| 27 أبريل 2024 م

السمات الأسلوبية للغة الجبابرة في ضوء السياقات القرآنية..

أ.د/ مصطفى رجب

  • | السبت, 11 فبراير, 2017
السمات الأسلوبية للغة الجبابرة في ضوء السياقات القرآنية..

الذي يتابع ما يتقوله ملاحدة هذا العصر، ومدعو العلمانية، يلحظ تقارب مفردات خطابهم، وأنماط تفكيرهم، وأسلوب عداوتهم، وطرائقهم في الجدل والنقاش. وقد دعانا هذا إلى محاولة البحث عن جذور هذه الفئة – ولا نقول المدرسة – من البشر في التاريخ الإنساني الذي لا نجد له مصدرًا أصدق ولا أوثق من القرآن المحفوظ.

فقد روى القرآن الكريم قَصَصَ الظلمة والطغاة والجبارين بدءًا من ابن آدم قاتل أخيه ومرورًا بأقوام نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه.

وإذا نظرنا في قصص أولئك الجبارين سنجد تشابهًا كبيرًا يجمع بينهم على صعيد الكفر والقهر والجبروت والإرهاب والقسوة يدفعهم إلى ذلك عوامل كثيرة منها:

1- الاغترار بالمال

2- الاغترار بالسلطة والمنصب

3- التكبر عن الاعتراف بالحق

4- الجهل الفاضح

وإذا كانوا قد تشابهوا في دوافع معاداة الحق الأبلج، فإن من المتوقع أن يكون تعبيرهم عن هذه المعاداة متشابهًا أيضًا. ومن ثم فستسعى السطور القادمة لتحليل البنية الأسلوبية لخطابهم سواء أكان موجهًا إلى من يدعونهم إلى الحق، أم موجهًا إلى أنصارهم وأتباعهم المغلوبين على أمرهم.

أولًا: الأسلوب الخبري:

استخدم الجبارون في خطابهم الأسلوب الخبري، وهو كما يقول البلاغيون: (ما يحتمل الصدق والكذب لذاته)، في محاولة منهم لإبهام من يخاطبونه بأنهم صادقون، كما نلحظ في قول النمروذ الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم -عليه السلام-:

"رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ " (البقرة: 258)

وقد ورد استخدام الأسلوب الخبري كثيرًا على ألسنة الجبارين فقد جاء في خطاب قوم إبراهيم كما في قوله -تعالى- على لسانهم حين سألهم إبراهيم -عليه السلام- عن التماثيل التي يعكفون على عبادتها:

"قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ"  (الأنبياء: 53)

وفي قولهم:

"قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ"   (الأنبياء: 60)

وفي قوله تعالى عنهم:

"فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ"  (الأنبياء: 64، 65)

كما ورد استخدام الأسلوب الخبري على لسان قوم إبراهيم أيضًا في سورة الشعراء في حوار إبراهيم -عليه السلام- معهم. قال تعالى:

 

"إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)  أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ"

(الشعراء: 70-74)

 

ويظهر من استخدامهم هذا الأسلوب، أن دافعهم إلى استعماله إنما هو الجهل بحقيقة تلك الآلهة الزائفة التي لا تنفع ولا تضر. وأن عبادتهم إياها ما هي إلا ضرب من تقليد الآباء السابقين.

وورد الأسلوب الخبري أيضًا على لسان قوم لوط -عليه السلام- حين رأى منهم رغبة في إيذاء ضيوفه فعرض عليهم أن يتزوجوا من بناته ويكفوا أذاهم عن ضيوفه، قال تعالى على لسانهم:

"قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ"  (هود: 79)

وقد يكون الدافع إلى استعمال هذا الأسلوب هنا هو الاستكبار والعناد والإصرار على الأذى وعدم الرغبة في الاستجابة للهدى والرشاد.

وورد الأسلوب الخبري كذلك على لسان قوم ثمود في ردهم على نبي الله صالح -عليه السلام- حين تعجب من استعجالهم بالسيئة فكان جوابهم عجيبًا

"قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ" (النمل: 47)

ثانيًا: أسلوب التوكيد:

ومما يتصل بالأسلوب الخبري اللجوء إلى توكيد الكلام رغبة من أولئك الجبارين في إلباس الباطل ثوب الحق عن طريق تأكيد الكلام ليبدو وكأنه حقيقة، وقد ورد استخدام التوكيد كثيرًا على لسان فرعون في القرآن الكريم، في ادعاء الألوهية حتى صدقه أكثر قومه وعبدوه وحين تبين -للسحرة الذين جاء بهم من أقاصي البلاد- أنه على الباطل أعلنوا رفضهم لألوهيته وآمنوا بنبوة موسى -عليه السلام-. وأعلنوا ذلك في قوة وتصميم وإيمان لا يتزعزع. فماذا يملك هذا الطاغية الجبار غير التهديد والتشكيك؟

"قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ"   (طه: 71)

فهو يستخدم التوكيد بالحروف ( إن – اللام) في قوله:

" إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ " والتوكــيد باللام والنـــون "فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ" وورد التوكيد في خطاب فرعون للسحرة قبل أن يؤمنوا. حين سألوه

"فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" (الشعراء: 41، 42)

وحين أوشك الخسران أن يحيق بفرعون وأنصاره، ثارت ثائرته. وتوالت تعبيراته ساخنة طافحة بالمرارة والخذلان. وتوالت أساليب التوكيد في محاولة يائسة لجمع شمل أنصاره وتبصيرهم بالخطر.

"فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(53) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ"   (الشعراء: 53-56)

ثالثًا: أسلوب الشرط:

يحمل أسلوب الشرط بطبيعة تركيبه ما يحمله كل من الإغراء والتحذير من تأثير نفسي في المخاطب. فحين يسمع المخاطب فعل الشرط ينتظر جوابه قلقًا مترقبًا متحسبًا. وفقًا لطبيعة فعل الشرط التأثيرية. فإذا كان صدر جملة الشرط يحمل إغراءً، انتظر السامع أن يجد في جملة جواب الشرط وجزائه ما يدفعه إلى هذا السلوك أو ذاك. وإذا حملت جملة صدر الشرط تخويفًا فزع السامع وتلهفت نفسه لمعرفة الجزاء الذي يكشفه عَجُزُ جملة الشرط.

وإذا كان الإغراء والتحذير هما وجهي العملة الشرطية من حيث الدلالة، فإن الغالب على أسلوب خطاب الجبارين إزاء خصومهم هو التحذير والتهديد والوعيد باستخدام الجملة الشرطية كما يظهر في سورة الشعراء على ألسنة معظم الجبارين الذين سردت تلك السورة قصصهم، وسجلت حواراتهم على مدى تاريخ البشرية. فقوم نوح لا يستجيبون لدعوته. ولا يكتفون بكفرهم وعنادهم. بل يهددونه قائلين:

"قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ" (الشعراء: 116)

ومن خطاب هؤلاء الكفرة الفجرة تظهر نبرة التهديد القاسية في قولهم:

"لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ"

فلم يقولوا مثلًا: (لنرجمنك) ليكون التهديد له وحده. بل استعملوا (من) التبعيضية وجعلوه مجرد (واحد) من المرجومين أي: إنهم سيرجمونه هو ومن آمن به. وذلك حتى يقطعوا من نفسه أدنى أمل في المقاومة، أو تفكير في الاستنصار بأتباعه المؤمنين. وبمثل هذا الخطاب نفسه، خاطب قوم لوط نبيهم، غير أن تهديدهم كان بطرده من بلده إذ قالوا:

"قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ"   (الشعراء: 167)

وذلك لأنه انتقد أفعالهم القبيحة بقوله:

"أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ"  (الشعراء: 165، 166)

فجواب أسلوب الشرط هنا هو إبعاده ومن آمنوا معه من بلدهم حتى يستريحوا تمامًا من عار تعييرهم بأفعالهم الشنعاء.

وهذا نوح وعظ قومه وعظا لينا:

" إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ(106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ(109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ(111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي ۖ لَوْ تَشْعُرُونَ(113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ(114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ(115) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ"

 (الشعراء: 106-116)

فكان جزاء الشرط في مقابل هذا الوعظ -الهيِّن الليِّن- التهديد بالرجم، والرجم لن يؤدي بالضرورة إلى الموت، بل قد يكون لمجرد الردع والإيذاء البدني، أما الإبعاد والنفي فهو قتل محقق وإن كان قتلًا معنويًا، فضلًا عما فيه من تخلص من أسبابه.

فهذان نموذجان من أسلوب الشرط حين ورد على لسان أمتين من الأمم الظالمة، وفي النموذجين كان جواب الشرط وجزاؤه التهديد مرة بالرجم ومرة بالنفي.

وقد يلجأ الجبارون الظلمة في استعمالهم لأسلوب الشرط إلى التعجيز. كما ورد على لسان قوم عاد وثمود كما قال تعالى في سورة فصلت:

"فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13)  إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ"  (فصلت: 13، 14)

فجملة الشرط هاهنا تتكون من (لو + الفعل) في قولهم:

"لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ" (فصلت:14)

والمعروف أن (لو) تفيد امتناع حدوث الجواب لامتناع حدوث الفعل، والجواب هنا محذوف وقد جاء في الآية ما يدل عليه ودخلت (الفاء) التي تلحق بجواب الشرط، على ما جاء بديلًا عن الجواب ومترتبًا عليه. والتقدير: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ولو أنزل ملائكة – بدلًا منكم أيها الرسل البشر – لآمنا، ولأنه لم ينزل ملائكة فإننا كافرون بما تدعوننا إليه. وهنا ملحظ مهم وهو أن القوم استعملوا في خطابهم لفظ (ربنا) فكأنهم موقنون بوجود الله ولكن غرور القوة وجبروت الجاه والمال والسلطة هو الذي دفعهم إلى طريق الشر.

يدل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك:

"فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ"  (فصلت: 15)

"وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"  (فصلت: 17)

رابعًا: استخدام الأمر:

من السمات الأسلوبية في خطاب الجبارين، تفضيلهم لصيغتي الأمر والنهي لما في هاتين الصيغتين من جبروت واستعلاء، فالأمر في أصل دلالته يقصد به طلب فعل الشيء على جهة الاستعلاء، والنهي يقصد به الكف عن فعل الشيء على جهة الاستعلاء. ولذلك نرى الجبارين يكثرون من استعمالهما وبخاصة حين يضيق الخناق عليهم؛ ففي سورة يونس نجد فرعون حائرًا حاسمًا أمام آيات الله المعجزات التي أيد الله -تعالى- بها نبيه موسى -عليه السلام- فيلجأ لفعل الأمر موجزًا حاسمًا مستعصمًا بسلطته وقوته

"وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ"  (يونس: 79)

والأمر هنا على أصل دلالته فهو يعني الإتيان بالسحرة بالفعل. وكذلك جاء استعمال الأمر على حقيقته على لسان قوم إبراهيم -عليه السلام- حين سفّه أحلامهم وسخر من آلهتهم، وانهال عليها تحطيمًا وإهانة. فلما رأوا ما حلّ بآلهتهم وعرفوا أن الذي فعل ذلك هو إبراهيم

"قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ" (الأنبياء: 61)

فلما حاوروه فأفحمهم في الحوار وأوقفهم على حقيقة آلهتهم التي لا تنطق ولا تنفع ولا تضر، تصاغروا وشعروا بالضعف العقلي وأبى عليهم غرورهم أن يلينوا للحق، وينصاعوا للدليل، فلم يجدوا إلا ما يملكون من سطوة القوة، وغرور السلطة فماذا فعلوا؟

"قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ"  (الأنبياء: 68)

والأمر هنا على حقيقة دلالته أيضًا، فقد نفذوه وألقوا به في النار ولكن الله تعالى نجاه بمعجزة خالدة.

ولكن الجبارين قد يستعملون (الأمر) ولا يريدون به حقيقة دلالته. فقوم شعيب حين نهاهم نبيهم عن تطفيف الكيل وأمرهم بالعدل في الميزان

" قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ"   (الشعراء: 185-187)

فاستعمال الأمر هنا

"فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ"

لا يقصد به الإتيان بفعل يعلمون سلفًا أنه لا يُقْدَرُ عليه. وهذا يدل على مدى غلظة قلوبهم وتمكن الجحود والعمى منها.

وكذلك يظهر الأمر الدال على الغرور في سلوك قوم سبأ الذين كفروا بنعمة الله ولم يشكروا له ما أفاء عليهم من نعم الزروع المثمرة والطرق الآمنة

"فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ"   (سبأ: 19)

فاستعمال الأمر هنا "    بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا "

صادر من الأدنى للأعلى فيراد به الدعاء. فلما دعوا على أنفسهم جاءت الاستجابة سريعة معبرًا عنها بحرف (الفاء)

"فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ"  (سبأ: 19)

لتبشيع ظلم الإنسان لنفسه والتنفير منه.

خامسًا: استخدام النهي:

والنهي هو الصورة المقابلة للأمر في خطاب الجبارين. ومعناه الأصلي طلب الكف عن فعل الشيء على وجه الاستعلاء والإلزام. وقد يتلازمان في لغة الجبارين فكفار مكة حين رأوا تزايد أتباع محمد شعروا بالخوف على سلطانهم ومراكزهم فطلبوا من أتباعهم بصيغة الأمر والنهي ألا يستمعوا للقرآن وأن يعبثوا بالمسلمين حين يقرأ بعضهم القرآن

"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ"  (فصلت: 26)

وكذلك يلجأ أصحاب الجنة الظالمون حين غدوا على جنتهم عازمين أن يحرموا الفقراء ما كان عودهم أبوهم عليه من الصدقة

"فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ(23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ"  (القلم: 23، 24)

فالنهي هنا على حقيقته وقد ورد مصحوبًا بتوكيد الفعل المنفي بالنون زيادة في تأكيد النهي عن الفعل. وقد ورد الخطاب نفسه على لسان قوم نوح -عليه السلام- حين نهى بعضهم بعضًا عن اتباع نوح وترك آلهتهم كما يظهر في سياق قصتهم في سورة نوح

"وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا(22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا"   (نوح: 22، 23)

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

الأكثر اطلاعا خلال شهر

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

 أ.د. محمد أبو موسى

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

 أ. د. نادي محمود حسن

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

 أ.د. أحمد أحمد غلوش

رمضان في فلسطين

رمضان في فلسطين

  د. شيماء زيدان

من الأدب النبوي أدب الطعام

من الأدب النبوي أدب الطعام

 أ.د. محمد عبد الفضيل القوصي

الإخــاء ( 2 )

الإخــاء ( 2 )

 فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

رمضان والنفس البشرية

رمضان والنفس البشرية

 أ.د. محمد رمضان

بين الصيام والإحرام

بين الصيام والإحرام

 إعداد : د. أسماء عبد العزيز

من وجوه التيسير في الصوم

من وجوه التيسير في الصوم

  أ.د. أمان محمد

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

 أ.د. عزيزة الصيفي

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء

 الإمام/ محمد عبده

وقفات مع آيتي الرضاعة

وقفات مع آيتي الرضاعة

 أ. د. عباس شومان

تشريع الصيام

تشريع الصيام

 ا.د. خالد البسيوني

من الفتوحات الربانية في رمضان

من الفتوحات الربانية في رمضان

 أ. د. محمد عبد الرحمن الضويني

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

 د. سليمان جادو شعيب

12

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg