| 27 أبريل 2024 م

تفسير سورة البقرة

الإمام محمد عبده

  • | السبت, 18 فبراير, 2017
تفسير سورة البقرة

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ"

وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيًا وعدوانًا. فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال، لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة، وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرمًا في الجاهلية، وأخرج الواحدي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله ﷺ صُدَّ عن البيت، ثم صالحه المشركون، فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء. فلما كان العام القابل، تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم. وكره أصحابه قتالهم في الحرام والشهر الحرام. فأنزل الله تعالى:

"وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ"

يقول: أيها المؤمنون الذين تخافون أن يمنعكم مشركو مكة عن زيارة بيت الله والاعتمار فيه، نكثًا منهم للعهد وفتنة لكم في الدين، وتكرهون أن تدافعوا عن أنفسكم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام: إنني أذنت لكم في القتال على أنه دفاع في سبيل الله للتمكن من عبادته في بيته، وتربية لمن يفتنكم عن دينكم وينكث عهدكم، لا لحظوظ النفس وأهوائها، والضراوة بحب التسافك. فقاتلوا في هذه السبيل الشريفة من يقاتلكم، "وَلَا تَعْتَدُوا" بالقتال فتبدءوهم - ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى أو من ألقى إليكم السلم وكف عن حربكم - ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار. وقد قالوا إن الفعل المنفي يفيد العموم.

علل الإذن بأنه مدافعة في سبيل الله، وسيأتي تفصيله في الآية التالية، وعلل النهي بقـوله:

"إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"

أي إن الاعتداء من السيئات المكروهة عند الله تعالى لذاتها، فكيف إذا كان في حال الإحرام، وفي أرض الحرم والشهر الحرام؟

ثم قـــال:

"وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ"

أي إذا نشب القتال فاقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم، ولا يصدنكم عنهم أنكم في أرض الحرم إلا ما يستثنى في الآية بشرطه.

"وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ"

أي من المكان الذي أخرجوكم منه، وهو مكة. فقد كان المشركون أخرجوا النبي وأصحابه المهاجرين منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم، ثم صدوهم عن دخولها لأجل العبادة، فرضي النبي والمؤمنون على شرط أن يسمحوا لهم في العام القابل بدخولها لأجل النسك والإقامة فيها ثلاثة أيام كما تقدم. فلم يكن من المشركين إلا أن نقضوا العهد، أليس من رحمة الله تعالى بعباده أن يقوي هؤلاء المؤمنين ويأذن لهم بأن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الخائنين؟ وهل يصح أن يقال فيهم: إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة دون الإرشاد والدعوة؟ كلا لا يقول هذا إلا غر جاهل، أو عدو متجاهل.

ثم زاد التعليل بيانا، فقال:

"وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ"

أي إن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال، أشد قبحًا من القتل، إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره، والفتنة في الأصل مصدر، فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزَّغَل منهما. ويسمى الحجر الذي يختبرهما به أيضًا فتانة (كجبانة). ثم استعملت الفتنة في كل اختبار شاق، وأشده الفتنة في الدين وعن الدين ومنه قوله تعالى:

"أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"  (العنكبوت: 2)

وغير ذلك من الآيات.

وما تقرر في هذه الآيات على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في سورة الحج:

"أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ "  (الحج: 40،39)

الآيات، وهي أول ما نزل من القرآن في شرع القتال معللاً بسببه مقيدًا بشروطه العادلة.

وفسر بعضهم الفتنة هنا وفي الآية الآتية بالشرك، وجرى عليه (الجلال)، وهو مردود، لأنه يخرج الآيات عن سياقها، وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف (قيل). ومردود قولهم أيضًا إن هذه الآية ناسخة لما قبلها، وذلك أنه كبر على هؤلاء القائلين بالنسخ أن يكون الإذن بالقتال مشروطًا باعتداء المشركين، ولأجل أمن المؤمنين في الدين فأرادوا أن يجعلوه مطلوبًا لذاته. ونحن نرى أن هذه الآيات نزلت مرة واحدة في نسق واحد وقصة واحدة فلا معنى لكون بعضها ناسخًا للآخر، وأما ما يؤخذ من العمومات فيها بحكم أن القرآن شرع ثابت عام، فذلك شيء آخر.

ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه المسجد الحرام، فقال:

"وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ"

أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنًا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته فلا أمان له حينئذ.

ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرًا عظيمًا يتحرج منه، أكد الإذن فيه بشرطه، ولم يكتف بما فهم من الغاية، فقال:

"فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ"

ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم.

"كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ"

أي إن من سُنة الله تعالى أن يجازي الكافرين مثل هذا الجزاء فيعذبهم في مقابلة تعرضهم للعذاب بتعدي حدوده فيكونوا هم الظالمين لأنفسهم.

وقرأ حمزة والكسائي: ولا تقتلوهم.. حتى يقتلوكم. فإن قتلوكم فاقتلوهم. من قَتَلَ الثلاثي، وَيخرَّج على أن قتل بعض الأمة كقتل جميعها لتكافلها، والمراد حتى لا يقتلوا أحدًا منكم فإن قتلوا أحدًا فاقتلوهم. وهو أسلوب عربي بليغ.

ثم قال: "فَإِنِ انتَهَوْا" عن القتال فكُفوا عنهم، أو عن الكفر فإن الله يقبل منهم.

"فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"

يمحو عن العبد ما سلف إذا هو تاب عما اقترف، ويرحمه فيما بقي إذا هو أحسن واتقى:

"إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ"   (الأعراف: 56)

"وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ"

عطف على "وَقَاتِلُوا" في الآية الأولى فتلك بينت بداية القتال، وهذه بينت غايته وهي ألا يوجد شيء من الفتنة في الدين أي حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها ويؤذونكم لأجل الدين ويمنعونكم من إظهاره أو الدعوة إليه

"وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ"

وفى آية سورة الأنفال:

"وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ"  (الأنفال: 39)

أي يكون دين كل شخص خالصًا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فَلَا يفتن لصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى الدهان والمداراة، أو الاستخفاء أو المحاباة. وقد كانت مكة إلى هذا العهد قرار الشرك، والكعبة مستودع الأصنام، فالمشرك فيها حر في ضلالته، والمؤمن مغلوب على هدايته.

قال: "فَإِنِ انتَهَوْا"

أي في هذه المرة عما كانوا عليه

"فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ"

أي فلا عدوان عليهم لأن العدوان إنما يكون على الظالمين تأديبًا لهم ليرجعوا عن ظلمهم. ففي الكلام إيجاز بالحذف، واستغناء عن المحذوف بالتعليل الدال عليه، ويجوز أن يكون المعنى فإن انتهوا عما كانوا عليه من القتال والفتنة، فلا عدوان بعد ذلك إلا على من كان منهم ظالمًا بارتكابه ما يوجب القصاص، أي فلا يُحَارَبون عامة وإنما يؤخذ المجرم بجريمته.

ثم زاد تعليل الإذن بالقتال بيانًا ببنائه على قاعدة عادلة معقولة، فقال تعالى:

"الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(194) وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"    (البقرة: 195،194)

لما خرج المؤمنون مع النبي ﷺ للنسك عام الحديبية، صدهم المشركون وقاتلوهم رميًا بالسهام والحجارة. وكان ذلك في ذي القعدة من الأشهر الحرم سنة ست، ولو قابلهم المسلمون عامئذ بالمثل ولم يرض النبي بالصلح، لاحتدم القتال ولما خرجوا العام الآخر لعمرة القضاء، وكرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام بين لهم أن المحظور في الأشهر الحرم إنما هو الاعتداء بالقتال دون المدافعة، وأن ما عليه المشركون من الإصرار على الفتنة وإيذاء المؤمنين لأنهم مؤمنون وهو أشد قبحًا من القتل لإزالة الضرر العام وهو منعهم الحق وتأييدهم الشرك.

ثم بيّن قاعدة عظيمة معقولة، وهي أن الحرمات، أي ما يجب احترامه والمحافظة عليه، يجب أن يجري فيه القصاص والمساواة، فقال:

"الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ"

ذكْرُ هذه القاعدة حجة لوجوب مُقاصَّة المشركين على انتهاك الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقًا. وفي جملة:

"وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ"

من الإيجاز ما ترى حسنه وإبداعه.

ثم صرح بالأمر بالاعتداء على المعتدي، مع مراعاة المماثلة، إن كان يفهم مما قبله، لمكان كراهتهم للقتال في الحرم والشهر الحرام، فقال تفريعًا على القاعدة وتأييدًا للحكم:

"فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ"

إنما يتحقق هذا فيما تتأتى فيه المماثلة. وسمي الجزاء اعتداء للمشاكلة.

"وَاتَّقُوا اللَّهَ"

فلا تعتدوا على أحد، ولا تبغوا ولا تظلموا في القصاص بأن تزيدوا في الإيذاء. وأكد الأمر بالتقوى بما بُين من مزيتها وفائدتها، فقال:

"وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"

بالمعونة والتأييد، فإن المتقي هو صاحب الحق وبقاؤه هو الأصلح، والعاقبة له في كل ما ينازعه به الباطل، لأن من أصول التقوى اتقاء جميع أسباب الفشل والخذلان.

ولما كان الجهاد بالنفس وهو القتال، يتوقف على الجهاد بالمال، أمرهم به فقال:

 

"وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"

وهو عطف على قاتلوا رابط لأحكام القتال والحج بحكم الأموال السابق. فهناك ذكر ما يحرم من أكل المال مجملاً، وهاهنا ذكر ما يجب من إنفاقه منه كذلك. وسبيل الله، هو طريق الخير والبر والدفاع عن الحق.

ثم ذكر علة هذا الأمر وحكمته على ما هي سنته في ضمن حكم آخر، فقال:

"وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"

بالإمساك عن الإنفاق في الاستعداد للقتال، فإن ذلك يضعفكم ويمكّن الأعداء من نواصيكم فتهلكون. ويدخل في النهي: التطوع في الحرب بغير علم بالطرق الحربية التي يعرفها العدو. كما يدخل فيه كل مخاطرة غير مشروعة بأن تكون لاتباع الهوى، لا لنصر الحق وتأييد حزبه. وقال بعضهم فيه نهي عن الإسراف الذي يوقع صاحبه في الفقر المدقع؛ فهو من قبيل:

"وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا"  (الأعراف: 31)

وفسر (الجلال) "سَبِيلِ اللَّهِ"؛ الجهاد وغيره، والتهلكة بالإمساك عن النفقة وترك الجهاد. قال: لأنه يقوي العدو عليكم. ولقد أصاب مفسرنا وأجاد في تفسير هذه الآية، وقال بعضهم في تفسير النهي عن التهلكة أي لا تقاتلوا إلا حيث يغلب على ظنكم النصر وعدم الهزيمة. وهذا لا معنى له إذ لا يلتئم مع ما سبقه، وقال بعضهم: إنه نهي عن الإسراف، ولا يلتئم مع الأسلوب قبله وبعده. وإنما الذي يلتئم ويناسب هو ما قاله الجلال وآخرون. فالمعنى: إذا لم تبذلوا في سبيل تأييد دينه كل ما تستطيعون من مال واستعداد، فقد أهلكتم أنفسكم.

وفي أسباب النزول عن أبي أيوب الأنصاري، قال نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرّا: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله يرد علينا ما قلنا "وَأَنفِقُوا"، الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو.

ثم قال تعالى:

"وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"

الأمر بالإحسان على عمومه، أي أحسنوا أعمالكم وأتقنوها فلا تهملوا إتقان شيء منها. ويدخل فيه التطوع بالإنفاق.

وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية سورة براءة (التوبة) التى يسمونها آية السيف. وعندي أن محصل تفسير الآيات ينطبق على ما ورد من سبب نزولها وهو إباحة القتال للمسلمين في الإحرام بالبلد الحرام والشهر الحرام إذا بدأهم المشركون بذلك، وأن لا يبقوا عليهم إذا نكثوا عهدهم واعتدوا في هذه المرة وحكمها باق مستمر لا ناسخ ولا منسوخ، فالكلام فيها متصل بعضه ببعض في واقعة واحدة فلا حاجة إلى تمزيقه، ولا إدخال آية براءة فيه. وقد نقل عن ابن عباس أنه لا نسخ فيها. ومن حمل الأمر بالقتال فيها على عمومه ولو مع انتفاء الشرط. فقد أخرجها عن أسلوبها وحمّلها ما لا تحمل.

وآيات سورة آل عمران نزلت في غزوة أحد، وكان المشركون هم المعتدين. وآيات الأنفال نزلت في غزوة بدر الكبرى وكان المشركون هم المعتدين أيضًا. وكذلك آيات سورة براءة نزلت في ناكثي العهد من المشركين، ولذلك قال:

"فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ"   (التوبة: 7)

وقال بعد ذكر نكثهم:

"أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"

 (التوبة: 13)، الآيات...

كان المشركون يبدءون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم، ولو لم يبدءوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذائهم ومنع الدعوة كل ذلك كافيًا في اعتبارهم معتدين. فقتال النبى ﷺ كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق، ولذلك كان تقديم الدعوة شرطًا لجواز القتال. وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان. فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل، فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين، فالله تعالى يقول:

"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"   (البقرة: 256)

ويقول:

"أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"   (يونس: 99)

وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويعتدي على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح ولا لأجل الطمع في الكسب.

ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياءهم من العرب المتنصرة ومن يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم، فقد مزقوا كتاب النبي ﷺ، ورفضوا دعوته، وهددوا رسوله، وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك، ولم يكن كله موافقًا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية، شهد لها علماء الإفرنج بذلك.

وجملة القول في القتال: إنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها. فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه ويقرب ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان. ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتهم، يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.

وبما قررناه، بطل ما يهذي به أعداء الإسلام - حتى من المنتمين إليه - من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين إنه ليس دينًا إلهيًا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء وإن العقائد الإسلامية خطر على المدنية - كل ذلك باطل والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

الأكثر اطلاعا خلال شهر

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

 أ.د. محمد أبو موسى

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

 أ. د. نادي محمود حسن

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

 أ.د. أحمد أحمد غلوش

رمضان في فلسطين

رمضان في فلسطين

  د. شيماء زيدان

من الأدب النبوي أدب الطعام

من الأدب النبوي أدب الطعام

 أ.د. محمد عبد الفضيل القوصي

الإخــاء ( 2 )

الإخــاء ( 2 )

 فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

رمضان والنفس البشرية

رمضان والنفس البشرية

 أ.د. محمد رمضان

بين الصيام والإحرام

بين الصيام والإحرام

 إعداد : د. أسماء عبد العزيز

من وجوه التيسير في الصوم

من وجوه التيسير في الصوم

  أ.د. أمان محمد

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

 أ.د. عزيزة الصيفي

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء

 الإمام/ محمد عبده

وقفات مع آيتي الرضاعة

وقفات مع آيتي الرضاعة

 أ. د. عباس شومان

تشريع الصيام

تشريع الصيام

 ا.د. خالد البسيوني

من الفتوحات الربانية في رمضان

من الفتوحات الربانية في رمضان

 أ. د. محمد عبد الرحمن الضويني

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

 د. سليمان جادو شعيب

12

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg