| 29 أبريل 2024 م

الباقلاني وإعجاز القرآن

أ.د/ محمد محمد أبو موسى عضو هيئة كبار العلماء

  • | الإثنين, 20 مارس, 2017
الباقلاني وإعجاز القرآن

وصف الباقلاني منهجه في بيان الإعجاز وصفًا لم يخرج عنه في الكتاب كله، وهذا شأن العلماء الكبار، الذين يمتلكون ناصية ما يريدون بيانه، وكأنه حين بدأ الكتابَ كان الكتاب مكتوبًا كله في صدره وكأنه بدأ يكتب أوله وهو يعرف آخره.

وقد عهدنا الذين كتبوا قبله من الذين بقيت كتبهم أو بعضها أنهم كانوا يذكرون الوجوه التي تواتر الكل على ذكرها مثل الإخبار بالغيب، والإخبار عن أحوال الأمم الغابرة، والبلاغة والصرفة، ثم يقفون عند البلاغة، وفي بيانها تختلف طرقهم، والباقلاني وإن كان ذكر هذه الوجوه التي سبق فيها البيان من غيره فإنه لم يبسط الكلام فيها «لئلا يكون ما ألفناه مكررًا ومقولًا، بل يكون مستفادًا من جهة هذا الكتاب خاصة»(1) ويضرب صفحًا عن الذي قالوه في البلاغة واختلفت طرقهم في الإبانة عنها، ويسلك الطريق الذي وصفه، وإن كان من الممكن أن تجد صدى هنا وهناك في كتابه لبعض ما قالوه وإن كان مما تتوارد عليه العقول.

ولا شك أن الإعجاز البلاغي هو المسيطر على كتاب الباقلاني، وهو المشروح وهو المدروس، وكل الذين كتبوا في الإعجاز البلاغي قبل عبد القاهر لم تكن لهم دراسة متميزة في تحليل العناصر المكونة للبيان، وبسط القول في كل عنصر إلا الباقلاني، ولذلك صار كتابه من أهم الكتب في دراسة الشعر والبيان، وصار عمله فيه كنزًا غنيًا بالنظر والنقد والتمييز، وإن كان مسكوتًا عنه من دارس تاريخ النقد، وكان عنوانه الذي هو الإعجاز صرف طلاب علم النقد عنه؛ لأنهم لم يفهموا أن الإعجاز هو نهاية النهايات في دقة التأليف والتركيب، وأن معرفة نهاية النهايات هذه لا تكون ولا يمكن أن تكون إلا بمعرفة ما قبلها، ابتداء من الكلام في المحاورات وانتهاء بالوعي الكامل بالشعر والرسائل والخطب وكل دروب الكلام  التي تُحْتَشد لتجويدها وتثقيفها.

قال الباقلاني في بيان منهجه الذي لم يخرج الكتاب عنه: «ونَصِفُ ما يجب وَصْفُه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب،  وترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة، وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع، ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام من شعر ورسائل وخطب، وغير ذلك من مجاري الخطاب، وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح وتقصد فيه البلاغة، لأن هذه أمور يُتَعمَّل لها في الأغلب، ولا يتجوز فيها. ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم، والتفاوت فيه أكثر؛ لأن التعمّل فيه أقل إلا من غزارة طبع أو فطانة تصنُّعٍ وتكلُّفٍ. ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق، ليعرف عظيم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه، وتجاوز الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها أو يشتبه ذلك على متأمل». انتهى كلامه.

وقد نقلته بتمامه لأنني قلت إن كل ما في الكتاب لا يخرج عن هذا، وإنه طريق مغاير لكل من تكلموا في الإعجاز البلاغي قبله، بل هو طريق مغاير لطريق عبد القاهر الذي أفرد كتاب دلائل الإعجاز لبيان وجه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، ولن يتضح لنا هذا إلا إذا بسطنا القول في الإعجاز عند عبد القاهر، إذا أذن الله لنا بذلك.

ثم إن هذا النص هو بمثابة فهرسة جامعة لكل ما يُدرَس في فنون الخطاب، وكل ما يُدرَس في العناصر المكونة لهذه الفنون، وكيف تتفاضل ويعلو بعضها فوق بعض، حتى تبلغ الغايةَ التي يطيقها البيان الإنساني، ثم تكون في القرآن فوق هذه الغاية وقاطعة لأطماع البالغين الذروة، وقاهرة للقُوَى والقُدَر، وكيف تكون الموازنة بين هذه الأجناس حين تبلغ الذروة وبين ما في الكتاب العزيز؟ إنها موازنة باطلة، لارتفاع محله وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، وعلينا أن نذكر أن الذي له كَتَبَ الباقلاني كتابه هو ما بلغه من أن بعض سفهاء زمانه كانوا يوازنون بين الشعر والقرآن، وأن سِفلة هؤلاء السِّفلة كانوا يفضِّلون بعض الشعر على القرآن، والعجيب أن تاريخ الإسلام يدلنا على أن سفلة كل زمان لا يعرِّفون بأنفسهم إلا بإثارة ما يغضب أهل الدين بالهجوم على بعض جوانب منه، ومن أعلامه، وكأن الله - سبحانه - يسلطهم ليزداد أهل الحق حَمِيَّةً في الدفاع عن دينهم، واستمساكًا به وليشرع العلماء العاملون أقلامهم سيوفًا مُصْلَتَةً على أهل الجهالة من الذين كرهوا ما أنزل الله، وربما كان هذا من حفظ الله لدينه، واعلم أنني لا أُقْدِمُ على بيان المراد من النص إلا حين لا أجد لي مَهْربًا من بيانه؛ وذلك لأنه من الصعب أن نشرح كلام الباقلاني بلغتنا ومصطلحاتنا وأن نحوِّل علمه من لغة علمه إلى لغة علمنا، وليس لنا مفر من هذا الصعب؛ ولذلك نعول كثيرًا على المساهلة والمسامحة؛ فقول الباقلاني:«تنزيل مُتَصَرَّفات الخطاب وترتيب وجوه الكلام»، يسهل عليَّ أن أقول مراده بترتيب وجوه الكلام على الحد الذي بيَّنه في سورة غافر، وفي سورة فصلت؛ لأنه رتَّب فصول السورة، وبين كيف بُنِيَ بَعضُها على بعض، أما(متصرفات الخطاب) فلم يتبين لي المراد بدقة، وليس لي إلا أن أتلمس معناه في كلام الباقلاني، وأقْرَبُ ما يُقَرِّب لنا مراده من (متصرفات الخطاب) قوله: «إن نظم القرآن على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم»، وهذا يعني أن تَصَرُّفَ الخطاب يمكن أن يكون المراد به تصرف الخطاب في أودية المعاني التي يتناولها، فتصرف الخطاب في ديوان النابغة مثلًا هو تَنَقُّله في أبواب الاعتذار، ووصف الرحلة إلى الحج، وقد برع في ذلك رغم وَثَنِيَّته، وتعظيمه للبيت، وعتابه على بني ذبيان، ووصف الغارات إلى آخره، وإذا قلت إن هذه متصرفات خطاب النابغة لم تخطئ، وهذا يعني أن من الوجوه التي يتناولها الباقلاني وَصْف متصرفات الخطاب في الشعر، وفي الكتاب العزيز، وبيان الفرق بين ما يدخل في الوسع، وما يتجاوزه، وقوله: «وما تختلف به طرق البلاغة وتتفاوت من جهته سُبُل البراعة» يمكن أن يكون المراد به ما ذكره من عناصر الكلام، وأنه اللفظ والمعنى، وأن من الكلام ما حَسُنَ لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه وساء معناه، ومنه ما حسن معناه وساء لفظه، إلى آخر ما قال في ذلك، وهو كثيرٌ جدًا ولم أر كثرته في كتاب غير كتاب الباقلاني، وكل ما فيه من تفاصيل ودقائق هي مواطن تجويد وتثقيف وبلاغة، ونرجو أن نستطيع بيان ذلك حين نصل إليه، ولا أراني متجاوزًا إذا قلت إنها مناطق بِكْر في الشعر والبيان لم ينتفع بها، ولم يَلْتَفِتْ إليها الذين أَرَّخُوا للنقد والبلاغة، وقد تعوَّدنا في دراستنا وفي بحوثنا أن نَقْرِنَ البلاغة والنقد، وهذا جيد ويكون أجود إذا أضفنا إليهما جدّهما الأعلى وهو الإعجاز.

وقوله: «ثم ما اختلفت به مذاهب مُسْتعْمِليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام من شعر، ورسائل وخطب» إلى آخره، لاحظ أن المقصود: وليس هو دراسة هذه الفنون الثلاثة، وإنما المقصود دراسة ما اختلفت به مذاهب أهلها، يعني اختلاف مذاهب الشعراء، واختلاف مذاهب أصحاب الرسائل، واختلاف مذاهب الخطباء، وهذا أجلّ ما يدرس لأنه من المفيد جدًا أن ندرس رسائل ابن المقفع، ورسائل عبد الحميد، وأجلّ من هذا بكثير أن نَدْرس ما اختلفت فيه مذاهبهما؛ لأن هذا الدرس هو الدرس العالي؛ لأنك لا تدرك اختلاف المذهبين إلا بعد الوعي البالغ بفقه المذهبين، ولا سبيل إلى فقه المذهب إلا بعد الفهم العالي والمشرق والسديد للشعر، وكأن فهم الشعر هو الدرجة الأولى، ويليه فقه مذهب الشاعر ومنزعه الذي هو نَفْسُه ونَفَسُه، بسكون الفاء وفتحها. الذي نفثه في شعره، وجعله في هذا الشعر وديعة ونَسَبًا وصِهْرًا يُعرَف به، ولا يُنسب إلا إليه، والباقلاني هو الذي أطال القول في ضرورة أن تعرف سبك أبي تمام، وأن تميزه من سبك مسلم، وأن تعرف ديباجة البحتري وتُمَيِّزها من ديباجة ابن الرومي، وقول الباقلاني: «ثم من بعد ذلك الكلام الدائر في محاورتهم» إلى آخره، وهو يعني بذلك الكلام الذي يُحْتَشَدُ له ولا يُتعمّل له فيجوَّد وينقَّح، وإنما يقال على البديهة ومن غير تَرَوٍّ، وهذا الضرب من الكلام قد تدخله البلاغة والتجويد لا من جهة القصد وإنما من جهة «غزارة الطبع أو فطانة تصنع وتكلف».

وهكذا ترى الكتاب يتناول ضروب الكلام التي يقصد فيها إلى الفصاحة والبلاغة، كالأشعار، والرسائل، والخطب، وضروب الكلام التي لا يقصد فيها إلى فصاحة وبلاغة، كالمحاورات، وقبل ذلك وجوه تصاريف الكلام في أودية المعاني المختلفة، والمتباينة، كالمدح والهجاء، والنسيب والوصف، وغير ذلك، ووجوه ترتيب هذه المعاني التي هي بمثابة مقاصد جزئية داخلة في المقصد الكلي في القصيدة أو الرسالة، ثم تحليل عناصر الكلام في كل هذا من لفظ ومعنى، وطول وقصر، وحسن وخلافه، وشرف وخلافه، وقبول النفس له وخلافه، وصدوره عن بديهة أو عن مراجعة إلى آخر ما قال، مما لا يوجد له نظير في الكتب المتخصصة في دراسة الشعر والبلاغة، وعجيب جدًا أن يكتب في الشعر هذا الفيض من المعرفة وهذا الفيض من السخاء عالمٌ ليس كالآمدي ولا عليّ بن عبد العزيز، وإنما هو شيخ الأشاعرة، ومنزلته فيهم كمنزلة القاضي عبد الجبار في المعتزلة، يعني هو شيخ المذهب، وهذا علمه بالشعر، ثم إنه لما حلل مكونات البيان بالغ في التحليل والتفتيت، ولم يدع عنصرًا إلا وحاول أن يبين الجهة التي تتسلل منها الجودة، وصلاتها إليه، وأن دارس الشعر عليه أن يدرك العنصر الذي لم تعلُ جودته في العبارة الواحدة، وبعد هذا النظر الذي لم يدع في الكلام المبين كلمة إلا نظر فيها، قال - وهذا هو الأهم -: «ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق ليُعرفَ عظيمُ محل القرآن وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها أو يشتبه ذلك عن متأمل» وهذا محتاج إلى أن يقرأ أكثر من مرة وذلك لأن قوله: «ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق ليعرف عظيم محل القرآن» معناه الصريح أن نصل في كل واحد من هذه الطرُق إلى النهاية التي لا يستطيع اللسان البشري أن يتجاوزها؛ لأنه لا يُعلم عظيم محل القرآن إلا إذا علمنا أنه تجاوز الحد الذي لا يستطيع اللسان البشري أن يتجاوزه، فإذا كان علمنا ناقصًا، عن هذا الحد كان علمنا بعظم محل القرآن ناقصًا لأنه لم يكن علمًا بتجاوزه نهاية طوق البشر.

ولما كان الشعر الجاهلي هو ذروة بيان اللسان العربي بإجماع الأمة، أو هو ذروة البيان الإنساني كما يقول المرحوم محمود شاكر، فإنه يصبح من الواجب لمعرفة الإعجاز أن يحدد خصائص نظم وتأليف وتركيب هذا الشعر الذي يمثل هذه الذروة، وأن تكون هذه الخصائص مطابقة له وحده، وإلا يدخل فيها ما ليس منه، ثم تحدد خصائص نظم وتأليف وتركيب البيان القرآني تحديدًا لا يدخل فيه غير القرآن. ومن النظر في هذين النظمين يَظْهر الإعجاز ظهورًا كفلق الصبح لكل(2) دارس مهما كان مستواه في تذوق البيان لأن الأمر صار خصائص علمية بيانية محددة كتحديد الشيء يُنصُّ عليه ويشار إليه، وهذا مقتبس من كلام المرحوم محمود شاكر، قال: «وكان القادر على ذلك رجلين هما: الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني، ولكن صَرَفَ كلَّ واحد منها صارفٌ فلم يتمّ ما كان قادرًا عليه»(3).

وكل الذي اقتبسته من المرحوم محمود شاكر مبثوث في كتبه وخاصة كتاب قضية الشعر الجاهلي وكتاب مداخل إعجاز القرآن.

هذا والله أعلم.

(*) عضو هيئة كبار العلماء، وأستاذ البلاغة بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر - القاهرة، وعضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة بقسم البلاغة بجامعة الأزهر، أُعير لعدة جامعات عربية مثل أم القرى وبنى غازي وأم درمان، ويُلقب بشيخ البلاغيين.

(1) إعجاز القرآن ص6.

(2) يراجع كتاب مداخل إعجاز القرآن ص 170.

(3) المرجع السابق ص120-وصفحة182- 185.

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
3.7

الأكثر اطلاعا خلال شهر

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

 أ. د. نادي محمود حسن

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

 أ.د. محمد أبو موسى

بين الصيام والإحرام

بين الصيام والإحرام

 إعداد : د. أسماء عبد العزيز

رمضان في فلسطين

رمضان في فلسطين

  د. شيماء زيدان

رمضان والنفس البشرية

رمضان والنفس البشرية

 أ.د. محمد رمضان

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

 أ.د. عزيزة الصيفي

من وجوه التيسير في الصوم

من وجوه التيسير في الصوم

  أ.د. أمان محمد

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

 أ.د. أحمد أحمد غلوش

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

 د. سليمان جادو شعيب

الإخــاء ( 2 )

الإخــاء ( 2 )

 فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

من الأدب النبوي أدب الطعام

من الأدب النبوي أدب الطعام

 أ.د. محمد عبد الفضيل القوصي

وقفات مع آيتي الرضاعة

وقفات مع آيتي الرضاعة

 أ. د. عباس شومان

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء

 الإمام/ محمد عبده

شهر رمضان في تجارب شعراء الأمة

شهر رمضان في تجارب شعراء الأمة

 أ.د. على عبد الوهاب

تشريع الصيام

تشريع الصيام

 ا.د. خالد البسيوني

123

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg