| 25 أبريل 2024 م

من افتراءات المستشرقين على الأصول العقدية في الإسلام

أ.د/ عبد المنعم فؤاد عميد كلية العلوم الإسلامية للوافدين

  • | الإثنين, 20 فبراير, 2017
من افتراءات المستشرقين على الأصول العقدية في الإسلام

الرد على دعوى التناقض والاختلاف في القرآن الكريم

ما زلنا نتعقب الغلاة من المستشرقين، والذين يحاولون أن يُلقوا الغُبار على كتاب الله -عز وجل- ويضربوا بعض آياته الكريمة ببعض، ليصلوا إلى القول: بأن هذا الكتاب فيه تناقض واختلاف، وطالما هو كذلك فهو من عند غير الله -عز وجل- القائل سبحانه في نفس الكتاب العزيز: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء: 82).

وأمسكوا ببعض الآيات - كما نقلنا عنهم في المقال السابق- وادعوا كذبا، وبهتانا أنها متضاربة، ومتناقضة، والاختلاف فيما بينها جلي، وغير خفي، وقد نقلنا مثالين مما زعموا، وأتينا في تفنيدهما بالأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة نقلا، وعقلا، ونتابع في هذا المقال - بمشيئة الله تعالى - أيضا أمثلة أخرى مما قالوا ، لنبين أن الثوب الذي حاكه المستشرقون حول كتاب ربنا -عز وجل- هو ثوب مهلهل لا يقوى أمام البحث الصحيح الذي لا يتجنى على أحد، وأن ما افتروه إن هو إلا افتراضات وتخيلات، وتخمينات لا تغني عن الحق شيئا، وهذه مسائل من بعض مفترياتهم - نتابع تفنيدها كما سبق:

3- مسألة حمل الأوزار:

وفيـها قـالـوا: إن آية في سورة الأنعام تقول: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" (الأنعام: 164).

ومثيل لها في سورة فاطر: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" (فاطر: 18).

وفي سورة النجم: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" (النجم: 38).

بينما في سورة النحل آية تقول: "لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ" (النحل: 25).

وكذلك في سورة العنكبوت: "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ" (العنكبوت: 13).

فكيف يُقال: لا تزر وازرة وزر أخرى ثم يُقال: يحملون أوزارًا مع أوزارهم أليس في هذا تناقض(1) ؟

وللرد أقول:

ليس هناك تناقض، ولا تضارب، بل هناك عدم فهم، أو عدم تمرس على اللسان العربي ذي الملكة اللغوية، والدقة، والذوق البليغ الذي يفهم الأسلوب، ويدرك مراميه. أو يمكن القول أيضًا: إن هؤلاء فاهمون، ولكنهم بالألفاظ يتلاعبون، ويحاولون أن يدخلوا على الناس بهذه الفرية لكي يصدقها الناشئة، والناشئة ليس عندها بصر بأسلوب اللغة، ولكن المسلم المتدبر لكلام الله تعالى يعلم من خلال معرفته باللغة ومعانيها، ودقة مراميها أنه لا يوجد ثمّة تضارب بين الآيات الكريمة، ذلك لأن الآيات في سورة (آل عمران وفاطر والنجم) تُبين حكم الله، وعدله بين الناس يوم القيامة، وتقرر أن النفوس بأعمالها تُجازى إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا يمكن أن يحمل أحد خطيئة أحد: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" (المدثر: 38)،  أي مرتهنة بعملها(2).

فمن ضل فعليه ضلاله، ولا يصح أن يتحمله أحد سواه.

ثم تأتي سورة (النحل) لتوسع مدارك الأفهام أكثر، وتنبه أن هذا الضال لو نقل ضلاله إلى آخر، واتبعه هذا الآخر فإنه سيحمل وزر ضلاله، ثم ضلال من أضله لذا جـاء قـوله سبحانه في ذلك: "لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ".

وعلى هذا الأمر أكدت آية سورة العنكبوت فقالت: "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ"

أي: أوزارهم التي عملوها، والتعبير عنها بالأثقال – كما يقول الشوكاني – للإيذان بأنها ذنوب عظيمة، وأثقالًا مع أثقالهم، وهي أوزار من أخرجوهم عن الهدى إلى الضلالة(3).

فإذا وجد في مجتمعنا من يشرب الخمر -مثلًا- فهذا عليه إثمه ووزره؛ لأن عمله هذا يستحق عليه العقاب، فإن أخذ يقترب من إنسان آخر لا يعرف طريقًا لشرب الخمر، وأخذ يُزين له الطريق، ويغريه حتى جعله من الشاربين فعليه حينئذ وزر التزيين، والإضلال لهذا الآخر؛ لأنه أتى بعمل جديد ساعد من خلاله على فعل المعصية، وتزيينها حتى وقع فيها ذلك الآخر، ويمكن أن نسمي هذا الأخير وزر الإضلال، أما الأول فهو وزر الضلال، وعليه فالآيات الأولى التي تقول: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" يُقصد بها الضالون، أما آيتي: (النحل والعنكبوت) فيقصد بها المضلون الذين يُضلون عن سبيل الله، ولا تناقض بين الآيات. فهل يفهم المستشرقون ذلك؟ نأمل. ونأتي إلى مسألة أخرى:

4- ما جاء في الود والمعروف:

حيث ذكر المستشرقون أيضًا في كتاب لهم يسمى: (سفر البرهان في متناقضات القرآن)(4).

إن القرآن يحض الناس على معاملة آبائهم معاملة سيئة، وقاسية من خلال ما جاء في سورة المجادلة: "لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ" (المجادلة: 22).

ثم تأخذ محمدًا عاطفةٌ من حنان فتجعله يسهو، ويقول ثانيًا في سورة لقمان: "وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا" ( لقمان: 15).

وفي هذا تناقض، واختلاف، إذ كيف يُقال في الآية الأولى: بعـدم موادّتهـم وفي الثانية يقـول: "وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا" كيف يمكن أن يستقيم أمران مختلفان في نفس الشيء؟! -هكذا توهموا-.

وللرد على هذه الفرية أقول:

إن المتأمل اللبيب: لا يجد أي اختلاف، أو تضارب بين الآيتين الكريمتين، بل يجد جهلًا من المستشرقين بمعاني اللغة، وعدم فهم لعظمة ومكانة ودقة اللفظ في القرآن الكريم- كما أشرنا سابقًا - ذلك: لأن الآية الأولى تتحدث عن الود، والثانية عن المعروف، والآيتان لم تردا على شيء، واحد  ولو وردتا على شيء واحد لأمكن أن يقال هناك تناقض.

 ولكي نقف على الفرق بين الود والمعروف نقترب من آيات أخرى من القرآن الكريم، إذ القرآن يُفسر بعضه بعضًا فنقرأ قول الله تعالى في سورة الروم:

"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم: 21).

يقول المفسرون: جعل بينكم مودة ورحمة وهي الرأفة في الرجل يمسك المرأة لمحبته لها أو الرحمة بها(5)

وعلى ذلك فالمودة هي: المحبة التي تمس القلب، وتستقر فيه، أما المعروف فهو الإحسان إلى الغير.

وآية سورة المجادلة: تدعو المؤمن ألا يجعل بينه، وبين الكافر الذي يحاد الله، ورسوله أي مودة، أو محبة قلبية؛ لأن إيمان المؤمن كما يقول البغوي في تفسيره لهذه الآية يَفْسُد بموادة الكفار، ومن كان مؤمنًا لا يوالي كافرًا  - على حساب دينه - أي لا يحبه، وإن كان من عشيرته(6)، وأولهم أباه وأمه.

أما آية سورة (لقمان) فهي لا تطلب محبة الأبوين إن كانا على كفرهما باقيين، وكذلك لم تدعُ إلى إهمالهما، وتركهما لأحداث وأهوال الدهر، بل تنصح المؤمن، وتأمره بأن يحسن إليهما، ويصاحبهما بالبر والصلة والعشرة الجميلة(7).

وهذا هو عين المعروف، فالمعروف يصنعه المرء مع من يحب، ومع من لا يحب، فلو رأى شخص ما: إنسانًا في الطريق قد تعطلت سيارته، وفي حاجة إلى مساعدة وعون فقدم له ما يريد، وقضى حاجته، فإنه حينئذ يكون قد صنع له معروفًا عسى الله أن يجزيه عنه خيرًا، ولا يُقال: إن هذا الصنع مودة؛ لأن المودة محلها القلب، والمؤمن لا يُحب الكافر ولو كان والده بل يدعو له بالهداية ، ولكن يصنع له المعروف، ويتعايش سلمًا معه، وهذا هو ما يفهم من الآيتين الكريمتين، وهو ما فهمه الصحابة الأجلاء مع الرسول وترجموه إلى واقع ملموس في محيط الحياة، ولنضرب مثلا يوضح ذلك أكثر: فسيدنا سعد بن أبي وقاص كان من السابقين الأولين، وكان بأمه بارًا كما أمر الدين الحنيف فلما علمت أمه بإسلامه اعترضت بشدة على ذلك، فلم يأبه باعتراضها، فقالت له ذات يوم وهي غاضبة: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل، ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتُعيّر بذلك أبد الدهر. فقال لها: يا أماه لو كانت لك مئة نفس فخرجَتْ نفسًا نفسًا ما تركت ديني، فكلي، وإن شئت لا تأكلي فأنزل الله قوله سبحانه: (وإن جاهداك) الآية، فكان يصنع معها المعروف، ولكن لا يحبها(8)، بل يطردها من قلبه تمامًا؛ لأنها تحارب الله، وتدعو إلى الإشراك به، وقلب المؤمن لا يصح أن يدخل فيه كافر مع الله، ولا من يحاول أن يشرك به، ولو كان واحدًا من أبويه.

وعلى ضوء ذلك لا نرى بين الآيتين أي تضارب أو تناقض كما زعم المستشرقون؛ لأن الأولى حديثها عن المودة والمحبة، والمحبة لا تكون لغير المؤمن، والثانية عن صنع الجميل، والمعروف، ويفعل للمؤمن المعروف وغير المؤمن.

ولله در القائل:

ازرع جميلًا ولو في غير موضعه 

فلن يضيع جميل أينما زُرعــــــــا.

إن الجميل وإن طـــــال الزمان بـــه

فليس يحصـــــده غير الذي زرعا.

وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-. 

 

(1) انظر: شبهات وخصوم الإسلام والرد عليها، ص 117، ومعجزة القرآن، ص 84 الشيخ الشعراوي.

(2) راجع تفسير ابن كثير، ج 2 ص 208، ج 4 ص 456. 

(3) فتح القدير، ج 4 ص 194 – وراجع شبهات وأباطيل حول الإسلام، ص 118 – ومعجزة القرآن، ص 85.

(4) احتوى هذا الكتاب على آيات عشر ظاهرها التناقض والتضارب وقد ذكره فضيلة الشعراوي في كتاب شبهات وأباطيل خصوم الإسلام والرد عليها ونعتمد عليه هنا راجع ص 118 ، 119.

(5) تفسير ابن كثير، ج3 ص433.

(6) مختصر تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل، ج2 ص932 تعليق د/ عبدالله أحمد الزيد.

(7) المصدر السابق ج2 ص730.

(8) المصدر السابق ج2 ص713-714.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
5.0

الأكثر اطلاعا خلال شهر

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

 أ.د. محمد أبو موسى

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

 أ. د. نادي محمود حسن

الإخــاء ( 2 )

الإخــاء ( 2 )

 فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

 أ.د. أحمد أحمد غلوش

من الأدب النبوي أدب الطعام

من الأدب النبوي أدب الطعام

 أ.د. محمد عبد الفضيل القوصي

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء

 الإمام/ محمد عبده

رمضان والنفس البشرية

رمضان والنفس البشرية

 أ.د. محمد رمضان

رمضان في فلسطين

رمضان في فلسطين

  د. شيماء زيدان

بين الصيام والإحرام

بين الصيام والإحرام

 إعداد : د. أسماء عبد العزيز

تشريع الصيام

تشريع الصيام

 ا.د. خالد البسيوني

من الفتوحات الربانية في رمضان

من الفتوحات الربانية في رمضان

 أ. د. محمد عبد الرحمن الضويني

من وجوه التيسير في الصوم

من وجوه التيسير في الصوم

  أ.د. أمان محمد

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

 أ.د. عزيزة الصيفي

مواقع التواصل الاجتماعي وتحدي الروحية في رمضان

مواقع التواصل الاجتماعي وتحدي الروحية في رمضان

 أ.د. محمد الجندي الجعفري

مقاصد صيام شهر رمضان في الإسلام

مقاصد صيام شهر رمضان في الإسلام

 أ.د. محمد عباس عبدالرحمن المغني

12

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg