُ، وفيه الهدف، لافتًا إلى أنه حينَ حانت فُرصةُ التَّفرُّد برِيادة التُّراث من جديدٍ، لم ينهجِ الأزهرُ منهجَ الانتقاءِ والإقصاءِ والفَرْزِ بين عُلومٍ يَستبقيها ويَسعَى في نَشرِها، وأُخرَى يُعتِّمُ عليها ويُعَرِّضُها لعوامل البِلى والهلاك.

وأكد فضيلته أن هذه الأبعادَ الثَّلاثة: النَّصُّ والعقلُ والذَّوقُ، قد تعانَقَت وتمازَجَت في مناهج التَّعليم في الأزهر قديمًا وحديثًا، وتَلاشت بينها الحواجز المصطَنَعة، وأصبح كلٌّ منها يُغَذِّي الآخَرَ ويَغتَذِي به، ووَقَرَ في ذِهن الطَّالب الأزهري طَوال مراحلِ تحصيلِه العِلمَ في الأزهر، أنَّ الاختلافاتِ العقَدِيَّةَ والفقهيَّة والذَّوقيَّة، هي اختلافاتٌ مشروعةٌ، إمَّا للتَّيسيرِ ورفع الحرَجِ ورفع الضَّرَرِ، وإمَّا لأنَّ شريعةَ الإسلامِ لا يُمكِن أن تكون صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، إلَّا إذا تَصالحتْ في ظلالها مَطالبُ العقول، وإشراقات القلوب، واستشراف الماورائيّات، التي تَستمدُّ اليقينَ فيها من نَصٍّ معصومٍ، قد يَعتَلي على مستوى إدراك العقل، ولكنَّه في كلِّ الأحوال لا يناقِضُ قوانينَه، ولا يصطدم بأوليَّاتِه ، ولا ببدائِهِه، كما هو الحالُ في باب السَّمعيات من أبواب علم الكلام، مشدّدًا على أنَّ الأمةَ ما ابتُلِيَت قديمًا ولا حديثًا بالغُلوِّ والتَّشدُّد وما صاحَبَهُما من فُرْقَة تمزّق، إلَّا حين فَرَّطَت في هذا المنهج المتكامِل، وغاب عنها الطبيعة الامتزاجية لهذا التراث التي هي سِرُّ بقائه وخُلودِه وصُمودِه، سَنَدًا وظهيرًا لوَحدةِ هذه الأمَّة وتماسُكِها.

وتابَع فضيلة الإمام الأكبر: ونحن حين ننادي لعودة الأمة لهذا المنهج، فإننا في الوقت نفسه، ننادي بأن تعود للمذاهب الفقهية الأربعة صدارتُها في الفتوى والتشريع، بحسب توَزُّعِها على الأمصار، وأن يُترَك كلُّ مِصْرٍ وما نُشِّئَ عليه أهلُه، لا يُحوَّلُون عنه، لا ترغيبًا ولا ترهيبًا، ولا تبشيرًا، وما خَبَرُ إمامِنا مالك وموطئه مع الخليفة المنصور بِخافٍ ولا بعيد، مؤكّدًا ضرورة أن يعود لمذهب أهل السنة والجماعة ريادتُه التي ارتضتها الأمة الإسلامية عَبْرَ ألفِ عامٍ وتزيد، وما ذلك إلَّا لأنها وَجَدَتْ فيه من حقائق الإيمان ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته والتابعون، ثم إنه المذهب الذي يُحَقِّق السلم الاجتماعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وذلك بغَلْقِ باب تكفير المسلمين، والقَبول باختلافات المصلِّين، والتمسُّك بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن صَلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكَل ذبيحتَنا، فذلكم المسلم الذي له ذِمّة الله ورسوله، لا تُخْفِروا اللهَ في ذِمّته".

 

قراءة (8840)/تعليقات (0)