| 27 أبريل 2024 م

ما معنى كلمة (الكتاب) في القرآن الكريم؟

د/ أحمد محمد عرفة سكرتير تحرير مجلة الأزهر

  • | الأحد, 26 مارس, 2017
ما معنى كلمة (الكتاب) في القرآن الكريم؟

انتهينا من مراجعة التفسير المأثور عن الآية السابعة من سورة آل عمران، وخرجنا من هذه المراجعة بثلاثة أمور؛ الأول أنه ليس في تفسير هذه الآية ما يروي الغليل، وأن أحسنه هو تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده (ت 1905م)، وهي عبارة الشيخ محمد رشيد (ت 1935م)(1)، والثاني أن الله أنزل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين، وأنه ميسرٌ للفهم بصورةٍ عامة، فإذا تعسَّر على البعض إدراكُ معنى كلمة أو جملة أو نص منه، فإنه يتيسر لغيرهم من العلماء، وليس في القرآن نص واحد لا يمكن فهم معناه بالبحث والنظر، والثالث أن التأويل في الآية وفي القرآن بصورة عامة ليس معناه تفسير النص، ولا تفسُيره على خلاف الظاهر، وإنما معناه المآل أو العاقبة.

وتبين لنا أن أعظم جُهد بذل في تفسير هذه الآية جهدُ عالمٍ رأى أن قول مَن قال إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، يفتح الباب أمام دعاة التفسير الباطني، كي يروِّجوا تفسيرهم بدعوى أنه التأويل، وأنه تلقى هذا التأويل بإلهام خاص من الله تعالى، وقد كان ذلك، وكان بعض الأتباع يستدلون على وجوب قبول هذا التأويل المختلق، بقوله تعالى "هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ" (الأعراف:53)، وكأن الآية تقول إن المسلمين لا ينظرون إلا إلهاما يلهمه الله تعالى لواحد منهم بتأويل القرآن، فقال هذا العالمُ وكرَّر القول: إن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله بكلام لا سبيل إلى معرفة معناه، وأن ما يخفى من معنى آية أو آيات على البعض فإنه لا يخفى على غيرهم.

يليه جُهد مَن بحث في معنى كلمة (التأويل) في القرآن الكريم، وانتهى إلى أن السياقات التي وردت فيها كلمة (التأويل) في القرآن الكريم، تدل على أن التأويل لا يتعلق (بنص)، وإنما يتعلق (بحدَث)، وأن تأويلَ أيَّ حدث هو عاقبته، وقد عرضنا هذا الرأي في المقال السابق، واستعرضنا فيه كلَّ المواضع التي وردت فيها كلمة (تأويل) في القرآن الكريم، ويكفي أن نستحضر اليوم من هذه المواضع، قولَ يوسف لأبيه، الذي ورد في آخر سورة يوسف، "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا" (يوسف:100)، فتأويل الرؤيا هنا ليس تفسيرها، وإنما هو عاقبتها التي تمثلت في ارتفاع شأن يوسف إلى حد دخول أبويه وإخوته في سلطانه.

وإيمانا مني بأن المنهج السياقي أفضلُ منهج لدراسة معنى نص من النصوص، وأنه يجب أن نحدد معاني المفردات والتراكيب القرآنية من خلال السياق، قبل أن نجزم بأن معنى الآية هو كذا أو كذا، رأيتُ أن أشرع في دراسة معاني الكلمات والتراكيب الواردة في هاته الآية. وهذا المقال مخصص للبحث في معنى كلمة (الكتاب) في القرآن الكريم.

وردت كلمة (الكتاب) في الكتاب العزيز مرادا بها القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: " اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ" (الشورى:17).

ووردت كلمة الكتاب في القرآن مرادا بها التوراة، ومن ذلك قوله تعالى: "وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (البقرة:53).

ووردت كلمة (الكتاب) في القرآن الكريم مرادا بها أسفار العهدين القديم والجديد، ومن ذلك قوله تعالى:" إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (آل عمران:19)، فقوله: "الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ" معناه الذين أوتوا الأسفار الدينية من يهود ونصارى، ومنها قوله يخاطب بعض أهل الكتاب: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (البقرة:44)، فالكتاب هنا مراد به الأسفار الدينية التي يؤمنون بها، وهي أسفار العهد القديم المتكون من 39 كتابا، وأسفار العهد الجديد المتكون من 27 كتابا.

واستخدام كلمة (الكتاب) بمعنى الكتب الدينية موجود أيضا في كتب العهد الجديد، ومن ذلك قول بولس في رسالته إلى أهل رومية: «لأَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى» رومية: 10/ 11، والمنسوب هنا إلى الكتاب مذكور في عدة أسفار بالعهد القديم، منها ما ورد في سيراخ(2): «مَنْ سَمِعَ لِيَ فَلا يُخْزَى وَمَنْ عَمِلَ بِإرْشَادِيّ فَلا يَخُطّأ» سيراخ: 24/ 30.

ووردت كلـمـة (الكتـاب) في القـرآن الكـريم مـرادا بهــا ما أنزلـه الله على الأنبيـــاء من ذريــة نـوح وإبراهــيم -عليهـمـا الســلام-، وذلـك في قـولـه: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۖ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد:26).

وجـاء في الذكـر الحكـيم أن الكتاب الذي أنزل على محـمـد -عليـه السـلام- مصـدّق لمـا بين يـديه من (الكـتـاب) ومهيـمـنٌ علـيـه، وذلك في قـولـه: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة:48). وما قبْل القرآن من الكتاب هو كتب أهل الكتاب، من كتب قديمة يؤمن بها اليهود، وكتب جديدة يؤمن بها المسيحيون مع إيمانهم بالكتب القديمة. قال ابن عاشور (ت 1973م): «والكتاب الأول القرآن، فتعريفه للعهد. والكتاب الثاني جنس يشمل الكتب المتقدمة، فتعريفه للجنس»(3). فهيمنة القرآن على الكتاب معناها أنه مهيمن على الكتب الدينية السابقة.

ووصفَ الله القرآنَ بأنه تصديق (للكتاب) وتفصيل له، وذلك في قوله: "وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" (يونس:37)، فالقرآن ليس كتابا يلغي كتبا سبقته، كما يفهم البعض، وليس كتابا منعزلا عن الكتب التي سبقته، وإنما هو كتاب من الله يصدِّق الكتبَ السابقة، أي يعلنُ صدقها على الإجمال، وهو تفصيل لأهم القضايا التي تضمنتها.

ولذلك أمر الله المؤمنين بمحمد -عليه السلام- أن يؤمنوا بتلك الكتب السابقة، فقــال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا " (النساء:136). وإيماننا بتلك الكتب لا يعني تصديقَ كلِّ ما فيها، لأنه إيمانٌ بها في الجملة، وإيمانٌ بهيمنة القرآن عليها.

ووردت كلمة (الكتاب) في القرآن مرادا بها العِدَّة، وهو استخدام مجازي بإطلاق الكتاب وإرادة العِدَّة المذكورة فيه، وذلك في قوله تعالى: "وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" (البقرة:235)، فبلوغ الكتاب أجله معناه بلوغ العِدَّة المكتوبةِ أجلَها. وعدة المتوفى عنها زوجها هي أربعة أشهر وعشرة أيام.

ووردت كلمة (الكتاب) بمعنى مجموع ما كتبه الله على عباده من الواجبات والمحرمات، وهو استخدام مجازي بإطلاق الكتاب وإرادة المكتوب فيه، ومن ذلك قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (الجمعة:2)، فالنبي يتلو الآيات، وهي نصوص القرآن، ويزكي المؤمنين أي يساعدهم على أن يكون سلوكهم حسنا خيِّرا صالحا، ويعلمهم الكتاب أي مجموع ما كتبه الله عليهم من واجبات ومحرمات، ويعلمهم الحكمة التي بها يضعون كل شيء في موضعه.

وفي الآية موضع الدرس، حيث وردت كلمة (الكتاب) مرتين في قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ" (آل عمران:7)، يراد بكلمة الكتاب في المرة الأولى (القرآن الكريم)، لأنه الكتاب الذي أنزله الله على رسوله محمد -عليه السلام-، ويراد به في المرة الثانية (الكتب المنزّلة) قبل القرآن الكريم. وبهذا يكون معنى العبارة: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه، آياته آياتٌ محكمات هن أم الكتب التي أنزلت على الرسل من قبلك، أي هن أصل هذه الكتب وأساسها وجوهرها، من جهة مضمونها، وهو الدعوة إلى الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، وعبادة الله وحده بأداء الشعائر والقيام بالأعمال الصالحة التي تسهم في إعمار الدنيا وتزكية النفوس.

وقد مرت معنا نظائر لهذا الاستخدام، إذ تأتي كلمة الكتاب مرتين في السياق الواحد، ويراد به في الأولى القرآن ويراد به في بالثانية كتب أهل الكتاب، منها قوله: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة:48)، فالكتاب في المرة الأولى هو القرآن وفي الثانية كتب أهل الكتاب.

وقد ورد تركيب (أم الكتاب) في موضعين آخرين بالقرآن الكريم.

الأول في قوله: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ(38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ " (الرعد:38، 39)، ومعنى قوله: "وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" وما كان لرسول أن يأتي قومه بآية لأنهم يطلبونها، وإنما يأتيهم بالآية التي آتاه الله إياها، والآية هنا بمعنى البرهان اليقيني الذي يؤيد الله به رسوله في دعوى الرسالة، ومتعلّق المحو والإثبات هنا هو (الآيات) التي يؤيد الله بها رُسلَه، فما يمحوه منها لا يعطيه لرسول لاحق على الرغم من أن قومه يطلبونها منه، وما يثبته منها يعطيها للنبي اللاحق وإن لم يطلبها قومه. ومعنى قوله: "لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ" لكل وقت آية مكتوبة تناسبه، فالكتاب هنا مجاز مرسل بمعنى الآية المكتوبة، ومعنى قوله "وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" ، وعنده تعالى العلمُ والحكمة اللذان يضبط بهما إنزال الآيات على الرسل، فلا يؤتي أيَّ رسول إلا الآية الأنسب لهداية قومه، غير عابئ بطلب المطالبين بآية غيرها، لأنهم يطلبونها ليبرروا كفرهم، وهم فسقة لا يريدون الهدى، وإنما يريدون أن يضلوا غيرهم.

وفسر الشيخ محمد أبو زهرة (ت 1974م) كلمة الآية، والمحو، والإثبات، في هذا الموضع بمثل ما قلناه، وقال: «هذا ما نراه تفسيرا للمحو والإثبات [متعلقا بالآية]، ونرى أنه يمكن أن يكون التفسير الذي يتسق [لهذه الآية] مع ما قبلها وما بعدها من الآيات، فالكلام في الآيات التي يطلبونها إعناتًا وعنادًا»(4).

والثاني في قوله تعالى: "حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف:1-4). والكتاب المبين هو القرآن، وتركيب "أُمِّ الْكِتَابِ" معناه العلم والحكمة، فقوله عن القرآن "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" معناه: وإن القرآن في علمنا وحكمتنا مستحق لوصف العلو والحكمة. وتفسير "أُمِّ الْكِتَابِ" في هذه الآية بالحكمة أحدُ ثلاثة أقوال ذكرها الماوردي (ت 450هـ/ 1058م) في تفسيره(5). والقول عن شيء إنه كذا " فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا" أعلى درجات التوكيد(6).

لقد اتفق العلماء اتفاقا تاما في معنى الإحكام والتشابه حين توصف بهما كل آيات الكتاب؛ فهن محكماتٌ أي بالغات منتهى الإحكام في مناسبتها لهداية الناس، وهن متشابهاتٌ أي يشبه بعضها بعضا في أنها حق وحكمة وهداية، وأنها في قمة البلاغة والسلامة من التناقض والتفاوت والاختلاف، واختلفوا اختلافا مستحكما حين توصف بعض آيات الكتاب بالإحكام وبعضها الآخر بالتشابه، وتفسير "أُمِّ الْكِتَابِ" في هذه الآية بمعنى الكتب المنزّلة على الرسل من قبل محمد، يبقي الإحكام وصفا لكل آيات الكتاب، ويحررنا من مشكلة تحديد معنى الإحكام والتشابه حين توصف آيات الكتاب بأن بعضها محكم غير متشابه، وبعضها الآخر متشابه غير محكم.

ويتقوى هذا الرأي بثلاثة أمور؛ الأول أنه تعالى قال عن الذين يتبعون هذه الأخر المتشابهات "فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ"، وهو وصف يُشعر بل يدل على أنهم كافرون، والثاني أنه حكى عن الفريق المضاد لهم أنهم يقولون "آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا" ومعنى هذا القول: آمنا بالقرآن وآمنا بالكتب السابقة، فكلٌ منها من عند ربنا، والثالث أن القضية التي كانت ساخنة في عصر النزول هي موقف أهل الكتاب من القرآن الكريم، بينما الخلاف بين المسلمين في تفسير آيات القرآن، أمرٌ لم يقع في دنيا الناس بعد في عصر النزول، فقد كانوا غالبا غير محتاجين إلى من يفسر لهم الآية والآيات، وكانوا عند الحاجة يسألون النبي -عليه السلام-. فلم يكن ثمة خلاف يقسّم الناس إلى فريقين أو اتجاهين.

علـــى أن هـــذا الرأي في تفســير تركـــيب "أُمِّ الْكِتَابِ" في هذه الآية، يصطدم مع دلالة التقسيم المفهومة من قوله (منه كذا وأخر كذا). من أجل ذلك نرى أنه من المناسب أن نبقي هذا الرأي رأيا محتملا، حتى ندرس طريقة القرآن في استخدام كلمة (مِن) في التقسيم أو التنويع. ولعلنا نعود إلى هذا في مقال لاحق.

واستخدام كلمة (الكتاب) في القرآن الكريم للدلالة على ما أنزل الله على محمد، وما أنزله على الرسل من قبله، وعلى مجموع ما كتبه الله على عباده من واجبات ومحرمات- متوافق مع الأصل الذي تدور حوله مادة الكاف والتاء والباء، كما بيّنه ابن فارس (ت 395هـ/ 1004م)، وهو «جمع شيء إلى شيء»(7)، من ذلك الكتيبة وهي مجموعة المقاتلين، والكتابة رسوم تكوِّن باجتماعها على نحو معين كلماتٍ وجُملا، و(كَتب اللهُ علينا كذا) مجاز معناه ألزمَنا به، كأنه جمع ذلك الحكم إلينا فلا نفارقه ولا يفارقنا، والكتاب: صفحاتٌ مضمومة متآلفة، ومنه كتاب بني إسرائيل: وهو مجموع ما أوحي إلى الرسل من بني إسرائيل، ويقال للقرآن كتاب؛ لأنه يجمع ما أوحى به الله إلى رسوله محمد -عليه السلام- أما استخدامها بمعنى الأجل المكتوب فمجاز، بإطلاق الكتاب وإرادة المكتوب فيه.

وخلاصة القول: أن طريقة القرآن في استخدام كلمة الكتاب، تفرض علينا ألا نطابق بين كلمة (الكتاب) وكلمة (القرآن)، وأن ننظر في سياق النص لنحدد المعنى المناسب، هل أريد به القرآن، أم أريد به التوراة أم أريد به أسفار العهدين القديم والجديد، أم أريد به الشيء المكتوب؟ أم أريد به مجموع ما كتب الله على عباده؟ أم أريد به شيء محدد مما كتبه الله على عباده.

وفوق كل ذي علم عليم

(*)  سكرتير تحرير مجلة الأزهر، وكاتب يعنى بالدلالة السياقية في النصوص الدينية.

(1) تفسير المنار (نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م): 3/ 142.

(2) سفر (سيراخ) أحد أسفار العهد القديم المعترف بها عند كل من الأرثوذكس والكاثوليك، وغير معترف به عند البروتستانت، ولا تدرج هذه الأسفار في الطبعة العربية العامة من (الكتاب المقدس).

(3) التحرير والتنوير (الدار التونسية، تونس، د.ت): 6/ 221.

(4) أبو زهرة: زهرة التفاسير (دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت): 8/3967.

(5) النكت والعيون (دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت): 5/215

(6) وأقل منها في التوكيد أن يقال عن الشيء إنه كذا (عند الله...في كتاب الله)، وقد وردت في قوله تعالى: "إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ" (التوبة:36)، وأقل منها في التوكيد أن يقال عن شيء إنه كذا (عند الله) كقوله تعالى: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (آل عمران:59)، وقوله: "لولَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ" (النور:13)، وقوله عن موسى: "وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا" (الأحزاب:69). فهي ثلاث درجات للتوكيد، وفق الترتيب الذي بيَّناه.

(7) ابن فارس: مقاييس اللغة (دار الفكر، بيروت، 1979م): 5/ 158.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
2.4

الأكثر اطلاعا خلال شهر

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

 أ.د. محمد أبو موسى

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

 أ. د. نادي محمود حسن

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

 أ.د. أحمد أحمد غلوش

رمضان في فلسطين

رمضان في فلسطين

  د. شيماء زيدان

من الأدب النبوي أدب الطعام

من الأدب النبوي أدب الطعام

 أ.د. محمد عبد الفضيل القوصي

الإخــاء ( 2 )

الإخــاء ( 2 )

 فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

رمضان والنفس البشرية

رمضان والنفس البشرية

 أ.د. محمد رمضان

بين الصيام والإحرام

بين الصيام والإحرام

 إعداد : د. أسماء عبد العزيز

من وجوه التيسير في الصوم

من وجوه التيسير في الصوم

  أ.د. أمان محمد

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

 أ.د. عزيزة الصيفي

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء

 الإمام/ محمد عبده

وقفات مع آيتي الرضاعة

وقفات مع آيتي الرضاعة

 أ. د. عباس شومان

تشريع الصيام

تشريع الصيام

 ا.د. خالد البسيوني

من الفتوحات الربانية في رمضان

من الفتوحات الربانية في رمضان

 أ. د. محمد عبد الرحمن الضويني

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

 د. سليمان جادو شعيب

12

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg