| 04 مايو 2025 م

كلمة فضيلة الإمام الأكبر أ. د / أحمـــد الطيــــب في مؤتمر (الحرية.. والمواطنة.. التنوع والتكامل)

فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف

  • | الإثنين, 10 أبريل, 2017
كلمة فضيلة الإمام الأكبر أ. د / أحمـــد الطيــــب في مؤتمر (الحرية.. والمواطنة.. التنوع والتكامل)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمـــد لله والصــــلاة والســـلام على سيـدنا رســول الله.. وبعـــد

الســـــــلامُ عليكــــم ورحمةُ الله وبركاتُــه.

الحــَفْـــلُ الكَـــــريـم!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛

فباسمِ الأزهر الشَّريف، وباسمِ مَجلسِ حُكمَاء المسلمين أُرَحِّبُ بحضراتِكُم أيتُها السيِّدات والسَّادة!، وتُرَحِّبُ بِكُم مِصْرُ الكِنانة، وتُعربُ معي عن سعادتها بهذا المؤتمر البالغ الأهميَّة، والذي يُعْقَدُ في ظروفٍ استثنائيةٍ وفترة قاسية تمرُّ بها المنطقة، بل العالَمُ كُلُّه، بعد أن اندلعت نيران الحروب في منطقتنا العربيَّة والإسلاميَّة، دون سببٍ معقول أو مُبرِّرٍ منطقيٍّ واحد يتقبَّله إنسانُ القرن الواحدِ والعشرين..

ومن المُدهِش، بل من المُحزنِ والمُؤلمِ، تصويرُ الدِّين في هذا المشهد البائس وكأنَّهُ ضِرامُ هذه الحروب، وقد زُيِّن لعقولِ الناس وأذهانهِم أنَّ الإسلامَ هو أداة التدمير التي انقضت بها جدران مركز التجارة العالمي، وفُجِّرَ مسرح الباتاكلان ومحطات المترو، وسُحِقَت بتعاليمِه أجساد الأبرياء في مدينة نيس وغيرها من مدن الغرب والشرق، إلى آخر ما نأسى له من هذه الصور الكارثية المُرعبة التي تزدادُ اتساعًا وقَتامًا، مع تنامي التطرُّف، وتقلُّص الحَيِّز الصحيح في فَهْمِ حقيقة الدين، والأديان الإلهية كلها، بل ومغزى رسالات الأنبياء التي تصطدمُ اصطدامًا مدويًا بكل التفسيرات المغشوشة التي تتنكَّبُ بها طريق الأديان، بل تُخطَف بها النصوص المقدسة لتصبحَ في يدِ القِلَّةِ المُجرمة الخارجة عليها، وكأنها بندقيةٌ للإيجار، تُشعل النار لِمَن ينقد الثمن المطلوبَ من سماسرة الحروب وتُجَّار الأسلحة، ومُنظِّري فلسفات الاستعمار الجديد.

 وحَسْبُكَ أنْ تُمعن النظر في هذه الشِرذمة وفي أمرِها العجيب حين تجدها ترفع رايةً واحدةً هي رايةُ «الإسلام»، ثُمَّ! لا تَلبَثُ أن يُكرَّ بعضُها على بعضٍ بالتخوينِ والتكفيرِ والخُروجِ مِن المِلَّة، لتعلَمَ أن القضية برُمَّتها ليست من الدين لا في كثيرٍ ولا قليل، وأنَّ المسألةَ هي توظيفُ الإسلام في هذه الدماء توظيفاتٍ شتَّى تَذهبُ فيه من النقيضِ إلى النقيض..

وأمرٌ آخرُ يضعُ أيدينا على مَكْمَن الزَّيف في هذه الدعوات الدمويَّة، هو: أنَّ المُهِمَّةَ عند أصحابِها لم تكُن مُهمَّة تصويبٍ لدينٍ زعموا أنه انفرطَ عِقدُه، وأن عليهم تصحيحه وتصويبَه، في إطارٍ من الاجتهادِ النظريِّ والتجديد الفكريِّ، بل كانت مسألة أرواحٍ تُزهَق، ودماءٍ تُهدَرُ وتجري كالأنهار، واجتراءٍ على منجزاتِ الإنسان وهدمِها حيثُمَا كانت، ومتى قُدِرَ على تدميرِها..

هذه الشِرذمةُ الشَّاردةُ عن نهجِ الدِّين كانت إلى عهدٍ قريبٍ جِدًّا محدودة الأثر والخطر، وكانت من قِلَّة العُدَّة وضعف العتاد عاجزة عن تشويه صورة المسلمين، إلَّا أنَّها الآن، أوشكت على أن تُجيِّشَ العالَم كُلَّهُ ضِدَّ هذا الدِّين الرَّحيم الحنيف، وحَسْبُنا ما يُسمَّى ظاهرةَ: «الإسلاموفوبيا» في أقطار الغرب الشماليةِ والجنوبية، والتي انعكست آثارُها البالغة على المواطنين المسلمين في هذه الأقطار.

ولسنا الآن بصدد البحثِ في ظاهرة الإسلاموفوبيا، ولا في الإرهاب الذي يرعى هذه الظاهرة ويُرضِعُها كُلَّ يومٍ لِبان الكراهية للإسلام والمسلمين، ولا بصدد التساؤل عن الإرهاب، هل هو صناعةٌ محلية، أو صناعةٌ عالمية، أُحِكمَت حلقاتُها، ثم دُبِّرت بليلٍ في غفلةٍ، أو في تواطئٍ مع كثيرٍ من السَّاهرين على حقوق الإنسان، ومن رُعاة السلام العالمي والعيش المشترك والحُريَّة والمُسَاواة وغير ذلك مِمَّا جاء في المواثيق الدولية التي نحفظُها عن ظهرِ قلب..

وفي اعتقادي أنَّ البحثَ في كل ذلك هو أوجب ما تُعقد له الندوات، وألزمُ ما يلزمُ رجالُ الدين والمُفكِّرين، وأحرار العالَم وعُقلاءه لتعريةِ هذا الوباء الحديث، وتحديد المسئول عنه، وعن الدِّماءِ والأشلاءِ التي تُراقُ كل يومٍ على مذابحه وتُقدَّمُ قرابين لأوثانِه وأصنامِه.

على أنَّ المتأمِّل المنصِف في ظاهرة الإسلاموفوبيا لا تُخطئ عيناه هذه التفرقة اللامنطقيَّة، أو هذا الكيلَ بمكيالين بين المُحاكمةِ العالميَّة للإسلام من جانب، وللمسيحيَّةِ واليهوديَّةِ من جانبٍ آخر، رُغم اشتراك الكل في عريضة اتهامٍ واحدة، وقضيةٍ واحدة هي قضيةُ العنف والإرهاب الديني، فبينما مرَّ التطرُّفُ المسيحيِّ واليهوديِّ بردًا وسلامًا على الغرب دون أن تُدنَّسَ صورةُ هذين الدينين الإلهيين؛ إذا بشقيقهما الثالث يُحبَسُ وحده في قفص الاتهام، وتجري إدانتُه وتشويهُ صُورتهِ حتى هذه اللحظة..

نعم! لقد مرَّت بسلام أبشع صور العُنف المسيحي واليهودي في فصلٍ تامٍ بين الدِّين والإرهاب، ومنها على سبيل المثال: اعتداءات مايكل براي بالمتفجرات على مصحَّات الإجهاض، وتفجير تيموثي ماكْفي للمبنى الحكومي بأوكلاهوما، وديفيد كوريش، وما تسبب عن بيانه الديني من أحداثٍ في ولاية تكساس.. دع عنك الصراع الديني في أيرلندا الشمالية، وتورُّط بعض المؤسَّسات الدينية في إبادةِ واغتصاب ما يزيدُ على مئتين وخمسينَ ألفًا من مسلمي ومسلمات البوسنة(1).

الســـادة الحضــور!

ما قصدتُ -عَلِمَ الله!- من هذه المُقدِّمة التي رُبَّما طالت أكثر مِمَّا ينبغي، ما قصدتُ أن أنكأ جراحًا، أو أُذكيَ صِراعًا بين الإنسان وأخيه الإنسان، فما هذه رسالةُ الأديان ولا رسالةُ الأزهر الشريف، ولا رسالةُ الشرق المتسامح، بل ولا رسالةُ الغرب المُتحضِّر المُتعقِّل، ولكن أردتُ أن أقول: إن الإسلاموفوبيا إذا لم تعمَل المؤسَّسات الدينيَّة في الشرق والغرب معًا للتصدي لها، فإنها سوف تُطلِقُ أشرعتها نحو المسيحية واليهودية إنْ عاجلاً أو آجلاً، ويومها لا تنفعُ الحِكمة التي تقول: «أُكِلْتُ يومَ أُكِلَ الثَّورُ الأَبيَض»، فالمُتربِّصُونَ بالأديان، من الملحدين والمعلنين موتَ الإله، والمُروِّجين للفلسفاتِ الماديَّة، والآتين من أقبية النازية والشيوعية، والداعين لإباحة المخدرات، وتدمير الأسرة، وإحلال نظام «الجنس الاجتماعي» بديلًا عنها، وقتل الأجنَّة في بطونِ أمهاتها، والتشجيعَ على الإجهاض، وحقَّ التحول إلى ذكر أو أنثى حسبما يريد المتحول ومتى يشاء، والعاملين على إحلال العولمة محلَّ القوميات، والداعين لها، ولإزالة الفوارق بين الشعوب، بعد القضاء على ثقافاتها، والقفزِ على خصائصِها الحضارية والدينية والتاريخية، وهو للأسف الشديد اليوم نداء ينمو ويتطوَّر مطالبًا بأن يكون ذلك من سلطات الاتحاد الأوروبي.. كل هذه الدعوات وغيرُها كثير، قادِمةٌ بقوة، وتُعلنُ بصراحة أن الدين هو أوَّلُ ما ستكتسحهُ في طريقها، لأنه في نظرهم مصدر الحروب، فالمسيحية ولَّدَت الحروب الصليبية، والإسلامُ ينشر الإرهاب والدماء، ولا حلَّ إلَّا إزالة الدينِ من على وجهِ الأرض.. وهؤلاء يصمتون صمت القبور عن قتلى الحُروب المدنية التي أشعلها الملحدون وغلاةُ العلمانيين، في مطلع القرن الماضي ومنتصفه، ولم يكن للدين فيها ناقةٌ ولا جمل، وإنَّ أيَّ تلميذ في مراحل التعليم الأولى لا يُعييه أن يستعرض عدد قتلى المذاهب الاجتماعية الحديثة ليتأكَّد من «أنَّ التاريخَ لم يَحْصر من ضحايا الأديان منذ أيام الجهالةِ إلى العصر الحاضر عُشر معشار الضحايا الذين ضاعوا بالملايين قتلًا ونفيًا وتعذيبًا في سبيلِ نبوءاتٍ كاذبة لم تثبت منها نبوءةٌ واحدة، بل ثبت بما لا يقبل الشك أنها مستحيلةٌ على التطبيق»(2).

أيها الحفل العلمي الكبير!

أظنكم تتفِقُون معي في أن تبرئة الأديانِ من الإرهاب لم تَعُد تكفي أمام هذه التحدياتِ المتوحشة، وأنَّ خُطوةً أُخرى يجبُ علينا أن نُبادر بها، وهي: النزولُ بمبادئ الأديان وأخلاقياتها إلى هذا الواقع المُضطرب، وأن هذه الخطوة تتطلَّب -من وجهة نظري-تجهيزاتٍ ضَروريةً: أوَّلُها إزالةُ ما بين رؤساء الأديان وعلمائها من بقايا توتراتٍ وتوجساتٍ لم يَعُد لوجودها الآن أيُّ مُبرِّر، فما لم يتحقق السلام بين دُعاته أوَّلًا لا يمكن لهؤلاء الدُّعاةِ أن يمنحوه للناس، وأنَّى لفاقد شيء أن يمنحه لغيره! وهذه الخطوة بدورها لا تتحقَّقُ إلَّا مع التعارُف الذي يستلزم التعاون والتكامُل، وهو مطلبٌ دينيٌّ في المقام الأوَّل، والإسلامُ الذي أعتز بالانتساب إليه، بل الأديانُ كلها تنبهنا إلى ذلك، ينبهنا القرآن مثلًا في آيةٍ يحفظها المسلمون والمسيحيون معًا من كثرة ما تردَّدت على الأسماع في المحافـل: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات:13).

كما ينبهنا الإسلام إلى حقٍّ أصيلٍ فطر الله الإنسان عليه، وهو حق الحرية والتحرُّر من الضغوط، بخاصةٍ: ما يتعلق بحرية الدين والاعتقاد والتمذهب: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256)، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)، "لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية: 22)،" إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ" (الشورى: 48).

وكان من بين البنود التي اشتمل عليها كتاب رسول الله إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، أنه: «مَنْ كَرِهَ الْإِسْلَامَ مِنْ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ عَنْ دِينِهِ»، إلى آخرِ كل هذه النصوص الدينية المُؤسِّسَةِ لحقِّ الحُريَّةِ والتحرُّر.

هذا.. والأزهر حين يدعو إلى نشر مفهوم «المواطنة» بديلًا عن مصطلح «الأقلِّية والأقليات»، فإنما يدعو إلى مبدأ دستوري طبقه نبي الإسلام --على أوَّلِ مجتمع مسلم في التاريخ، وهو دولة المدينة، حين قرَّر المساواةَ بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، ومِن اليهود بكل قبائلهم وطوائفهِم بحسبان الجميع مواطنين متساوين في الحقوقِ والواجبات، وقد حفظَ لنا تراث الإسلام في هذا الموضوع وثيقةً مفصَّلةً في شكلِ دستورٍ لم يعرفه التاريخ لنظام قبل الإسلام.

شُكْــرًا لكم.

والسَّلامُ عليكُم ورَحمـــة الله وبركاته؛

تحريرًا في مشيخة الأزهر:

1 من جمادى الآخرة سـنة 1438

المــــــوافـق: 28 من   فبـــراير ســـنة 2017 م

 

ــ أصل هذه الكلمة  محاضرة ألقيت في مؤتمر الحرية والمواطنة  الأول من جمادى الآخرة 1438 هـ - الموافق 28 فبراير  2017 م

 

1 - الإسلام والأصولية وخيانة الموروث، جماعة من الباحثين المسلمين الغربيين ص 249، 392.

2  - العقَّاد، الشيوعية والإنسانية في شريعةِ الإسلام، ص: 15 «بتصرف».

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

الأكثر اطلاعا خلال شهر

رمضان والبناء الروحي للإنسان المسلم

رمضان والبناء الروحي للإنسان المسلم

 أ.د. محمد عباس عبد الرحمن

مع القرآن في شهر القرآن

مع القرآن في شهر القرآن

 د. محمد محمد صالح

مع شهر رمضان وداعًا للتدخين

مع شهر رمضان وداعًا للتدخين

 أ.د. عادل محمد إبراهيم

الأزهر في مواجهة محاولات الاختراق

الأزهر في مواجهة محاولات الاختراق

 أ. د.محمد عبد الفضيل القوصي

استفتاءات القراء

استفتاءات القراء

 تجيب عنها لجنة الفتوى الرئيسة بالأزهر الشريف

ركن الواعظات

ركن الواعظات

 الإشراف العام أ.د. إلهام محمد شاهين

من مقومات الزواج في الإسلام الكفاءة ( 3 )

من مقومات الزواج في الإسلام الكفاءة ( 3 )

 أ. د. عبد الفتاح العواري

خلق ( المواساة ) في ضوء تعاليم الإسلام

خلق ( المواساة ) في ضوء تعاليم الإسلام

 أ.د. رضا عبد المجيد المتولي

الوحدة في الإسلام

الوحدة في الإسلام

 أ.د. أحمد عمر هاشم

الصيام وسيلة للرقي الروحي

الصيام وسيلة للرقي الروحي

 أ.د. رضا عبد المجيد المتولي

عناية الأزهريين بشهر رمضان وليلة القدر

عناية الأزهريين بشهر رمضان وليلة القدر

 أ.د. محمد عبد الدايم الجندي الجعفري

أثر اللغة العربية في الأحكام الشرعية

أثر اللغة العربية في الأحكام الشرعية

 أ. د. عباس شومان

بهجة البلاغة في آيات الصيام

بهجة البلاغة في آيات الصيام

 د. علي العطار

1234

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2025 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg