| 16 أبريل 2024 م

الإسلام وثقافة السلام

أ.د/ محمود حمدي زقزوق رئيس التحرير

  • | الخميس, 17 نوفمبر, 2016
الإسلام وثقافة السلام

تمهيد:

لا شك في أن مفهوم السلام من المفاهيم المحببة إلى النفس البشرية؛ فكل إنسان في هذا العالم يتطلع إلى السلام سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو على المستوى العام، ولكن كل إنسان يسعى إلى تحقيق ذلك بطريقته الخاصة وفهمه الخاص نظرًا لعدم وجود ثقافة حقيقية مشتركة للسلام بين الأمم والشعوب. وقد يكون العنصر المؤثر في نفوس الناس وضمائرهم نحو السعي إلى السلام هو الدين، بالمعنى المطلق لمصطلح الدين، سماويًا كان هذا الدين أو غير سماوي، ولكن كثيرًا من الناس على الرغم من ذلك يخطئون الطريق، وذلك أيضًا لغياب ثقافة مشتركة للسلام.

وإذا كنَّا جئنا إلى هنا لنتحاور حول ثقافة السلام من وجهة النظر الإسلامية والمسيحية - وهذا أمر ضروري ومطلوب بإلحاح في ظل الظروف التي يعيشها عالمنا المعاصر - فإن من الضروري أيضًا أن تكون هناك ثقة متبادلة واحترام متبادل بين الطرفين. ومن هنا فإننا إذا أردنا أن نتحدث عن ثقافة السلام فإن نجاح ذلك يتوقف على ضرورة توفر المناخ المناسب للحوار، وهذا يتطلب منا أن يراجع كل منا تصوراته عن دين وعقيدة الطرف الآخر، ويستبعد منها أي تصورات سلبية حتى يتيح للأجيال الجديدة - التي لم يكن لها ذنب في المآسي والحروب السابقة - أن تتسلح بالأمل في غد مشرق بعيد عن مآسي الماضي وعداواته، غد يتسلح بثقافة السلام الحقيقية لهذا العالم الذي هو عالمنا جميعًا. وعلى الذين يتحملون المسئولية الدينية في الإسلام والمسيحية مسئولية غرس ثقافة السلام في نفوس وعقول الأجيال الجديدة.

التصور الإسلامي للسلام:

وإذا كان علينا أن نعرض التصور الإسلامي للسلام فإننا بإيجاز شديد يمكن أن نلخص ذلك في صورة ثلاثة دوائر متداخلة. أما الدائرة الأولى فإنها تتمثل في السلام النفسي الذي يتمنى كل إنسان أن يحققه في داخله، وهذا السلام النفسي يكون ممكنًا عن طريق الدائرة الثانية وهي السلام مع الله كما يتمثل ذلك في العقيدة الدينية، وكلتا الدائرتين تجعلان الدائرة الثالثة ممكنة، وهي التي تتمثل في السلام مع الآخرين ومع العالم الذي يحيط بنا.

والعقيدة الدينية في الإسلام من شأنها أن تهيئ للإنسان المناخ الذي يستطيع فيه أن يتواءم مع نفسه ومع العالم الذي يعيش فيه. فالإسلام في حقيقته يعني إسلام المرء وجهه إلى الله، وبهذا التوجه يكون المسلم قادرًا على أن يسلك الطريق إلى تحمل مسئولياته وأداء واجبه الحقيقي، والعقيدة الدينية تجعله واثقًا من العون الإلهي، ومن هنا يكون قادرًا على تذليل الصعاب والتغلب على كل العقبات، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى صنع السلام.

ويمكن القول في ضوء ذلك كله بأن السلام طبقًا للتصور الإسلامي يُعد عملا من أعمال الإنسان، وفي الوقت نفسه يُعد نعمةً من نعم الله على البشر، وقد وصف الله نفسه في القرآن الكريم بأنه (السلام). والمصطلح العربي للسلام مُشتق من الأصل ذاته الذي اشتُق منه لفظ الإسلام. فهناك تطابق تام بين الإسلام والسلام. وتحية المسلمين فيما بينهم - كما هو معروف - هي: السلام. كما أن المسلمين يتجهون في نهاية كل صلاة من الصلوات الخمس اليومية بنفس التحية يمينًا وشمالا، الأمر الذي يرمز إلى نصف العالم يمينًا ونصفه الآخر شمالا. ويعبر ذلك عن أمنية المسلمين بالسلام للعالم كله.

الاختلاف ليس مبررًا للنزاع والشقاق:

وإذا كان الله قد خلق الناس مختلفين في ألوانهم وأشكالهم ولغاتهم وأجناسهم، فليس معنى ذلك أن يكون هذا الاختلاف منطلقًا للنزاع والشقاق بين الأمم والشعوب، وإنما الأمر على العكس من ذلك تمامًا، فالإسلام يجعل من هذا الاختلاف منطلقًا للتعارف والتآلف والتعاون في كل ما من شأنه أن يعود بالخير على الجميع. وفي ذلك يقول القرآن الكريم:

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" (الحجرات : 13)

فالناس جميعًا متساوون لا فرق بين إنسان وآخر إلا بما يقدمه من خير لأخيه الإنسان وللمجتمع الإنساني بصفة عامة.

ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون الاختلاف في العقيدة الدينية -أيضًا- سببًا من أسباب الشقاق والنزاع. فالأديان في جوهرها منبعها هو الروح الإلهي الذي وكل به الله تعالى خلق الإنسان - كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم-. فقد أمر الله تعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم عند إكمال خلقه في قوله تعالى:

"فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (الحجر : 29)

ومن هنا كانت مسئولية الأديان هي تقوية هذه الصلة الروحية بين الله والإنسان، فإذا تحمل الإنسان مسئوليته في دعم وتقوية هذه الصلة بالله الذي هو نفسه (السلام) فإن ذلك سينعكس بالإيجاب على سلوكه وعلاقاته مع غيره أفرادًا وجماعات أو شعوبًا وقبائل، فالكل صدر عن الله في البداية، والكل صائر إليه في النهاية، وإقامة السلام في هذا العالم تحقيق لمشيئة الله، وتلك مسئولية القائمين على الأديان في هذا العالم. وإذا لم نفعل فنحن لسنا فقط مقصرين في حق الأديان، وإنما نكون قد تخلينا عن مسئوليتنا نحو الله ونحو العالم الذي نعيش فيه والذي هو عالمنا جميعًا.

مسئولية نشر ثقافة السلام:

ومن هنا فإن علينا مسئولية كبرى في نشر ثقافة السلام في كل مكان في العالم، ليس فقط بين أتباع هذا الدين أو ذاك، وإنما في كل مكان في العالم يمكن أن نصل إليه دون أن نستثني أحدًا.

وهناك في عالمنا المعاصر وسائل عديدة يمكن أن تساعد في نشر ثقافة السلام في العالم. وأهم هذه الوسائل المنتشرة على نطاق واسع الإعلام المسموع والمقروء والمرئي، ومن الضروري في هذا الصدد أن تصل رسالة السلام إلى المدارس والجامعات، وأن تكون عنصرًا ضروريًا في تربية الأجيال الجديدة من أجل خلق أجيال تؤمن بفكرة السلام، وما يمكن أن تحققه من ثمار للفرد والمجتمع والأمم والشعوب، فالسعادة التي يتطلع إليها الجميع لن تتحقق بدون السلام في حياة الأفراد والجماعات، وإن ما يعانيه عالمنا المعاصر من نزاعات وصراعات وحروب لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الخراب والدمار. والإنسان الذي لا يتعلم من دروس التاريخ لا خير فيه لا لنفسه ولا للمجتمع الذي يعيش فيه.

وإذا كنا ندعو إلى نشر ثقافة السلام فمن الضروري أيضًا التذكير بما تخلفه الحروب والنزاعات بين الأمم والشعوب من مآسي وكوارث رهيبة. وفي هذا الصدد نذكّر بما شهدته أوروبا في النصف الأول من القرن الماضي. وهذا تاريخ عاصره البعض ممن لا يزالون يعيشون بيننا حتى الآن، وراح ضحية الحروب التي شهدتها أوروبا من عام 1914 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 أكثر من ستين مليونا من البشر، فهل نريد لعالمنا المعاصر أن يكرر هذه المآسي والكوارث في القرن الحادي والعشرين؟

عقبات في طريق تحقيق السلام:

ولا يجوز لنا أن نتجاهل أن هناك عقبات كثيرة في سبيل تحقيق السلام في العالم، فالوصول إلى هدف السلام لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق القضاء على أسباب الصراعات والنزاعات في العالم، ولا يمكن إقناع الأمم والشعوب بقيمة السلام إلا بإقامة موازين العدل بين الجميع، فالمعايير المزدوجة والكيل بمكيالين ظلم بيّن وخطأ فاحش، فكيف أقنع مظلومًا بقيمة السلام وهو يتعرض بصفة شبه يومية للظلم والاضطهاد؟ والأمثلة على ذلك كثيرة، وأقربها إلينا ما يتعرض له شعب فلسطين منذ سبعين عامًا دون أي أمل في رؤية بصيص من نور يقربه من السلام. إن تحقيق العدالة يُعد أقصر الطرق إلى السلام.

ضرورة الاستمرار في نشر ثقافة السلام:

وإذا كان تحقيق العدالة يُعد مطلبًا بعيد المنال -حتى الآن- فإن ذلك لا يجوز أن يثنينا عن الاستمرار في بذل جهود مضاعفة، والمطالبة بكل ما نستطيع من قوة بإقامة موازين العدل في كل مكان في العالم من أجل تحقيق السلام المنشود، فالسلام قيمة كبرى لا يجوز التلاعب بها، ونشر ثقافة السلام في مختلف مناطق العالم يمكن أن يمثل حصانة قوية ضد أي محاولة لتعكير صفو السلام في العالم، ولن يسامحنا الله - الذي نصلي له في مساجدنا وكنائسنا - إذا لم نقف صفًّا واحدًا لمواجهة أي عدوان على السلام الذي يجب أن تنعم به البشرية في كل أرجاء العالم الذي هو عالمنا جميعًا.

قِيَم مشتركة:

إن علينا أن نُعلِّم الأجيال الجديدة أن قيمة المحبة التي هي شعار المسيحية يقابلها في الإسلام قيمة الرحمة، والمحبة والرحمة وجهان لعملة واحدة، وعلينا أن ننحي جانبًا أي خلافات عقائدية بين المسيحية والإسلام، ونوقظ في النفوس القيم المشتركة التي لا خلاف عليها، والقرآن الكريم يضع أمامنا القاعدة المشتركة التي تمثل الأساس المتين للتعاون فيما بيننا من أجل الوصول إلى الأهداف المشتركة، وتتمثل هذه القاعدة في آية قرآنية تقول:

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"   (البقرة : 62)

فالمبادئ المشتركة التي تمثل القاعدة الصلبة للتعاون بين المسيحية والإسلام هي: الإيمان بالله، والإيمان بالآخرة، والعمل الصالح، وأعتقد أنه لا خلاف بين المسلمين والمسيحيين حول هذه المبادئ المقررة في الدينين، فهذه المبادئ تمثل قاعدة للتعاون بينهما من ناحية، كما تمثل في الوقت نفسه هدفًا مشتركًا يجب أن تتجه جهودنا جميعًا إلى تحقيقه من ناحية أخرى، ولكن لا ينبغي أن يظن أحد أنني بذلك أدعو إلى تذويب جميع الفوارق أو الخصائص التي يتميز بها كل دين، وإنما أركز فقط على الأسس والمبادئ والمنطلقات التي تمثل إطارًا رحبًا للتعاون بين المسيحية والإسلام، وأختم كلمتي بالصيغة المعتادة لدى المسلمين التي تجمع بين السلام والرحمة فأقول: السلام عليكم ورحمة الله.

∗ كلمة أ. د. محمود حمدي زقزوق عضو مجلس حكماء المسلمين وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في ملتقى مجلس حكماء المسلمين واتحاد الكنائس العالمي في مدينة جنيف - سويسرا في الفترة من 29/9 - 2/10/2016

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
5.0

الأكثر اطلاعا خلال شهر

ركن الوافدين

ركن الوافدين

 الإشراف العام أ.د. نهلة الصعيدى

من مجالس شرح كتاب سيبويه

من مجالس شرح كتاب سيبويه

 أ.د. عبد الفتاح محمد حبيب

من بلاغة آيات الحج والعمرة في القرآن الكريم

من بلاغة آيات الحج والعمرة في القرآن الكريم

 أ. د. سلامة جمعة داود

شبهة حول عقوبة السرقة وبيان بطلانها

شبهة حول عقوبة السرقة وبيان بطلانها

 أ.د. عبد الفتاح العواري

ركن الواعظات

ركن الواعظات

 الإشراف العام أ.د. إلهام محمد شاهين

عمل المرأة في الإسلام

عمل المرأة في الإسلام

 أ.د. أحمد عمر هاشم

حاجة الإنسان إلى العقيدة الصحيحة

حاجة الإنسان إلى العقيدة الصحيحة

 أ.د. عبد الحميد مدكور

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg