| 24 أبريل 2024 م

بنو إسرائيل في الكتاب والسنة

أ.د/ محمد سيد طنطاوي

  • | الأربعاء, 18 يناير, 2017
بنو إسرائيل في الكتاب والسنة

ثانيًا: سوء أدبهم مع الله ــ تعالى ــ وعداوتهم لملائكته، وقتلهم لأنبيائهحكى القرآن الكريم كثيرًا من رذائل اليهود ومقابحهم، ومن بين ما حكاه عنهم من رذائل، سوء أدبهم مع الخالق ــ عز وجل ــ ووصفهم له ــ سبحانه ــ بما لا يليق به، وبما هو منزه عنه، كذلك من بين ما حكاه عنهم من آثام، مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحي جبريل وقتلهم للأنبياء الكرام الذين جاءوهم بالهدى ودين الحق، وتعديهم على من يأمرونهم بالقسط من الناس.
وهذه هى بعض الآيات التي سجلت عليهم هذه الرذائل، التي لا تصدر إلا ممن ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
أولاً : قال تعالى فى سورة آل عمران: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ.
روى الحافظان: ابن مردوديه، وابن أبى حاتم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ــ رضى الله عنهما ــ قال لما نزل قوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله ــ تعالى ــ هذه الآية (1).
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبى حاتم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق ــ رضى الله عنه ــ بيت المِدْرَاس، فوجد من يهود ناسا كثيرين، قد اجتمعوا على رجل منهم، يقال له فنحاص، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمد رسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم فى التوراة والإنجيل، فقال: فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإننا عنه لأغنياء، ولو كان غنيًا ما استقرض منا: كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر ــ رضي الله عنه ــ وضرب فنحاص ضربًا شديدًا، وقال: والذى نفسي بيده، لولا العهد الذى بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو اللهفذهب فنحاص إلى النبي ﷺ فقال: يا محمد انظر ما صنع صاحبك، فقال النبي ﷺ لأبي بكر: «ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟» فقال يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيمًا، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه. فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله ــ تعالى ــ فيما قال فنحاص: ﴿ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ (2).
وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنه قال: «ذكر لنا أن هذه الآية ﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء﴾ نزلت في حيي بن أخطب، لما أنزل الله ــ تعالى ــ ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قال حيي: يستقرضنا ربكم، وإنما يستقرض الفقير الغني. (3)
فهذه النصوص تفيد أن اليهود كانوا يتهكمون على القرآن الكريم، عندما يدعو الناس إلى البذل والإنفاق، ويستهزئون بتعاليم الإسلام، التي تحض على الجود والسخاء، ويصفون الله ــ عز وجل ــ بما هو منزه عنه، ويحاولون بطرق شتى تحريض المؤمنين على الشح، وعدم الإنفاق، لتشكيكهم في دينهم، وصرفهم عن الاستجابة لكتاب ربهم، وسنة نبيهم، وليس هذا القول القبيح غريبًا علي اليهود. فقد سجل القرآن الكريم عليهم في آية أخرى أنهم قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ أي: بخيلة بالعطاء، كما سجل عليهم جهالاتهم وجرأتهم على مقام ربهم في كثير من المواضع.
لقد بين ــ سبحانه ــ أنه سميع لأقوالهم وأفعالهم، عليم بها لا تخفـى عليه، فقال تعالى:﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ أي: لقد سمع الله قول أولئك اليهود، الذين نطقوا بالفحش والزور، فزعموا أن الله ــ تعالى ــ فقير وهم أغنياء. والمقصود من السماع لازمه: وهو العلم والإحاطة بما يقولون من العظائم، ثم محاسبتهم على ما يقولون يوم يلقونه ــ سبحانه ــ في يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين. فالجملة الكريمة تفيد أن الله ــ تعالى ــ مطلع عليهم، ومراقب لهم مراقبة من يستمع إليهم، ومحيط بما يرتكبونه من أقوال وأفعال، وسيحاسبهم على سوء أدبهم، وقبيح أقوالهم؛ لأن من يملك الوجود بمن فيه وما فيه، لا يخفى عليه شىء، وقدير على معاقبة من لا يقدره حق قدره، ولهذا قال تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي: سنسجل عليهم فى صحف أعمالهم قولهم هذا، وقتلهم الأنبياء بغير حق. وفي هذا التعبير البليغ تهديد شديد لهم على ما ارتكبوا من خطيئات؛ لأن المقصود من الكتابة نتائجها، وهو الحساب العسير، ثم العذاب المهين؛ بدليل دخول حرف التسويف على فعل الكتابة، وإلا فالكتابة في صحف الأعمال قد حصلت فعلاً من وقت ارتكابهم هذه الجرائم. وقد قرن ــ سبحانه ــ قولهم المنكر هذا، بفعل شنيع من أسلافهم، وهو قتلهم اأنبياء بغير حق، وذلك لإثبات أصالتهم فى الشر؛ واستهانتهم بالحقوق الدينية، وللتنبيه على أن قولهم هذا ليس أول جريمة ارتكبوها، ومعصية استباحوها، فقد سبق لأسلافهم أن قتلوا الأنبياء بغير حق، وللإشعار بأن هاتين الجريمتين من نوع واحد، وهو التجرؤ على الله ــ عز وجل ــ فقتل الأنبياء فيه تعد على أمناء الله، الذين اختارهم لتبليغ رسالاته. وقولهم ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾ فيه تطاول على ذات الله، وكذب عليه ووصفه بما لا يليق به ــ سبحانه ــ وبذلك كله يكونون قد عتوا عتوا كبيرا، وضلوا ضلالاً بعيدًا. وإضافة القتل إلى المعاصرين للعهد النبوي مع أنه حدث من أسلافهم إضافة صحيحة، لأنهم رضوا به ولم ينكروه، وإن لم يكونوا قد باشروه، ومن رضي بجريمة قد فعلها غيره فكأنما قد فعلها هو، وفي الحديث الشريف: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شاهدها» (سنن أبو داود).
ووصف ــ سبحانه ــ قتلهم للأنبياء بأنه: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ مع أن هذا الإحرام لا يكون بحق أبدًا، للإشارة إلى شناعة أفعالهم، وضخامة شرورهم؛ وأنهم لا يبالون أكان فعلهم في موضعه أم في غير موضعه.
ثم صرح ــ سبحانه ــ بالعقوبة، بعد أن كنى عنها فقال تعالى: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ أى: سنجازيهم بما قالوا وبما فعلوا. ونلقي بهم في جهنم، مخاطبين لهم بقولنا: ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة، ففى الآية الكريمة إنجاز بالحذف دل عليه السياق، والذوق هو إدراك الطعوم، والأصل فيه أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه، فالتعبير به هنا فيه تهكم عليهم، واستهزاء بهم، كما في قوله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. (آل عمران: 21).
ثم صرح ــ سبحانه ــ بأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم بهذا العذاب، فقال تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾  أي: ذلك العذاب الشديد الذي حاق بكم ــ أيها اليهود ــ بسبب ما قدمته أيديكم من عمل شىء، وما نطقت به أفواهكم من قول منكر، فقد اقتضت حكمته ــ تعالى ــ ألا يعذب إلا من يستحق العذاب، وأنه لا يظلم مثقال ذرة. وبذلك تكون هاتان الآيتان الكريمتان قد وبختا اليهود على جهالاتهم وقرعتهم على سوء أدبهم، وتوعدتهم بالعذاب المهين، جزاء جرأتهم على خالقهم.
ثانيًا: قال تعالى في سورة البقرة: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 97 ) مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾.(البقرة: 97، 98)
هاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة عجيبة حقًا من رذائل اليهود، وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله، لا يأكل مما يأكلون، ولا يشرب مما يشربون، وإنما هو من الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وإذا فليس هناك أي مقتض لعداوته، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته؟
لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوحي من عند الله على محمد ﷺ وهم يحسدونه على النبوة، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل ــ أيضًا ــ وهذه حماقة وجهالة منهم، لأن جبريل نزل بالخير لهم، في دينهم وفي دنياهم، ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلاها لا تفرق بين الخير والشر.
ومعنى الآيتين الكريمتين: قل ــ يا محمد ــ لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل، إنه لا وجه لعداوته، لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه، وإنما نزله على قلبك بأمر الله، ليكون مؤيدًا لما نزل قبله من الكتب السماوية، وليكون هداية إلى طريق السعادة، وبشارة للمؤمنين بالجنة، وقل لهم كذلك من كان معاديًا لله، أو لملك من ملائكته، أو لرسول من رسله، فقد كفر وباء بغضب من الله، ومن غضب الله عليه، فجزاؤه الخزي وسوء المصير.
قال الإمام ابن جرير: «أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا، على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائل ولي لهم" 4.
وروى البخاري في صحيحه ــ عن أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي ﷺ وهو في أرض يخترف ــ أي يجنى ثمارها ــ فأتى النبى ﷺ فقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بهن جبريل آنفا» قال: جبريل؟ قال نعم، قال ذلك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ النبي ﷺ هذه الآية: ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ ﴾ الآية ثم قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله: إن اليهود قوم بُهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال النبي ﷺ: «أى رجل فيكم عبد الله؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟» فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله فقالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله "5.
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أن اليهود بعد أن سألوا النبى ﷺ أسئلة أجابهم عنها؛ قالوا له صدقت فحدثنا من وليك من الملائكة فعندما نجامعك أو نفارقك، قال: وليي جبريل، لم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله ــ تعالى ــ قوله: ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الآيات6.
وفي حديث للإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، قال اليهود للنبي ﷺ بعد أن سألوه عن أشياء أجابهم عنها إنما بقيت واحدة، وهي التى نتابعك إن أخبرتنا بها، أنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخير فأخبرنا من صاحبك؟ قال جبريل؟ قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله تعالى: ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ ﴾ الآية، فيؤخذ من هذه الأحاديث، وما في معناها أن اليهود في عهد النبي ﷺ كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل، وأن هذه المجاهرة بالعداوة، قد تكررت منهم في مواقف متعددة بينهم، وبين النبي ﷺ، وأن الذي حملهم على ذلك هو حسدهم له، وغيظهم من جبريل لأنه ينزل بالوحي عليه.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله، ومع ذلك يبغضونه، وهذا أحط دركات الانحطاط في العقل والعقيدة، ولاشك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة، لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام»(7).
وفي أمر الرسول ﷺ بلفظ ﴿ قل﴾ كي يرد على اليهود، تثبيت له، وتطمين لنفسه، وتوبيخ لهم على معاداتهم لأمين الوحي وهو جبريل .
وقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ ﴾ شرط عام قصد الإتيان به ليعلموا أن الله ــ تعالى ــ لا يعبأ بهم، ولا بغيرهم ممن يعادى جبريل، إن وجد معاد آخر له سواهم.
وقوله تعالى: ﴿ عَلَىٰ قَلْبِكَ ﴾ زيادة تقرير للتنزيل، ببيان محل الوحى، وإشارة إلى أن السبب في تمكنه ﷺ من تلاوة القرآن الكريم، وإبلاغه للناس، ثباته في قلبه.
وقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ معناه: فلا موجب لعداوته، لأنه نزل القرآن على قلبك يا محمد بإذن الله وأمره، وإذن فعداوته عداوة لله في الحقيقة والواقع، ومن هنا يتبين أن هذه الجملة تعليل لجواب الشرط، وقائمة مقامه.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: كيف استقام قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ﴾  جزاء للشرط؟ قلت: فيه وجهان أحدهما: إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته، حيث نزل كتابًا مصدقًا للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه، وشكروا له صنيعه، في إنزاله ما ينفعهم، ويصحح المنزل عليهم، والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقًا لكتابهم، وموافقًا له، وهم كارهون للقرآن، ولموافقته لكتابهم، ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له، كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه" 8.
وقوله تعالى: ﴿ بإذن الله﴾ أي: بأمره، وهو توبيخ لهم على عداوتهم لجبريل الذي نزل بالقرآن بإذن الله، لا من تلقاء نفسه، وحجة أولى عليهم.
وقوله تعالى: ﴿ مصدقا﴾  حال من الضمير العائد على القرآن الكريم، في قوله ﴿ نزله﴾ أي: أنزله حالة كونه مؤيدًا للكتب السماوية، التي قبله ومن بينها التوراة، وهذه حجة ثانية عليهم، ثم عززهما ــ بثالثة ورابعة ــ فقال تعالى: ﴿ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي: هذا القرآن، الذي نزل مصدقًا لكتبكم، هو هاد إلى طريق الفلاح والنجاح، والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه مما هو فيه من ضلالات، ولو كان الواسطة في مجيئها عدوًا له، وهو ــ أيضًا ــ مبشر للمؤمنين برضا الله تعالى ــ عنهم في الدنيا والآخرة، أما الضالون فقد أنذرهم بسوء العقبى، فعليكم أن تتبعوا طريق الإيمان لتكونوا من المفلحين، وبذلك يكون القرآن قد أقام حججًا متعددة على حماقتهم وعنادهم وجحودهم للحق بعد ما تبين، وتكون الآية الكريمة قد مدحت القرآن الكريم بخمس صفات.
أولها: أنه منزل من عند الله وبإذنه، وثانيهما: أنه منزل على قلب النبي ﷺ، وثالثها: أنه مصدق لما نزل قبله من الكتب السماوية، ورابعها: أنه هاد إلى الخير أبلغ هدى وأقواه، وخامسها: أنه بشارة سارة للمؤمنين. ثم بين ــ تعالى ــ حقيقة الأمر فيمن يعادي جبريل، وأن عداوته عداوة لله ـ تعالى ــ فإن أمين وحيه إلى رسله، ليس له في ذلك شيء إلا أن يبلغ ما أمر به، فقال تعالى: ﴿ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ والمعنى: أن عداوة جبريل عداوة لله، وأن عداوة محمد ﷺ عداوة لله ــ أيضًا ــ فالإيمان بالله وملائكته ورسله وحدة لا تتجزأ، فمن كفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع، ومعنى عداوة العبد لله: كفره به، ومخالفته لأوامره ونواهيه، ومعنى عداوته لملائكته: إنكار فضلهم ووصفهم بما ينافي عصمتهم ورفعة منزلتهم، ومعنى عداوته لرسله تكذيبه لهم، وتعمده إلحاق الأذى بهم، ومعنى عداوة الله لعبده: غضبه عليه ومجازاته له على فسوقه وكفره.
وصدّر ــ سبحانه ــ الكلام باسمه الجليل تفخيمًا لشأن ملائكته ورسله، وإشعارًا بأن عداوتهم إنما هي عداوة له ــ تعالى ــ.
وأفرد ــ سبحانه ــ جبريل وميكائيل بالذكر، مع اندراجهما تحت عموم ملائكته، لتصريح اليهود بعداوة جبريل، وتعظيم مكيائيل، فأفردهما بالذكر للتنبيه على أن العداوة لأحدهما معاداة للجميع، وأن الكفر بأحدهما كفر بالآخر.
قال ابن جرير: «فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟ قيل: بلى، فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما فى الآية فى جملة أسماء الملائكة؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما: أن اليهود لما قالت جبريل عدونا وميكائيل ولينا، وزعمت أنها كفرت بمحمد ﷺ من أجل أن جبريل صاحبه، أعلمهم الله ــ تعالى ــ أن من كان لجبريل عدوًا فإن الله عدو له وأنه من الكافرين، فنص عليه
باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوًا لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته ولا لرسله أعداء، لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصًا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه، وكذلك قوله ورسله لست يا محمد داخلاً فيهم، فنص الله ــ تعالى ــ على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم؛ ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم على ضعاف الإيمان»(9).
وقال ــ سبحانه ــ فى ختام الآية الكريمة: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ ولم يقل فإن الله عدو له أو لهم، ليدل على أن عداوة كل واحد ممن اشتملت الآية الكريمة على ذكرهم، كفر وجحود، وليكون اندراجهم تحت هذا الحكم العام من باب إثبات الحكم بالدليل، وللإشعار بأن عداوة لاله تعالى لهم، سببها كفرهم، فإن الله لا يعادي قومًا لذواتهم ولا لأنسابهم، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه، معاقبة العدو للعدو، قال صاحب المنار: «فهذه الآية الكريمة وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها، فهم لم يدعوا عداوة هؤلاء كلهم، ولكنهم كذلك في نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع، وهي أنهم أعداء الحق، وأعداء كل من يمثله ويدعو إليه، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكائيل، الذي يزعمون أنهم يحبونه، وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي ﷺ لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه، ومعاداة القرآن الكريم كمعاداة سائر الكتب الإلهية؛ لأن المقصود من الجميع واحد.

ومعاداة محمد ﷺ كمعاداة سائر رسل الله لأن وظيفتهم واحدة، فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر، وهذا من ضروب إيجاز القرآن الكريم التي انفرد بها»(10).
وبهذا تكون الآيتان الكريمتان قد دمغتا اليهود بالكفر والجهالة، لمعاداتهم لجبريل؛ وتكذيبهم لمحمد ﷺ وبينتا ما عليه أمرهم من خزي وهوان، بسبب هذه العداوة التي لا باعث لها إلا الحسد، وكراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده

الهوامش:

(1) تفسير ابن كثير جـ1 ص423.
(2)
أسباب النزول للنيسابورى ص 76.
(3)
تفسير الآلوسي جـ 1 ص 732.
(4)
تفسير ابن جرير جـ1 ص 431.
(5)
صحيح البخاري كتاب التفسير باب قوله تعالى: ﴿قل من كان عدوا لجبريل﴾ جـ6 ص 23.
(6)
مسند الإمام أحمد جـ1 ص 278.
(7)
تفسير التحرير والتنوير جـ 1 ص 621.
(8)
تفسير الكشاف جـ 1 ص 226.
(9)
تفسير ابن جرير جـ1 ص 439.
(10)
تفسير المنار جـ 1 ص 394.

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

الأكثر اطلاعا خلال شهر

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

 أ.د. محمد أبو موسى

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

 أ. د. نادي محمود حسن

الإخــاء ( 2 )

الإخــاء ( 2 )

 فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

 أ.د. أحمد أحمد غلوش

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء

 الإمام/ محمد عبده

من الأدب النبوي أدب الطعام

من الأدب النبوي أدب الطعام

 أ.د. محمد عبد الفضيل القوصي

رمضان في فلسطين

رمضان في فلسطين

  د. شيماء زيدان

رمضان والنفس البشرية

رمضان والنفس البشرية

 أ.د. محمد رمضان

بين الصيام والإحرام

بين الصيام والإحرام

 إعداد : د. أسماء عبد العزيز

تشريع الصيام

تشريع الصيام

 ا.د. خالد البسيوني

من الفتوحات الربانية في رمضان

من الفتوحات الربانية في رمضان

 أ. د. محمد عبد الرحمن الضويني

مواقع التواصل الاجتماعي وتحدي الروحية في رمضان

مواقع التواصل الاجتماعي وتحدي الروحية في رمضان

 أ.د. محمد الجندي الجعفري

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

 أ.د. عزيزة الصيفي

من وجوه التيسير في الصوم

من وجوه التيسير في الصوم

  أ.د. أمان محمد

العشر الأواخر من رمضان

العشر الأواخر من رمضان

 أ.د. أحمد عمر هاشم

12

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg