| 06 مايو 2024 م

استغلال الدين في النزاعات والصراعات

أ.د/ عباس شومان وكيل الأزهر الشريف

  • | الإثنين, 10 أبريل, 2017
استغلال الدين في النزاعات والصراعات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله الله رحمةً للعالمين، وبعد:

فقد تناول المؤتمر الفكري العالمي الذي عقده الأزهر الشريف بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين على أرض مصر الكنانة تحت عنوان: (الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل)، موضوعًا أصبحت معالجتُه اليوم ضرورةً مُلِحَّةً، خاصة في ظل ما يموج به العالمُ اليوم من فتن واضطرابات يحاول بعض أصحاب المصالح والأهواء هنا وهناك أن يلصقوها بالرسالات السماوية وهي منها براء؛ فجوهر الرسالات السماوية كافة الدعوة إلى الخير والسَّلام للبشرية جمعاء.

وبالنظر في تاريخ البشر منذ عرفوا الرسالات السماوية لا نجد دينًا إلا وقد استخدمه بعض أتباعه استخدامًا خاطئًا، فجعلوه سببًا لنشوب النزاعات أو وقودًا لإشعالها وتعقيدِها. وعلى الرغم من أن شريعة الإسلام آخر الشرائع السماوية تاريخيًّا، فإنني في إطار معالجة الموضوع الذي نحن بصدده هنا، سأبدأ بما ارتكبه بعض المنتمين لها نفيًا لتهمة التحيز أو التحامل على أتباع الديانات الأخرى؛ فقد كان الخوارج الذين خرجوا على سيدنا عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أولَ من استخدموا ديننا الحنيف استخدامًا خاطئًا بزعم باطل وتأويل فاسد، فكانوا نَبتة السوء التي ما زلنا نتضرر من ثمارها إلى يوم الناس هذا، وذلك بادعائهم أن قبول سيدنا علي بالتحكيم في الحادثة المشهورة في التاريخ الإسلامي باسم حادثة التحكيم، مخالفٌ لنصوص القرآن الكريم، مستدلين على ذلك بقول الله تعالى: "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ" (الأنعام:57).

وقوله تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُوْنَ" (المائدة: 44)

وهذا الذي ادَّعاه الخوارج في صدر الإسلام إنما هو (كلمة حقٍّ أريد بها باطلٌ)(2)، كما قال سيدنا علي - رضي الله عنه - فقد خرجوا على جماعة المسلمين واستباحوا دماءهم بزعم باطل وتأويل فاسد، حيث أوَّلوا الآيات تأويلًا فاسدًا للوصول إلى المغزى الذي كان يداعب أخيلتهم وقتئذٍ، وبهذا التأويل استحلُّوا قتلَ كلِّ مَن لا يقول بقولهم!

وإذا كان الزجُّ بالدِّين في النزاعات قد أحدث ما أحدث في صدر الإسلام؛ فلا يعني هذا أنه خاصٌ بهذا العصر وهذا الدين العظيم فقط، فلكل عصر ولكل دين خوارجه الذين خرجوا على تعاليمه ومبادئه.

ففي أواخر القرن الخامس إلى أواخر القرن السابع الهجري كانت البشرية على موعد مع خوارجَ من نوع آخر؛ حيث خرج الصليبيون على تعاليم المسيحية، واتخذوا من الدين مطيةً لتحقيق مآربهم الخاصة، فدمَّروا وخرَّبوا وقتَّلوا وشرَّدوا وعاثوا في الحرث والنسل فسادًا باسم المسيحية، وهي من أفعالهم براء.

وفي بدايات القرن العشرين كنا على موعد مع خوارجَ  ينتسبون إلى اليهودية، هؤلاء الذين جاءوا من كل حدب وصوب بتأثير نبوءة يهودية تزعم أن فلسطين حق خالص لهم وأنها الأرض التى وُعدوها فاستباحوه وشردوا أهله وانتهكوا مقدساتِه! ولا شك أن اليهودية براء من أقوالهم وأفعالهم وادعاءاتهم وجرائمهم التي يرتكبونها إلى يومنا هذا، فجوهر الرسالات السماوية جميعًا الدعوة إلى المحبة والتسامح والسلام.

وقد شهد عصرنا الحاضر ظهور خوارج جدد تمثلوا في جماعات ضلت في استنباط الأدلة الشرعية من نصوص الأديان، ولم يتورعوا عن التجرؤ على الدماء والأعراض والأموال بغير حق، واستصدروا فتاوى شاذة تخدم مصالحهم وأغراضهم الخبيثة، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وحمَّلوا النصوص ما لا تحتمل، ونسبوا أحكامها جهلًا وزورًا إلى الأديان، وهي منها براء.

ومكمن الخطورة في هذه التنظيمات، ومنها بعض الجماعات والتنظيمات التي تعلن انتماءها إلى ديننا الإسلامي الحنيف وفي مقدمتها تنظيم داعش المجرم، أنها استطاعت بعوامل استقطاب واستدراج كثيرة وتمريرات وتسهيلات دولية عجيبة، أن تضلل كثيرًا من الشباب وتغرر بهم باسم الأديان، فلبَّسوا عليهم بعض المفاهيم، كالحاكمية والجهاد والخلافة والدولة الإسلامية، وغيرها من المفاهيم التي اتخذوها ذرائع ومداخلَ لتحقيق مآربهم الدنيئة.

وبالنظر إلى الشريعة الإسلامية السمحة نجد أنها حرَّمت قتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان والمدنيين في حالة الحرب التي تكون في الإسلام للدفاع وصد العدوان، كما حرَّمت الظلم والجور، وتخريب العمران، وقطع الأشجار، بل حرَّمت قتل الدواب كذلك (3)، فمن أين أتى هؤلاء الأدعياء الجهلاء بما يقومون به من قتل للرجال والنساء والأطفال، وترويع للآمنين، وتدمير للممتلكات العامة والخاصة، وتهجير السكان من ديارهم؟! إن هؤلاء قد شوَّهوا صورة الإسلام النقية، وصوروه على أنه دينُ عنفٍ وقتلٍ وإرهابٍ، فأين هم من قول الله - تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107، وقوله - عز وجل-:  "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران: 159) أين هم في حملهم للناس على معتقداتهم بقوة السلاح من قول - الله تعالى -:"ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (النحل:125)

أين هم في مغالاتهم وتشددهم من قول النبي ﷺ:  "إن الدين يسرٌ، ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه"؟! ( 4 )

إن المنصف المتجرد لَيدركُ أن هذه الجرائم النكراء لا تمت للإسلام بصلة؛ فالإسلام دين السلام والرحمة، بل إن هذه الأفعال الشنيعة لا يقرها دينٌ صحيح ولا يقبلها عقلٌ سليم ولا تستسيغها فِطرةٌ سوية!

ومن ثَم، ينبغي ألا يكون اختلاف الدين سببًا من أسباب الصراع أو النزاع، فلم تأتِ به شريعة من الشرائع السماوية، وقد قرر الله - عز وجل - وهو منزل الأديان ومرسل الرسل جميعًا - في رسالته الخاتمة أنه مَن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وينبغي كذلك ألا يكون الاختلاف العِرقي أو المذهبي بين أتباع الدين الواحد مدخلًا لنزاع أو ذريعةً لصراع.

وهنا نقرر أن ما وقع في تاريخ أمتنا الإسلامية من نزاعات وحروب بين المسلمين وغيرهم، إنما هو نتيجة دفاع المسلمين عن اعتداء أو عدوان وقع عليهم وليس بسبب اختلاف الدين، وإلا فلماذا نهى الإسلام أتباعه عن قتل المخالفين في الدين من النساء والشيوخ والأطفال والرهبان؟!

ونقرر أيضًا أن ما وقع من نزاعٍ أو صراع - وربما تقاتُلٍ - بين المسلمين أنفسِهم، فإنما مَردُّه تأويلٌ فاسد  أو نزعةٌ بشرية بَعُدَتْ عن هدي الوحي الكريم.

وقد كان من فضل الله - تعالى- على الأمة أن قيَّض لها في كل آن من ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

وقد وقفت مؤسسة الأزهر على مدار تاريخها العريق سدًّا منيعًا أمام محاولات النيل من شباب أمتنا، فأَوْلَت عناية خاصة بتوضيح المفاهيم التي تستغلها تلك الجماعات، وتفنيد الشبهات التي تدلس بها على الناس، من خلال ندوات ومؤتمرات محلية وعالمية، ومقررات عصرية، ومؤلفات علمية، ترسخ للقيم الإسلامية السمحة، والمواطنة والعيش المشترك، والتعددية، وقبول الآخر، ونبذ العنف والغلو في الدين، والنأي به عن الخلافات والنزاعات إلا أن يُستخدم على وجهه الصحيح، وهو تطبيق هديه لحل المشكلات ونزع فتيل الأزمات؛ فقد جعل الله الاحتكامَ إلى كتبِه المنزَّلة وتعاليمِ رسلِه المرسلة، ديدنَ المؤمن الحقيقي في الأديان كافة، وجعل هذه التعاليم مانعةً لنشوب النزاعات والصراعات بين البشر، فإن وقعت فإن الامتثال لها كفيلٌ بحلها.

وقد أخذ الأزهر الشريف على عاتقه تقويةَ اللُّحمة الوطنية لنسيج المجتمعات، والسعي لإقرار الأمن والسلام بين البشر من دون نظر إلى اختلاف الديانات والثقافات والأعراق، وذلك من خلال جهوده الحثيثة على كافة الأصعدة داخل مصر وخارجها، ومنها جهود (بيت العائلة المصرية)، تلك التجربة الفريدة التي أصبحت نموذجًا يتطلع إليه العالم كله؛ لما يقوم به من جهود لوأد الفتن الطائفية داخلَ مصر وخارجَها، ومنها المصالحة التاريخية بين فرقاء أفريقيا الوسطى، وجمع الفرقاء من أبناء ميانمار هنا في الأزهر الشريف لأول مرة منذ نشوب الأزمة، وذلك بالتنسيق مع مجلس حكماء المسلمين، وقد جرى الاتفاق على مواصلة الجهود حتى تتم المصالحة بإذن الله. ومن جهود الأزهر كذلك ما يقوم به (مركز الأزهر لحوار الأديان) الذي يعمل على إرساء دعائم المواطنة والتعددية الفكرية وتبني ثقافة الحوار والتعايش مع الآخر في  العالم كله، وما حوار الأزهر والفاتيكان في قلب مشيخة الأزهر عنا ببعيد، ومن قبله حوار شباب الأزهر مع شباب مجلس الكنائس العالمي، فضلًا عن حوارات وجولات فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر شرقًا وغربًا، بالإضافة إلى جهود مرصد الأزهر باللغات الأجنبية في رصد أنشطة الجماعات المتطرفة، وتحليل أفكارهم المنحرفة وفتاواهم الشاذة، وتفنيد مزاعمهم التي تهدد أمن المجتمعات وتزعزع استقرارها.

وفي النهاية أؤكد أن مَنْ عرف دينه وأدرك مقاصده بان له أن اختلاف الدِّين لا يسوِّغ ظلمَ الآخر أو التضييقَ عليه أو تحقيرَه أو التقليلَ من شأنه أو تهجيرَه من موطنه، والمسلمُ وغير المسلم في ذلك سواء، وقد أعلن الأزهر الشريف استنكاره الشديد لتلك الهجمات التي استهدفت إخواننا شركاء الوطن في كنائسهم وديارهم والتي كان آخرها تلك الممارسات البربرية التي تسببت في ترك بعض إخواننا المسيحيين لديارهم في العريش. وأؤكد أيضًا أننا إذا أردنا سلامًا وأمنًا حقيقيين يسودان العالم؛ فعلى الذين يملكون القوة، أن يمتلكوا كذلك الإرادة لإنقاذ العالم من الدمار والخراب والفقر والجهل والمرض، وأن يتوقفوا عن فرض الوصاية على غيرهم بالقوة، وسياسة الكيل بمكيالين، وانتهاج التمييز في التعامل مع الآخر، تلك المعاملة التي تولد الشعور بالقهر والكراهية، وتغذي روح الانتقام، ولا شك أن ذلك لن يُخلِّف إلا مزيدًا من الدمار الإنساني والتراجع الحضاري.

(1) ألقيت هذه الكلمة في مؤتمر الحرية والمواطنة

(2) صحيح مسلم برقم 1066

(3) ينظر صحيح البخاري برقم 3014، وصحيح مسلم برقم 1731، وسنن أبى داود 2613، والسنن الكبرى للبيهقي 17934و 18152

(4) صحيح البخاري برقم 39

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

الأكثر اطلاعا خلال شهر

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

وقفات تدبرية مع آية قرآنية

 أ. د. نادي محمود حسن

بين الصيام والإحرام

بين الصيام والإحرام

 إعداد : د. أسماء عبد العزيز

رمضان في فلسطين

رمضان في فلسطين

  د. شيماء زيدان

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

الإعجاز البلاغي عند الرافعي

 أ.د. محمد أبو موسى

من وجوه التيسير في الصوم

من وجوه التيسير في الصوم

  أ.د. أمان محمد

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

رمضان رحلة الإيمان ومكارم الأخلاق

 أ.د. عزيزة الصيفي

رمضان والنفس البشرية

رمضان والنفس البشرية

 أ.د. محمد رمضان

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

 د. سليمان جادو شعيب

من الأدب النبوي أدب التبسم

من الأدب النبوي أدب التبسم

 أ.د. محمد عبد الفضيل القوصي

الإخــاء ( 2 )

الإخــاء ( 2 )

 فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

معالم الشخصية المسلمة من تشريعات رمضان

 أ.د. أحمد أحمد غلوش

من الأدب النبوي أدب الطعام

من الأدب النبوي أدب الطعام

 أ.د. محمد عبد الفضيل القوصي

وقفات مع آيتي الرضاعة

وقفات مع آيتي الرضاعة

 أ. د. عباس شومان

الاتحاد

الاتحاد

 فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي

تفسير سورة النساء

تفسير سورة النساء

 الإمام/ محمد عبده

123

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg