| 06 مايو 2025 م

التوراة العبرانية وإشكالات التسمية

د/ كريمة نور عيساوي باحثة في علم مقارنة الأديان كلية الآداب والعلوم الإنسانية - فاس المغرب

  • | الإثنين, 23 يناير, 2017
التوراة العبرانية وإشكالات التسمية

تُواجه الباحثَ في علم الأديان، وهو يدرس اليهودية، مشكلةٌ حقيقيةٌ بشأن ما يُصطلح على تسميته في الدراسات الغربية بالكتاب المقدس اليهودي Hebrew Bible؛ وذلك نظرًا لتعدد التسميات التي أُطلقت عليه، والتي ما فتئت تؤدي إلى خلق مزيد من اللبس والغموض لدى الخاص والعام من القراء، لهذا فقد ارتأينا استعراض التسميات الأكثر استعمالًا، والتوقف مليًا عند دلالتها اللغوية والاصطلاحية؛ إيمانًا منا بأن تحديد المصطلح هو المدخل الحقيقي نحو بناء المعرفة، ويتعلق الأمر بالمصطلحات الآتية: التوراة، والعهد القديم، والتناخ، والتوراة المكتوبة، والخماسية، والناموس، والمقرا. ونعرّف في هذا المقال بمصطلح التوراة، من أي لغة هو؟ وما معناه؟

التوراة:

تُشتق كلمة التوراة، التي يختلف علماء اللغة العربية القدامى في مدى أصالتها، من قولهم وَرَتْ ناري، وَوَرَيْتُ ناري، وأوريتها، إذا استخرجتَ ضوءها؛ لأنه قد استخرج بالتوراة أحكامَ شرعة موسى، أو أُخذت من أوريت الزناد ووريتُها. ويجنح الأب المرمرجي الدومنيكي إلى القول: إن التوراة في أصلها العبري תורה (تورا) مشتقة من الجذر العربي ( أرَ) الذي يدل على إيقاد النار، ويقابله في العبرية אר، أي النار أو النور. ومن أر يأتي، بعد قلب الهمزة واوًا، اللفيف المفروق (ورى). ومن النار يتولد النور الذي يدل مجازًا على العلم والتعليم والشريعة(1).

وهذه المعاني نفسها تتكرر في المعاجم العربية القديمة، فيما تتباين الآراء حول أصالتها في اللغة العربية. فالقلقشندي (756هـ -821هـ) بعد أن استشهد بالنحَّاس الذي يرى أن لفظ التوراة عربي، يعقِّب قائلًا بأن هذا اللفظ عبراني مُعرَّب؛ لأن لغة موسى كانت العبرانية؛ فناسب أن تكون من لغته التي يفهمها قومه»(2). ونحا بعضُ العلماء منحًى مغايرًا مشيرين إلى أن كلمة (توراة) في أصلها العربي مشتقة من

كلمة طور، أو طور سيناء العربية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم(3). قال الله سبحانه وتعالى:

"وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين"  (المؤمنون: 20)

ومن ذلك قوله جل وعلا:

"والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد الآمين"  (التين: 1- 3)

وتطلق (طور) على المنطقة المقدسة التي يقع في نطاقها جبل موسى أي حوريب، كما ورد ذكره في التوراة أو هي بتعبير ابن منظور (الجبل الذي بمدين) الذي كلَّم الله تعالى موسى، عليه السلام، عليه تكليمًا(4).

ومن المحتمل أن تكون كلمة طور العربية مشتقة من اللفظ المصري القديم (تاور) أي الأرض العظيمة أو الأرض العالية، حيث تقع في منطقة طور عدة جبال شاهقة، تعد أعلى الجبال في أرض مصر كلها، ويذهب البعض إلى أن كلمة طور مأخوذة من الكلمة اليونانية طورس التي تعني الجبل(5). ويعتقد حنا حنا أن كلمة التوراة مشتقة من الكلمة الآرامية (السريانية) تورا (torah-tora)، أي ثور؛ وذلك نظرًا لقدسية هذا الحيوان في عبادات الشرق القديم(6).

وعلى الرغم من أن (التوراة) ورد ذكرها في تسعة عشر موضعًا من القرآن الكريم فإن المعاجم العربية القديمة لا يُفهم منها؛ نظرًا لطابعها اللغوي المحض، ماذا يُقصد بالتوراة ولا ما هو محتواها. غير أن ما عجزت عن شرحه المعاجم العربية أدركته بعض التفاسير أو بعض الكتب التاريخية أو الموسوعية، ومن ذلك ما جاء في تفسير أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت671هـ) من أن معنى التوراة الضياء والنور وهي مشتقة من وَرَى الزند وَوَرِيَ، إذا خرجت ناره وأصلها تورية، ولا يستبعد أن تكون التوراة مأخوذة من التَّوْرِيَة، وهي التعريض بالشيء والكتمان لغيره فكأن التوراة بالنسبة للقرطبي معاريض وتلويحات دون تصريح وإيضاح، وقد أشار كذلك إلى أن أصل كلمة التوراة من السريانية دون تعزيز هذه الفرضية بشاهد أو دليل(7).

أما برهان الدين البقاعي (809 هـ - 885هـ) وهو بصدد تفسيره للآية الكريمة:

﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ

(آل عمران: 3)

قال: «فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من كفر دُعِي إليها من الفراعنة، فكان فيها هدى ونور»(8).

وبصرف النظر عن معناها الأصلي فالتوراة في اليهودية هي الأسفار الخمسة: سفر التكوين وسفر الخروج وسفر التثنية وسفر اللاويين وسفر العدد. وقد جرت العادة أن يُسمى كل سفر من هذه الأسفار الخمسة إما باسم الكلمة الأولى التي يبدأ بها السفر، وإما بأول كلمة مهمة فيه، وإما بما يتضمنه هذا السفر أو ذاك.

1- سفر التكوين בראשית (بيريشيت)، أي (في البدء)، يحكي نشأة الكون منذ أن خلق الله السموات والأرض إلى موت النبي يوسف عليه السلام. ويتخلل ذلك حديث مفصل عن خلق الإنسان الأول آدم وحواء، وحديث عن الخطيئة والخروج من الجنة، وقصة نوح والشعوب التي انحدرت منه، والطوفان، ثم يتعرض السفر لسيدنا إبراهيم الذي أمره الله بالهجرة إلى أرض كنعان، وأخيرًا يتوقف عند دعوة كل من إسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف، وهو بهذا يحتوي على خمسين إصحاحًا، ومن هنا يمكن تقسيمه حسب الموضوع إلى قسمين: قسم أول يحكي لنا تاريخ البشرية (الفصول من 1 إلى11)، وقسم ثان يروي تاريخ الآباء (الفصول من 12 إلى نهاية السفر).

2- سفر الخروج שמות (شموت)، أي «وهذه أسماء»، ويتمحور هذا السفر حول النبي موسى عليه السلام الذي قاد بني إسرائيل وخرج بهم من مصر، وبواسطته أعطى الله بني إسرائيل الشريعة، ويتضمن سفر الخروج قسمين: هروب بني إسرائيل من العبودية في مصر (من 1 إلى 19)، وإعطاء الشريعة وإقامة خيمة الاجتماع في سيناء (من 20 إلى 40).

3- سفر اللاويين ויקרא (ويقرا)، ويُسمى كذلك سفر الأحبار، وهو كتاب الشرائع والقوانين التي تتناول العبادات والتشريعات والأضاحي والقرابين والكفارات والأطعمة والمشروبات المباحة منها والمحرمة، هذا إلى جانب طقوس الأعياد وشروط الطهارة والنجاسة، ويمكن تقسيمه من حيث المواضيع إلى أربعة أقسام: القسم الأول يتضمن شريعة القرابين (الفصول من 1 إلى7)، والقسم الثاني يتضمن الطريقة التي يتم بها تنصيب الكهنة (الفصول من 8 إلى10)، والقسم الثالث يتضمن شروط الطهارة والتكفير عن الخطايا (الفصول من 14إلى 16)، أما القسم الرابع فيتحدث عن شريعة القداسة.

4- سفر العدد במדבר (بمدبر)، ويسمى (في البرية)، ويعود اسم السِّفر إلى إحصاء بني إسرائيل الخارجين من مصر، وكذلك عدد الذبائح والمدن والقرى (الفصول من 1 إلى 4) كما نجد في هذا السفر بعض الأحكام التشريعية والفتاوى الفقهية.

5- سفر التثنية أو الاشتراع דברים (دبريم)، ويُسمى في النص العبري (هذا هو الكلام)، وهو آخر أسفار التوراة، يُعتبر هذا السفر بمثابة تكرار للشريعة اليهودية على بني إسرائيل بعد خروجهم من صحراء سيناء، ووصولهم إلى صحراء مؤاب، كما يتضمن أيضًا أحكامًا فقهية جديدة.

وقد تستعمل تسمية (التوراة) من باب إطلاق الجزء على الكل، حيث تتصدر القسم الأول وذلك للدلالة على الأقسام الثلاثة: التوراة والأنبياء والمكتوبات، المشكِّلة لما يُعرف بالعهد القديم.

(1) المعجمية العربية على ضوء الثنائية والألسنية السامية، الأب أ.س. مرمرجي الدومنكي:  مطبعة الآباء الفرنسيسيين في القدس، القدس، 1937. ص72.

(2) صبح الأعشى، القلقشندي، دار الكتب العلمية، بيروت، ج13 ص254.

(3) عزرا كاتب التوراة، التوراة بين الوحي الإلهي وتحريف اليهود، إسماعيل حامد، دار مشارق، الجيزة، 2009، ص9-10.

(4) لسان العرب، لابن منظور الإفريقي المصري، دار صادر، بيروت، د ت، مجلد 4، ص508.

(5) عزرا كاتب التوراة، التوراة بين الوحي الإلهي وتحريف اليهود، إسماعيل حامد، مرجع سابق، ص9-10.

(6) هفوات التوراة، حنا حنا، دار النايا ودار رام، دمشق، 2007  ص125.

(7) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، د ت ط 1، ج 5، 2006، ص11.

(8) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ج4، ص208.

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
2.0

الأكثر اطلاعا خلال شهر

رمضان والبناء الروحي للإنسان المسلم

رمضان والبناء الروحي للإنسان المسلم

 أ.د. محمد عباس عبد الرحمن

مع القرآن في شهر القرآن

مع القرآن في شهر القرآن

 د. محمد محمد صالح

مع شهر رمضان وداعًا للتدخين

مع شهر رمضان وداعًا للتدخين

 أ.د. عادل محمد إبراهيم

الأزهر في مواجهة محاولات الاختراق

الأزهر في مواجهة محاولات الاختراق

 أ. د.محمد عبد الفضيل القوصي

استفتاءات القراء

استفتاءات القراء

 تجيب عنها لجنة الفتوى الرئيسة بالأزهر الشريف

خلق ( المواساة ) في ضوء تعاليم الإسلام

خلق ( المواساة ) في ضوء تعاليم الإسلام

 أ.د. رضا عبد المجيد المتولي

من مقومات الزواج في الإسلام الكفاءة ( 3 )

من مقومات الزواج في الإسلام الكفاءة ( 3 )

 أ. د. عبد الفتاح العواري

ركن الواعظات

ركن الواعظات

 الإشراف العام أ.د. إلهام محمد شاهين

الوحدة في الإسلام

الوحدة في الإسلام

 أ.د. أحمد عمر هاشم

الصيام وسيلة للرقي الروحي

الصيام وسيلة للرقي الروحي

 أ.د. رضا عبد المجيد المتولي

عناية الأزهريين بشهر رمضان وليلة القدر

عناية الأزهريين بشهر رمضان وليلة القدر

 أ.د. محمد عبد الدايم الجندي الجعفري

أثر اللغة العربية في الأحكام الشرعية

أثر اللغة العربية في الأحكام الشرعية

 أ. د. عباس شومان

بهجة البلاغة في آيات الصيام

بهجة البلاغة في آيات الصيام

 د. علي العطار

1234

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2025 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg